الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

مرثية مبكرة.. لموت قديم
ميرغني معتصم

بحسب التاريخ.. واستئناس الكارثة، وبحسب (عم عبدالرحيم) اجتياح الإيمان شرايينه.. وملء يديه عظم حبات السبحة يدوزن اشتعال وجده الروحي.
بزغ فجره، تنهد عبئاً، وأفرغ ما في رئتيه القديمتين...
ملء يديه ما يراه عرجون النخل قبالته، وتجاويف (الأرض.. الأنثى التي يتعين أن تحبل حلالاً...) ملء يديه صمت يستوجب الشكر، وأن ينخرط من وزره، وكظيم زمانه.
أرسل عيناه للنيل، وحزنه إلى أقرب يابسة حين تضّرج الفجر بحفيف النور... وذاك ديدنه.
(عم عبدالرحيم)..
من رمضاء الفقر ونبل الروح.. شفرة حادة وأقدام عارية، وكثير من أشياء مستنبطة خلف اللهاة الجافة. معروق الوجه، خلق كاملاً من لحم ودم وأعاصير، ثم اعتلاه ثلج المشيب، أو هكذا صاغ ملحمة رحيق اللحن.
وتد على الأرض،.. وترانيم قديمة تناولها (طنبور) حزين... أيها (الهجليج) و(العُشر المُر)..
مثقلات جفون الرجل.. والشرق قطعة نار كمجد غابر لا اسم له، أو موت الفرس والفارس دون وعي بقيعان المعركة.
الرأس.. رحم الدّار خصباً.. والحقيقة مرمى حجر لن يناله إلا بالمقايضة والمستتر ليحلم ب(الجنة ذات النعيم.. الجنة ذات القصور).
أحلامه قاصرة على أحزان لم يشيدها أحد، وعد الريح للسفين. أيها (الهجليج والعُشرْ المُر)،.. خلف شريط مفازة شهقت من رمالها،.. من عراها.
الصبح لم يك كريماً ذلك اليوم.. و(عم عبدالرحيم) المعبأ بأحلام خفية لم تتناسل بعد، يعلم أن (الجن تقيم أفراحها في قفار منقطعة، ترزم طبولها في صدور الرجال، فيقتفون أثر الإيقاع مستدرجين إلى جمع من الوهم ورقص من الظلال الشبيهة، فينقطع خبرهم،.. يخمل ذكرهم، ولا يعودون أبداً.)
.. الصبح لم يك كريماً..
ولم يتورّد خد البلح بماء الحياة، إنها حكمة النّخل.
ما يولد في الصمت، له سطوة الفعل، وأسرج (عم عبدالرحيم) راحلته أمام (أم الحسن)، الزوجة التي زادتها القناعة حسناً.
لم تدفعه يوماً إلى حافة العبء، منذ البدء، حتى بداية التداعي،.. لها كنوز الأرض حين يفتّر هو ببسمة نادرة.
روّضها الفقر، فأكسبها طمأنينة خنوعة، تشوبها نكهة المغفرة والعذر إبان نول الحياة. خرجت منها بلا عطر.. بلا نجوم.. ودّعته وأودعته كل حكمة الدعاء.
***
والصّبح لم يك كريماً ذلك اليوم..
أسرج (عم عبدالرحيم) راحلته، ويقفز إلى أُولى عتبات القدر.
راحلته لها من الأسباب ما يسمح لها بالقلق عليه.
أنت الآن، أكثر حضوراً للحياة،
تغتصبك منك.
بيد أن ثمة رفقة لا تُغّيب بفناء الجسد،
ثمة رفقة لا يذهبون...
***
أدار وجهه، (تنبثق الحوريات عن باع
النيل، تستلقي على الشواطئ كموج من رمال،.. تشكل نسقاً خبيراً بالغواية،.. ينساق الرجال إلى قيعان النهر القصية، فينقطع خبرهم،.. يخمل ذكرهم، ولا يعودون أبداً.)
(عم عبدالرحيم)،.. أنت ذريعة الظلال والعرائش الخضر، أسع إليها حين تكون اللغة ضرب من مخالب،.. أسع إليها بلا شائبة، أنت إن وزعت أزرق دمك، لن يقيم أوداً أو يكسي جسداً.
إيقاع حافر الراحلة، إيقاع الزمن حسماً من العمر الأكثر بياضاً من تيجان القطن. أنت الجزيرة والنّهر.. الطريدة والصياد. هذا هو النشيج إذن:
دمك المشع،
و(شيبون) لا يزال هناك...
(البال اشتغل،
البال اشتعل،
الغُبن الشديد..
الضّيق المحل،
والفرج القريب...)
***
إيقاع حافر الراحلة،
الفاصل بين عبء وآخر،.. (عم عبدالرحيم) تلاشى خلف كسور عشرية. الشمس والريح والقمر في عينيه،... ضاع لوناً وحزناً وعجزاً ومسافة،.. شفتان من حكمة لوح (الشرافه).
إيقاع حافر الراحلة
قيل له: تمكن من وطرك، وامتشق فرحاً لتعبر يوماً للسرر الخضراء وسندس النفس،.. امسح نتائج كسرك العشري، وأوقد ناراً في رابعة النّهار، أو أحمل قنديلاً...
(عم عبدالرحيم)،.. حصاة في بركة، صعّر وجهه للذي قال، أو لمن يصرفه...، و(البال اشتعل).
(فتاح يا عليم).. الراحلة حولها غائم..، لغط، هدير قطار، سابلة وراحلة تعست، لا تراحم بينها وبين صخب المكائن،.. أجفلت
وأجفل فؤاد (عم عبدالرحيم).
القاطرة تتلقف جسد الذهن الشارد والراحلة... اصطخب الجسد،.. دمعتان،.. ظهر الراحلة... زيت القاتل يمتزج بدم الضحية، والراحلة على شريط الحديد.
(عم عبدالرحيم)،
رهط من بشر،
(صح في الموت سلام،
ما يغشاك شر..)
***
(عم عبدالرحيم)
صرخة لمخلوق لم يتشكل بعد، لأمكنة غائرة في غيبوبة الصحو، تخومها العشب و(الصفصاف) والارتعاشة عشيقة الماء والخماسين.
أفل كأي موسم، أو نداء لم يتناسل انتظاراً للدهشة، وكتب اليأس في قلب الحاجة والعجز، فكان موته أكثر رهبة من شراك المعنى غير المتكافئ والحلم الشاسع.
(عم عبدالرحيم)،
لمن لا يعرفه، نبت في مخيلة شاعر سوداني.


mirghani333@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved