الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th February,2005 العدد : 93

الأثنين 5 ,محرم 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
مشاهد من يوم القيامة / عبدالرحمن صالح العشماوي
سعد البواردي

تعشمنا من شاعرنا العشماوي كل جديد.. هذه المرة مع يوم القيامة.. مع مشاهدها، وشواهدها.. والقيامة حين تقوم تقوم معها وبها أهوالها.. والسؤال الذي يفرض نفسه قبل.. وبعد.. أي قيامة يعني؟ قيامة ما بعد الموت يوم أن يبعث الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خير يره.. ومن يعمل مثقال ذرة شر يره..؟ إنها قيامة لم تأت بعد علمها عند الله..
هل انها قيامة أخرى نحن البشر نقوم بأدوارها.. الصراعات الدامية المتوحشة أحد وجوهها الكالحة..؟ لننتظر.. ولنرى.!
من مقدمة ديوانه أنهت التساؤلات المطروحة.. فعند جيهنة الخبر اليقين.. أنه يقول بالحرف الواحد:
(كانت هذه الوقفة الشعرية بعد قراءة متأملة لآيات من القرآن الكريم تصور بعض مشاهد يوم القيامة في فجر أحد أيام شهر رمضان المبارك.. نعم.. انه يوم القيامة الذي لا مفر من الوقوف فيه بين يدي الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. يا مسلم سلم..)
عنوان كبير هو كل العناوين لديوانه:
وقفت جميع مشاعري تتأمل
وفمي عن النطق المبين معطل
ما كنت في حلم.. ولا في يقظة
بل كنت بين يديها أتململ
انه يرنو إلى أفق بعيد فما يشهد إلا دخانا تائها يتجول.. وحشود من الأسئلة تجر ذيولها نحوه دون أن يدريها لأن بوابة ذهنه معطلة
كانت يد الذكرى تقلب أحرفي
وخيوط حزني في فؤادي تغزل
في حينها أدركت أن لحسرتي
نارا على أطراف قلبي تشعل
إنها رهبة الموقف.. وجلال الوقفة أمام ذكرى.. بل أمام تذكر يقيني ايماني بأن الصحائف طويت.. وان الحساب أزفت ساعته..
وشعرت إني في القيامة واقف
والناس في ساحاتها قد هرولوا
يسعون كالموج العنيف. عيونهم
مشدوهة.. وعقولهم لا تعقل
لا أحد يتذكر أحدا.. يوم يفر فيه المرء من بنيه.. ومن أمه وأخيه.. هول المساءلة وحدها هي الشاغل.. لا شيء في الكون على حاله:
والكون من حولي ضجيج مرعب
والأرض من حولي امتداد مذهل
قد أفرجت أثقالها، وتهيأت
للحشر، وانكسر الرتاج المُقفل
أما الناس كالفراشات المتقاطرة من كل حدب وصوب.. أما الرواسي الشامخات فقد تلاشت كما لو أنها عهن منفوش.. صعيد واحد على ساحته تسمرت الأقدام في انتظار ميزان المعدل الذي لا يخبس من الحق شيئا.. ولا يظلم.. حتى البهائم تخضع للمساءلة والحساب:
حتى إذا فرغ الحساب.. وأُنصفت
من بعضها نزل القضاء الأمثل
كوني ترابا يا بهائم.. عندها
صاع الطغاة، وبالأماني جلجلوا
لهول ما ينتظرهم من مصير عسير يتمنون لو كانوا بهائم يتحلون إلى تراب بعد أن ينتهي الحساب..
يا ليتنا كنا ترابا مثلها
يا ليتنا عن أصلنا نتحول..
في موقف عصيب كهذا لا تجدي كل مفردات التمني.. ليت.. ولعل.. وعسى واخواتهن إن كان لهن أخوات.. الندم لا يجدي.. والحسرة لا تنفع.
شاعرنا العشماوي بخياله المبكر شخص إلى ما حوله.. النمرود.. قارون. كسرى. قيصر، أبوجهل وهم يتلمسون العودة كي يعملوا عملاً صالحاً.. ولكن..!
هيهات قد طُوي الكتاب.. ألم يكن
فيكم نبي بالهداية مرسل؟!
جبابرة كان لهم صولجان.. وقوة.. عاثوا فساداً.. وقتلوا.. ورموا شرع الله خلف ظهورهم.. عطلوا مبادئه وقيمه.. وعدله استكباراً.. وطغيانا.. هؤلاء مجرد نماذج.. وعناوين لآخرهم لهم نفس البداية. ونفس النهاية.. ونفس الحكاية..
ماذا عن المؤمنين حقا وصدقا.. لا زيفا.. ولا رياء..؟
واليوم يسعد مؤمن بيقينه
واليوم يشقى الفاسد المتحلل
العشماوي جال بطرفه ساعة من يوم ساعة طويل طويل مليئ بالأحداث. والعبر.. فما رأى؟
هذا أب يسعى إليه وليده
وبمقلتيه ترقب وتوسل
ابتاه ارهقني المسير وحاجتي
شيء يسير لا يُمض ويثقل
ترى ما هو ذلك الشيء الذي احتاج اليه؟
شيء من الحسنات ينقذني وقد
خفت موازيني. وفيك أؤمل
أنت الذي عودتني فيما مضى
بذلا، ومثلك في المصائب يبذل
هل في موقف كهذا سيجاب لطلبه؟ أبداً.. الأب مشغول بنفسه انه هو نفسه في حاجة الى موازين ثقال مرجحة ومربحة.. عله يجدها لدى زوجته:
وغدا يناديها.. رويدك زوجتي
فأنا الحبيب. وليس مثلك يجهل
يحاول في استجدائه لها تذكيرها بأيام الصبا.. أيام كانا ينهلان من كأس الحب.. وجعل من فؤاده سكنا لها تركن إليه..:
شيء من الحسنات ينقذني وقد
خفت موازيني، وفيك أؤمل
نفس العبارة لا تتغير.. قالها الابن لأبيه.. وكررها الزوج لزوجته.. لا شيء سواها.. بماذا أجابت الزوجة؟!
قالت له والهم يشغل قلبها
لهبا.. وفي أحشائها يتغلغل:
عذراً، فأنت رفيق عمري. إنما
نفسي أحق بما تقول وأمثل!
جملة لا تتغير انتهت الى خيبة زوج من شريكة حياته.. أمه هذه المرة الملاذ الأخير.. أليست هي التي ولدته.. واحتضنته وسهرت من أجل أن ينام.. وجاعت من أجل أن يشبع. وظمئت من أجل أن يروى.. ومرضت من أجل أن يشفى.
أمي الرؤوم.. وراح يركض نحوها
جذلا.. وهل بعد الأمومة موئل؟
أماه. يا أماه! مدي لي يداً..
فلكم بذلت إذا أتيتك أسأل..
شيء من الحسنات ينقذني فقد
خفت موازيني. وفيك أؤمل
نفس السؤال. ونفس الاجابة.. رغبة.. واعتذار.. ماذا عن المشاهد الأخرى التي استعرضها شاعرنا العشماوي على شاشة خياله؟!
المُرابون الذين أكلوا أموال الناس بالجشع.. خونة العهود.. مغتصبو الحقوق.. المختالون.. أبولهب وزوجته وهم يقادون إلى الجحيم ليلقوا جزاءهم.. وعلى الجانب الآخر.. ناصية اليمين لاح لعيني شاعرنا روض. ونور.. وأزهار. وغرف بطائنها من حرير واستبرق.. أرضها مسك.. تتهادى فيها حور عين.. سحناتهن كالشمس.. وعلى مقربة منهن تنساب أنهار العسل.. وخمر لذة للشاربين.. أما البناء فمن فضة موشحة بالذهب.. إنها المنزل لمن قدم في دنياه عملا صالحا لا لغو فيه ولا تأثيم..
ورأيت فيها الساكنين ربوعها
مستبشرين بما رأوه وحصلوا
وعلى الأرائك يجلسون.. حديثهم
عذب. ولا هم لديهم يشغل
الصور في مرآة العشماوي متلاحقة.. هذه المرة صورة لا ككل الصور لنقائها، وطهرها.. وجمالها:
وجه الرسول يشع نوراً صادقا
قد جاء في حلل السعادة يرفل
ومن حول الرسول شاهد أصحابه كل منهم يأخذ نزله.. ومؤمني آل فرعون الذين نبذوا من حياتهم الانقياد الأعمى للظلم والاستبداد والاستعباد.
أبصر النور الإلهي وقد تجلى لخلقه وقد ركعوا قانتين ساجدين لعظمة الله جل شأنه:
سجدوا، وأما المبطلون فحاولوا
أن يسجدوا، لكنهم لم يفعلوا
صحا شاعرنا من حلمه.. شعر أن الأذهان متجهة إلى يوم الميعاد.. وأن مظاهر الدنيا التي يهواها البشر مظاهر كذابة خادعة.. وأن الله يمهل ولا يهمل.. تراءت أمام خواطره ومشاعره روضة الايمان شذية ندية:
هي روضة الايمان يجري نهرها
عذبا.. ويشدو في رباها البلبل
يا روضة الايمان وجهك بالندى
والنور، والأمل المغرد يغسل..
انتهى حلمه.. وطوى مشاهده ليوم القيامة.. وفتح عينيه ليبصر واقع الشباب الاسلامي وما هو عليه من وهن.. وهوان:
يا من تصيدون في مستنقع عكر
حاشاي لست بمشاء الى الريب
إني أقول لكم. والصمت خارطة
فيها مدائن من شوقي ومن أربي
السعي فيها إلى الاصلاح عاصمة
سليمة من دواعي الخوف والسغب
لا تحسبوا إنني المغيث ذكراتي
أو إنني غافل عما يدور.. غبي
ولكن.. أي شباب يعني بخطابه؟
يا اخوتي يا شباب الحق همتكم
تسمو بكم عن دروب الطيش والصخب
أقول: لا تفتحوا باب العقول لمن
يدعو إلى اللهو والتهريج واللعب
لا يجرمنكم شنآن من فسقوا
على سلوك طريق العنف والسغب
إنه بخطابه يدعو إلى ثقافة العدل.. والعقل.. والأصل:
قولوا لمن هجروا أفكار أمتهم
وعلمنوا فكرهم في ساحة الأدب
قولوا لهم: كشفت أحداثنا طرفا
مما لديكم. وألقت زائف الحجب
قولوا لمن يُعلن البنيان مدعيا
هلا بنيت زوايا بيتك الخرب؟
وبأمل لا يخلو من ألم ترتفع نبرات حلمه في أن عالمنا ليس كله شر.. ان فيه الخير أيضا:
ما زال في الأرض ميدان ومتسع
للخير.. يدركه من جد في الطلب
ولم تزل نخلة الاسلام باسقة
مليئة بعذوق التمر والرطب..
في ديننا روح سلم لو أقيم لها
صرح لما بلغتها نظرة السحب..
ثم تأتي صرخته على لسان ثائر عربي.. تأتي مجلجلة تتداعى لها جنبات حديقة الهايد بارك في عاصمة الضباب.. لندن:
كل قومي عن النضال نيام
وأنا وحدي الشجاع الهمام
أنا وحدي الذي يتخطى
جبل الصمت.. وحدي المقدام
هكذا يصف الثائر نفسه في جو مسكون بالسبات.. والغفلة.. ان يرى نفسه وحيداً في معركة تتطلب التكتل لا التشرذم: كل من حوله نيام غُفل انه يرسمهم ريشته في توصيف جاد وحاد كما لو أنه أحدهم..
رسم الشنفرى دروب انطلاقي
وبأمثاله يعز المقام..
في عيون الحلاج قرأ نفسه.. فؤاده مستهام بفكره.. ليسهر الليل ومن حوله أقداحه.. عيون شاردة:
إن سألتم عني مساء فإني
قابع حيث تعرض الأفلام
حيث تأتي راشيل تمسح رأسي
بيديها.. وحيث يحلو الكلام
اتناسى جراح قلبي حينا..
وبقلبي.. من ثورتي الغام..
هكذا بدت صورة القوم لديه مظهرها جميل.. أما مخبرها فعليل عليل سلاحها الشعارات التي لا تقدم ولا تؤخر.. هكذا يقول على لسانهم:
أنا وحدي تقدمي.. وغيري
جامد تستذله الأوهام
أنا وحدي تقدمي! وغيري
شغلتهم صلاتهم والقيام..
ويلتفت الثائر الى جرحه النازف الذي يوجعه.. وإلى مصيره الذي يفجعه.. فما يرى إلا قصة راشيل.. والليل.. والأقداح.. وأصوات مبحوحة يبتلعها الظلام دون صدى.. هكذا هو وحده يتكلم.. ويتألم.. ويفرغ كل ما في دواخله من شحن جديد.. دعوة إلى اليقظة.. انه لا يمل رغم بؤسه:
اطلقوا رمل الصحارى شهبا
واجعلوها للأعادي لهبا
أوقدوا النار على أعدائكم
واجعلوهم للظاها الحطبا
أنتم الليل على منعطف
من مشى فيه بوعي كسبا
اشكاليتنا يا شاعرنا ركود الوعي.. إن لم يكن تغييبه.. وأطباق العينين كي لا ترى الظلام وأشباحه الآدمية المتراقصة.. وثعابينه السامة:
هذه الأحداث قد أبدت لنا
يا بني أوطاننا ما حجبا
كشفت حجر الثعابين لنا
فرأينا رأسها والذنبا
يريد أن يقول لنا ما قاله شاعر قبله:
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا
الأفعى بفحيحها تجول وتصول حول الدار وداخل الدار مسنودة بأفاعي أكبر وأكثر سما.. تحاول نهش البقية الباقية ما دام القوم نيام.. والعيون مطبقة.. وبخطاب شعري يلمح فيه ولا يصرخ يكشف لنا هوية الأفعى ومن يقفون خلفها:
كم فتحنا صفحة مشرقة
لعدو نال منا الأربا
وظنناه صديقا صادقا
ونفينا عن هواه الكذبا
ومددنا بسطة الحب له
وجبرنا كسره المتشعبا
ونصبنا خيمة الود له
ورفعنا وشددنا الطنبا
وحلفنا إنه ذو مبدأ
ومنحناه المجال الأرحبا
ماذا بعد كل هذا؟!
ثم لما كشف الله لنا
أمره طرنا وثرنا غضبا
فإذا ما نال منا قصده
رسم الغدر لنا وانقلبا
الشواهد يا شاعرنا تؤكد ما قلت.. وتؤكد صدق المقولة: لا صداقات دائمة.. ولا عداوات دائمة.. وإنما مصالح دائمة.. عالم الكبار مصلحي لا أخلاقي لأنهم فراعنة اليوم.. وجبابرة اليوم الذين يصنعون أسلحة دمارهم لتدمير المستضعفين المعذبين في الأرض.. يستحلونها من أجل عدوانهم.. ويحرمونها على غيرهم من أجل الدفاع عن أنفسهم..
في مشاهدك عن يوم القيامة تحدثت عن فرعون موسى وهارون.. ولم تتحدث عن فرعون موشي. وإيلي. وجدعون وكوهين وكبيرهم الذي علمهم السحر.
لم تقل لنا وأنت الشاعر المتمكن بأدوات شعره كيف رأيت هؤلاء الى جانب طواغيت الماضي وهم يحاكمون.. ويحاسبون.. ويُزفون إلى مصيرهم المظلم.. ليت أنك أكملت اللوحة.. إذاً لجاءت مشاهدك ليوم القيامة خير شاهد على نهاية كل حاقد..
ومع هذا.. اشعر إنني قرأت خيالا خصبا يموج بالصور.. وجماليات السرد.. ومفردات موفقة في توظيفها.. وشحنة من الحب والغيرة.. والخوف.. والأمل.. من أجل غد أفضل لأمتنا العربية والاسلامية.. ولعالمنا أجمع.


الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved