الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th March,2005 العدد : 97

الأثنين 4 ,صفر 1426

البناء داخل جدران قديمة
قراءة لمجموعة عبدالله الناصر القصصية (سيرة نعل) (3 4)
*عبدالله الماجد

... وتستمر هذه الحكاية على هذا النحو من استثمار الأخيلة الأسطورية التي تأخذ بلباب المستمع للحكاية، وبعد عرض تاريخ حمار الضيف الضعيف، وكيف اشتراه، تصور القصة (الحكاية) بعد ذلك العراك الذي حدث بين الحمارين، وتميل الحكاية إلى ما هو متوقع (رغم ضخامة الحمار الآخر) إنه سحر الأسطورة وبنائها فيتغلب الحمار الضئيل على هذا الحمار الضخم (المغتر بنفسه) ويقول صاحبه:
(هل تعتقدون، أن كل حمار قوي ضخم، حمار أصيل، وأن كل حمار ضئيل حمار رديء؟ أبداً انهم مثل بني البشر، فلا تغرنكم المظاهر وانظروا إلى جواهر الأشياء).
إننا هنا بإزاء (حكاء) وراوٍ من رواة الحكايات الشعبية، بل مبتدع لحكايات من الطراز الذي يحفظه الناس، تلك المسامرات الشعبية التي تملأ فراغ الليالي في القرى، فتزين المجالس، وتحيطها بشيء من الدفء الإنساني، راوٍ أو حكاء يسيطر على الجالسين فينجح في خلق التآلف بينهم عن طريق الانصات الذي خُلق من عجائب ما يرويه.
هذه القصة تنقل الموضة عبر المعادل الأسطوري للحكاية الشعبية، إلى الموضوعي الواقعي. الأسطورة هنا تحاكي الواقع ولا تشذ عما يمكن أن يحدث فيه، وإذا ما تم تفسير وفك مغاليق الأسطورة (الحكاية) أصبح من السهل فهم الواقع. إننا لو أمعنّا النظر في مجتمعاتنا، لشاهدنا أمثال هذا (الرفرف)، إن الكاتب هنا يفضح عيوب هذا (الورم) الاجتماعي والسياسي الذي يسيطر على حياتنا. لقد كان هذا (التورّم) عيباً فيما مضى، أما الآن فهو سمة من سمات الوجاهة الزائفة. إن مصطلح كلمة (رفرف) في اللهجة العامية النجدية له معانٍ متنامية تدل على (الهامشية) والضعف، وما يمكن الاستغناء عنه، والرفرف في صيغة الفعل العامي هو ذلك الذي يبذل جهداً مستمراً مبالغاً فيه ثم يخبو.
ويذكرني حمار (عبدالله الناصر) هذا بحمار (حمزة شحاتة) أحد الرواد في أدبنا المعاصر، لقد كان حمار حمزة شحاته نحيفاً ضئيلاً، لكنه كان معانداً، يوجهه ناحية (اليمين) فيتجه ناحية (اليسار) وهكذا يبث حمزة شحاتة أفكاره في تصرفات حماره. كان استلهام حمزة شحاتة لفكرة الحمار، سابقاً لتوجه (توفيق الحكيم) نحو هذه الفكرة. وكذلك (قمبيز) الأسباني.
من أمتع القصص في هذه المجموعة قصة بعنوان (القطة) ربام تكون أقرب إلى قصة (قرية القرقر) من حيث الموضوع والحبكة الفنية. وأعترف بأنني لم أقرأ قصة بمثل هذا الإمتاع الذي تركته هذه القصة في نفسي، على شدة تركيزها، وإيجازها. لقد كانت عبارة عن شحنة كهربائية تهزك وتصيبك بالرعشة دون أن تفقدك الوعي، إنها تشبه لسعة النحل التي تمنحك هذا الألم، ثم بعد ذلك تمنحك طاقة حيوية، يتصاعد فيها الحدث نمواً سحرياً، ثم يتفجر، على نحو يذكرنا بانتفاء العقل الذي يقلب الأمور الواقعية رأساً على عقب في مسرحية (في انتظار جودو) لصموئيل بيكت ويشعرنا بعبثية الواقع، حينما يتم انتظار (جودو) الموعود، وحينما يأتي فإنه يأتي بلا رأس!
إن سيدة القصر في هذه القصة تدلل قطتها وتمنحها كل صفات الرعاية التي تُمنح لها من خدمها، وفي أحد الأيام تعشق القطة قطاً عابراً فيتلاطف الاثنان، وبعد ذلك يفر القط إلى الشارع فتبكي القطة العاشقة ويظهر الحزن عليها وعلى سيدها. وأحضروا لها قططاً مشابهة لكنها لا ترضى بديلاً عن حبيبها الذي فرّ وتركها، وظهر الهزال على القطة، ثم إنها خرجت ذات يوم قاطعة الطريق، وتوقفت في منتصفه، فأوقف العسكري المرور في الشارع مما سبب إرباكاً في حركة السير فتضايق الناس، أما سيدتها فقد كانت مسرورة لانبساط قطتها، لكن المفاجأة غير المتوقعة، أن نسراً كان يُحوّم في الفضاء، هوى بمخالبه فالتقط القطة وحلق بها في السماء فتخرج السيدة مذعورة وتستنجد، لكن النسر كان قد اختفى في كبد السماء، فتظهر نقطة سوداء تهوي إلى الأرض، لقد أصبحت القطة أمام عيني سيدتها كتلة من الدم.
(اغترفت السيدة كتل الدم واللحم من الطريق وصارت تلطخ به وجوه الناس وهي تصيح في هستريا وانفعال: قتلتم قطتي قتلتم...). ص 115 .
لكن المفاجأة التي كانت بمثابة تفجير الحدث تحدث، حينما يقبض الضابط على رجل فقير في يده كيس بداخله قط! ويسأل: هل هو الذي تبحثون عنه، فتجيب السيدة: هذا هو القط، اقتلوا الرجل إنه الذي تسبب في قتل قطتي. ويمعن الكاتب في تفجير الحدث الذي يتحول إلى ما يشه (الكوميديا السوداء) أو اللامعقول، أو سحرية الواقعية أو سحر الواقع، فيقول على لسان هذا الفقير: (هذا ليس قطك الذي تبحثين عنه يا مولاتي.. هذا أسدّ!! فصاحت باستنكار: أهذا أسد يا ابن الكلب؟. قال: أقسم يا مولاتي أنه أسد، ولكن في هذه المدينة تتحول الأسود إلى قطط) قصة القطة ص115 .
لقد اكتفيت حينما أنهيت قراءة هذه القصة وعند هذه النهاية المؤثرة، بأن كتبت على نهايتها كلمة واحدة هي: (رائع) إذ لا يمكن أن أفسد هذا العمل الفني الراقي بالتشريح، وإلا كنت مثل من يُشرّح فراشة بسكين البصل، على حد تعبير شيخ النقاد في عصره (محمد مندور) إنني أدعو القارئ أن يقرأ هذه القطعة الفنية ويستنتج منها ما يريده ويحاول أن يفسر لماذا تتحول الأسود إلى قطط في هذه المدينة ؟!
ومن القصص التي تميل إلى الأسطورة الميتافيزيقية، قصة بعنوان (جنه) تبدأ أحداث القصة في هذه الأجواء الأسطورية المبهمة، شاب يبحث عن عمل وكاد أن يتوه في غمار المدينة، ثم إنه رأى صبياً يحاول جرّ خشبة صخمة فيهبّ لمساعدته، حتى وصل إلى باب ضخم، يفتح فتطل منه فتاة (باهرة الحسن ساحرة الجمال) ودخل بالخشبة ثم ينغلق الباب خلفه. أما الصبي والفتاة فيصعدا إلى أعلى، وظل هو متحيراً لا يدري ماذا يفعل، وحينما اتجه إلى ساحة البيت وجد أبواباً متشابهة ورغم ما به من حيرة، فتح أحد الأبواب الذي أفضى إلى غرفة فاخرة، وحينما دخلها انغلق الباب خلفه، فازداد وجلاً، وحينما حاول الخروج لم يستطع حتى رأى منفذاً صغيراً نفذ منه بصعوبة، فأفضى به إلى (بستان رائع به جميع الأشجار والفواكه) محاط بسور عملاق وفي البستان نهر رائق يشف عما فيه، لكن الذي أذهله، أنه رأي بشراً غرباء جميعهم طاعنون في السن، يسيطر عليهم سيماء الحزن والعجز، يتناثرون تحت الأشجار وعلى ضفاف النهر وقد أدهشهم وفاجأهم وجوده بينهم، وظل واقفاً متحيراً يسيطر عليه الخوف، وما يدري ماذا يفعل، فالثُقب الذي نفذ منه إلى هنا اختفى والسور طويل لا يستطيع تسلقه. وبعد برهة يدنو إلى مجموعة من هؤلاء البشر ويحكي لأحدهم قصته الذي ضحك قبل أن يقول له: (مرحباً بك، ولكن ليتك لم تفعل ذلك كله، فأنت لن تخرج من هذا البستان حياً أو ميتاً!!). ولم تجد استغاثته وصراخه في تغيير الحال، وحينما يُذعن لهذا الواقع المرّ، فيشارك هؤلاء البشر الكهول حياتهم، لكنه يسأل أحدهم: (لماذا أنتم هنا. وكلكم شيوخ وليس فيكم شبان؟!) فأجابه: (من دخل هذا البستان فإنه لا يخرج منه. يأكل من جميع ثمراته ويشرب من نهره ويستظل بشجره ولكن الخروج محرم عليه بسبب هذا السور الضخم اللّعين. وقد دخلنا في هذا البستان شباناً مثلك يقودنا الجهل والطمع وظللنا به كما ترى، ومن مات منا دفناه في تلك الناحية، وتلك القبور القائمة هي قبور بعض أصحابنا الذين جاءوا إلى هذا المكان قبلنا أو معنا. ومنذ عشرات السنين لم يدخل هذا المكان أحد. ربما لأن شيئاً من الريبة والحذر دبّ في قلوب أهل المدينة فأصبحوا يتحاشون الاقتراب من هذه الناحية. أما أنت فقد وقعت). (قصة جنه ص 117).
وتنتهي هذه الحادثة (الأسطورة) بأن يستلقي هذا الشاب تحت ظل شجرة، مُستسلماً مرغماً على العيش في هذا الظل الظليل يراقب الطيور ويحسدها لأن لها أجنحة. وقد كنت أتمنى أن تقف الأحداث عند هذا الحد لأن ذلك يجعلنا كمتلقين لأحداث هذه الأسطورة الميتافيزيقية، نخترع لها مقاصد ومعاني ونفسرها وفقاً لرموزها وإيماءاتها، ووفقاً لأصداء وقوعها في مخيلاتنا، وهذه إحدى صفات الحدث المتنامي في الفن، قصةً أو شعراً أو لوحةً تشكيليةً وموسيقى.
وعلى ضوء هذا المنحى الميتافيزيقي الفلسفي فإن عنوان القصة (جنه) يُلقي في ذهن المتلقي الناقد هذا المعنى، كما أن أحداثها حتى قبيل نهايتها تؤكد ذلك فتجعل لها معاني متشعبة في هذا المعنى، أكثر من تلك الإضافة التي أضافها الكاتب في نهايتها بأن جعل بطله يتذكر حديث والده الدائم عن (معتقل الوظيفة)!! الحادثة كما توحي أكبر في سجن الوظيفة وأسمى فنياً، إن الجنة هنا هي الحياة كما يتخيلها الإنسان، يدخلها رغماً عنه. إن صرخة الوليد ساعة الميلاد، تعدل صرخة ساعة الممات على حد تعبير رهين المحبسين (أبو العلاء المعري) والشائع في حياة البشر أن صرخة المولود، تسعفها مباشرة (زغرودة الفرح بالميلاد) لكن الأجل المحتم ينتظر تلك الصرخة التي أشار إليها أبو العلاء حكيم المعرّة. هكذا يحلو لي أن أفسر أحداث هذه القصة، دون الالتفات إلى جملتها الأخيرة، فهل تعمد الكاتب أن يظللنا؟!. إن وعي الإنسان بالحياة وهو شاب تتزخرف في وعيه (جنه) يطفق في أرجائها، لكنه يعود كالعرجون القديم شيخاً هرماً وأمام ناظريه (تلك القبور القائمة، هي قبور أصحابنا الذين جاءوا إلى هذا المكان قبلنا أو معنا). (ص107).
في أولى قصص هذه المجموعة (إشارة مرور) سيدة وزوجها قفزا إلى صدارة الوجاهة الاجتماعية، وشيء من الثراء المادي. يتركز نظرها على لوحة معلقة على الحائط، تعبر عن نخلة بعذوقها الحمراء، وكأنها تراها لأول مرة، فيذكرها هذا المنظر بطفولتها، لقد تفجر نهر الذكريات فهزها الوجد إلى أيامها الأولى. وفي الطريق وهما يستقلان السيارة. وأمام إشارة المرور الحمراء، حينما توقفت السيارة، يندفع نحوها طفل حافي القدمين يحمل في يجيه علب مناديل (وهو أسلوب من الشحاذة دخل مدينتها الغنية. تمنت من أعماقها أن تُدخل الطفل ذا العينين الجميلتين والوجه الشاحب الأصفر في سيارتها وتقيه حر السموم، بل تمنت أن تحتضنه إلى صدرها وتقيه شر التشرد والعوز، وأرادت ان تفعل شيئاً إلا أن السيارة انطلقت، وهطلت دموع غزيرة من عينها) (ص11) وعلى النقيض منها كان زوجها يزدري هذا الطفل، دونما علمه بما يجول بخاطر زوجته بل إنه قال: (لو كان لي من الأمر شيء لضربت هؤلاء الشحاذين، ضرب الكلاب، ولقذفت بهؤلاء القنافذ خارج المدينة. هؤلاء الجرذان سوف يُثرون بهذه الطريقة غير الحضارية) (ص11). وفي طريق العودة، تتدخل الإشارة الحمراء مرة أخرى حينما توقفت السيارة هذه المرة، لمحت الطفل الصغير نفسه (مستنداً جسده المرهق إلى جذع نخلة الشارع، صعّدت بصرها إلى العذوق الحمراء) في هذه اللحظة تفجرت نافورة الذكريات وأحلام الأمس وأطيافه الحالمة السعيدة تذكرت تلك الطفلة، وذلك البيت الطيني (وفجأة وبلا شعور فتحت باب السيارة وقفزت إلى الطفل ذي العينين الحلوتين والوجه الشاحب الضعيف واحتضنته في صدرها بعد أن بللت وجهه المغبر بالدموع) (ص12).
النخلة دائماً هي التجسيد الأمثل للأصالة، الأصالة التي بدأت تتبحثر وتضيع في حياة المجتمع، نتيجة لهجمة عصر الثراء والترف. وأخطر الأمور أن يكون الغنى عدواً للفقر.
على الرغم من بساطة الحدث في هذه القصة، إلا أنها تقرع أجراس الخطر الذي ينذر بتحول في بنية المجتمع، واتساع الهوة بين أفراد المجتمع، وبروز نماذج انقطع حبل التواصل بين ماضيها وحاضرها.
وتذكرنا هذه القصة على نحو ما بقصص أخرى في هذه المجموعة منها: (فخاخ العصافير) التي تسخر من تزييف الإبداع والمشاعر الصادقة التي تقام لها المهرجانات. والعصافير هنا رمز الصدق وصوت الشاعر غير المزيف، وتعبر هذه القصة عن محاولة لصنع الفخاح لاصطياد العصافير، في هذا الحوار المكثف بالإيحاء والدلالة، يقول (صابر عبدالصبور) لصديقه (فرحان) عبر الهاتف وللأسماء هنا دلالتها : (أنا أكلمك من المرج الأعلى من جبال الشمس، لديّ في المرج شجر وحجارة وعصافير وأشعة ربيعية). وكل هذه المفردات الموحية دلالات على خصائص الإبداع الفني الصادق أما (فرحان) فهو في القاعة السفلى من المهرجان، حيث ضجيج الآلات والألوان والكلمات، وكلها أشياء تساهم في تزييف الواقع.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved