الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th March,2005 العدد : 97

الأثنين 4 ,صفر 1426

الكاتب وارتباطه بالكتابة

* عبدالعزيز بن عبدالله السالم
الكاتب في واقعه مرتبط بفكره وقلمه، فالفكر يمده بالعطاء الذي يصدر عنه، والقلم يعبر عن هذا الفكر الذي يمثله، وهو يتحمل ما يمليه عليه الفكر وما يخطّه القلم، وهذا وضع معلوم بداهة عن تحديد مسؤوليته وطبيعة مهمته، ولكن قد يرِدُ هنا تساؤل: كيف وأنى يتسنى له أن يكتب ما يريد التعبير عنه من منطلق عيشه في الحياة ومعايشته للاضطرابات وما قد يستفزه من أحداث، وما يحدده من دوافع للكتابة، وما قد يترتب عليها من مساءلة، بحسب طبيعة الأجواء المفتوحة أو المغلقة في بعض البلدان ولدى بعض الأنظمة؟.. ومن هذا المنظور قد تُواجه الكاتب حالات يستعصي عليه القلم فلا يخط حرفاً ولا يكتب كلمة، ويعانده الفكر فلا ينجلي عن فكرة معينة، ولا ينفرج عن خاطره موحية: ذلك أنه ينظر إلى الساحة التي يمكن أن يشغلها من حيز الصحيفة ويراجع نفسه هل بإمكانه نشر ما يكتب أو أن الرقيب سوف يحذف أكثر ما كتب وقد يلغي كل ما كتب، ونتيجة لهذا الموقف يتكون لديه ردّ فعل يدفعه للعزوف عن الكتابة مطلقاً.
***
وفي مثل هذه المواقف يبدو الكاتب حائراً عازفاً عن التفكير، فيخلد إلى الراحة ويستطيب مع امتداد الأيام حالة الاسترخاء، وقد تطول هذه المدة التي لا يزاول فيها الكتابة، وحينما يستجيب لإلحاح العودة إلى مسيرته الثقافية وكتاباته الفكرية، يجد نفسه أمام ما يشبه المستحيل فكأنما تأكسد ذهنه وتجمد الحرف على قلمه، وكأنما جف النبع الذهني أو تبخرت الأفكار المتدفقة، أو تبلد الطبع الأصيل مع طول التوقف، فران عليه ضباب الخمول أو جمود المشاعر! وعندما يعود محاولاً الكتابة كما كان يتعذر عليه انسياب القلم وانطلاق الفكر فيستجدي ذهنه، يستلهمه إمداده بالمادة التي يكتبها فيفاجأ بانغلاقه وعدم تجاوبه، وعندئذ لا يجد مناصاً من الانقطاع عن الكتابة لأنها لا تعتمد على مداد القلم وحده وإنما تستمد عطاءها من الفكر الذي عليه المعول، وهو الذي يفد الذهن بالفكرة ويمده بفيض العطاء.
ولذا يظل الكاتب رهن حالة جمود، وسجين موقف محرج لا يكاد يستطيع أن يكتب عبارة يرضى عنها، ولكن هذه الحالة إذا حدثت لا تطول في الغالب فسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها والأفكار إلى مسارها، وينجلي الموقف بعد برهة من الوقت من معاودة الذهن لاستجماع الأفكار التي يستوحيها الكاتب مما حوله ومما يشاهد أو يقرأ، فيعود إلى مساره السابق ويستأنف مهمته أو مهنته وهي الكتابة.
***
والمرء بحسب ما ألِف واعتاد في ممارسة أنواع النشاط في هذه الحياة، فهو مستطيع للتكيف مع الأحداث ومسايرة الظروف وبإمكانه العودة إلى مزاولة ما سبق أن تخلى عنه أو تهاون به أو انشغل عنه أو انقطع عن الاستمرار فيه، وربما تكون عودته إلى سالف عهده محفوفة بالنجاح مؤطرة بالتوفيق، حيث تكون المدة التي تخلى فيها عن المتابعة الفكرية موضع استجمام ذهني واستعداد فكري واستيعاب ثقافي، وهذه العوامل لها انعكاس كبير ومردود جيد لاستعادة مواصلة الكتابة ووصل ما انقطع منها ومتابعة المسيرة.
***
وحينما تستدعي القلم لتسجيل فكرة طارئة أو خاطرة وافدة، فإنك تجد الأفكار تتزاحم في ذهنك وتنطلق الخواطر من رأسك فلا تدري بأيها تبدأ ولا بأيها تنتهي، ويبدو لك أن من اليسير عليك تسلسلها في كتابة تقيدها لئلا تفرّ من ذهنك وتتفلّت من خاطرك فلا تعود إليك، ذلك أن الفكرة تلوح في الذهن كما يلوح البرق في السحاب، فإن انهمرت الأمطار فذلك انهمار الأفكار، فعليك تسجيلها قبل انقطاعها منهمرة في تدفقها كما تبدو في وميضها المتألق، فإن فعلت ذلك وهي في سخائها فقد كسبتها وأفدت منها، وإن تراخيت في التجاوب معها وتهاونت في تدوينها ولم تسارع إلى كتابتها، فإنها سرعان ما تتلاشى من ذهنك وتتبخر من ذاكرتك وتذوب كما يذوب الثلج تحت وهج الشمس.
فبادر بكتابة الخواطر المحتشدة أمامك من خلال أول فكرة أشرقت في ذهنك وتبلورت في فكرك وتدفقت من نبع الصفاء الذهني الذي كانت تلوح إشراقته وتتجدّد إمداداته في مخيلتك، وتحتشد بشائره لديك ويكاد يعطي ثماره بين يديك، قبل أن ينطفئ وهجه ويخفت نوره ويختفي ضوؤه، وحينئذ يصعب تلافي ما حدث واستدراك ما انتهى واللحاق بما فات، فتضطر لمعالجة موضوع فرضته الظروف عليك دون استجابة تلقائية مع طبيعته، أو تجاوب نفسي مع تداعياته، عندما تكون قد جفت منابع مصادره وتوقفت سحائب عطائه وأنت لم تنتهزها في موكب الإلهام وتواكب فيضها حين العطاء السخي المدرار.
***
وإزاء ذلك الإهمال أو التراخي في التجاوب مع النفحات الفكرية الملهمة فإنك ستواجه نوعاً من المعاناة لانطلاق أفكارك وتجاوب أحاسيسك، ولذا فإن من المهم أن يجيء عطاؤك في ظل واحة خصبة من فيض العطاء منسجماً مع العفوية والتلقائية دون تكلف يفقدك تجاوب القارئ أو شطط يحرمك متابعة المتلقي، ولا يعني ذلك عدم استحضار الذهن الواعي حين صياغة الموضوع المطروق أو التعبير عن الحدث المقصود، وإنما المطلوب يتمثل في تشكل الموقف المناسب في ظل واحة العطاء الفكري، وأنت تعيش حالة إلهام غامر تكتب ما يمليه عليك هذا الإلهام الذي لا بد أن ترفده موهبة أصيلة وثقافة واسعة وملكة مواتية، وهذه الوسائل المهمة هي التي تعين على وفرة العطاء وتدفع إلى المزيد منه، وتعيد الكاتب إلى الساحة الفكرية من جديد لمواصلة مشواره ومداومة كتاباته.
***
والكاتب الأصيل هو ذلك الموهوب الذي يصدر عن موهبة راسخة تسندها ثقافة عميقة وإدراك جيد، وهو فيما يكتب وفيما يتوخاه من موضوعات يستهدف تحقيق الغاية المنشودة من الكتابة بالصدق في العطاء والإخلاص في التوجه والإبداع فيما يتناوله من موضوعات، بحيث يكون للكتابة مبرر وللموضوع هدف.
أما من اتخذ الكتابة مجالاً للارتزاق ووسيلة للعيش وهدفاً للابتزاز، أو كان يكتب ليبرز اسمه في المجتمع فإنه إن استطاع إيصال المعلومة إلى أنظار القراء، فإنه غير مستطيع نقل الفكرة الصحيحة والمشاعر الصادقة إلى أذهانهم، لأنه يكتب لهدف غير مخلص فيه، وبذلك يحيا على هامش الحياة الواقعية بحكم أنه مدلس في سلوكه وعلاقاته بالقراء، وربما يكون بذاته فريسة لأفكار منحرفة ومنقاداً إلى أهواء ضالة، وهذا اللون من السلوك إذا حدث فإنه يشكل في حقيقته هزيمة فكرية للمعتدلين من الكتاب وغضاضة لأصحاب المبادئ، ويترك المجال مفتوحاً أمام المستغلين من أصحاب النفوس المشبعة بالأنانية الذين لا يرون في الوجود سوى مصالحهم المادية، ولا يضعون أدنى اهتمام للقيم السلوكية والمثاليات الرفيعة، وبذلك تتسع آفاق الأنانية وتضيق آفاق المثالية، ونتيجة لذلك تصعب مواجهة الموجات المنحرفة وصدّ التيارات الهوجاء، وحيال هذه الصورة القاتمة يبقى الميدان خالياً أمام أصحاب الأفكار المشبوهة والتصورات المغلوطة، مما يمثل نكسة للفكر وتخلياً عن المبادئ التي تستوجب المحافظة عليها.
ولذا فإنه ينبغي تحجيم دور المنطلقات الشاطحة والآراء الجامحة، والعمل على محاصرة منطلقاتها وتجفيف منابعها، ولا يتأتى ذلك إلا بمحاربة الفكر بفكر مماثل، ودحر الشبهات والأباطيل بحوار مكافئ، وهذه مهمة الكتّاب الواعين والنفوس الحرة والأفهام السليمة، وينبغي ألا يتخلى أي كاتب عن دوره الذي يمكنه تأديته بحسب علمه وثقافته وقدراته الفكرية ويقظته الذهنية، ولعلنا بتفعيل الطاقات واستثمار القدرات نواجه العقبات القائمة ونذلل التحولات الطارئة ونصلح الطرق المعوجة ونرشد مسيرة أجيالنا المعاصرة الذين هم أمل المستقبل الواعد ومنارات الحياة الجديدة.
***
وفي ظل تقلبات الأجواء العاصفة واضطرابات الأحداث الجارية، وتبدل الأحوال من الضد إلى الضد ومن النقيض إلى النقيض، تضطرب سفينة الحياة ويفقد الرُّبان البوصلة التي تقوده نحو الاتجاه الصحيح وتهديه إلى مرفأ الأمان، ولذا فإن على الفرد في هذا المجتمع العالمي المضطرب في اتجاهاته وتوجهاته أن يُحسن التعامل مع مجريات الأمور ومسارات الأحداث.. وعصرنا هذا بحاجة شديدة إلى عمليات بناء تتلافى اختلال التوازن، الذي يمثل طابع العصر ويعالج فقدان الاعتدال، ويحد من صخب العنف في الممارسات النشاز التي تطفو على سطح المجتمعات، والتي تشكو من قلقه هذه المجتمعات، وبذلك يعود التوازن إلى هيكل الحياة وتلافي مواطن الضعف، وترشيد جموح الشذوذ الذهني والانحراف الفكري، مما يؤهل لمسار جديد تستقيم به الأحوال وتسعد به الشعوب.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved