الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th March,2005 العدد : 97

الأثنين 4 ,صفر 1426

في موكب الفَجر
عبد الرحمن ابن عبد الكريم العبيد
سعد البواردي
موكب الفَجر هو أحلى المواكب.. وأغلى المراكب لأنه واحة نور.. ودلالة حياة حين يستوعب في مسيرته الصدق طرحاً.. والعمق مضموناً.. والجمال إطارا.. وشاعرنا العبيد اختار لديوانه هذا العنوان الجميل فهل أنه أوفاه حقه سرداً بيانياً.. وصياغة جُملية..؟! وشعرية؟!
بداية جاء المبدأ السامي أول عنوان من عناوين قصائده:
قالوا هلمَّ لمبدأ متسام
ترنو إليه على المدى الأيام
فالناس لا يدرون أي مبادئ
ترنو إليه على مدى الأيام
أبدا ياشاعرنا الناس يدرون ولكنهم يدارون عوراتهم، وأحيانا يفضحونها بممارساتهم ومجافاتهم، الحق يعرفونه إلا أنهم يتنكرون له..
يستعبد الدينار كل حياتهم
عبدوه مثل عبادة الأصنام
الدولار أكثر صنمية من الدينار وكل العملات الأخرى.. إنه يشتري الذمم.. ويبيع الضمائر.. أنت على حق..
وسرى أوار الجنس بين شبابهم
ومشوا بتخطيط إلى الإجرام
تلك ثقافة العصر الذي لا يدين بأخلاق ولا رجولة.. وإنما استخفاف بكل جميل.. واستلطاف لكل رديء.. هكذا يريده خصومنا شبابا مائعاً كي يسهل احتواؤه.. وإغواؤه..
حين سئل:
نبغي الخلاص فهل ترى من منقذ
للناس بعد تطاحن وصدام؟!
أجاب:
فأجبتهم: إني لأعرف مبدأ
يحنو على الدنيا بنشر سلام
إن الإسلام الذي يحمل مشعل حياة كريمة وقوية.. حيث لا قهر لضعيف.. ولا جهل يشد حركة العمل.. ولا استعباد لأنه دين رحمة ومحبة، وأخوة. وعدالة.. إنه المبدأ الذي نادى به العبيد ودعا إليه...
وعلى لسانه تحدث المسجد الأقصى الذي يئن تحت وطأة أقدام الغزاة البرابرة:
أنا مسرى النبي وملتقى أرض النبوات
وهذي صخرتي تنعى وتندب كل آهاتي
كأن الوحي لم يعبر على تلك المفازات
إنه يسترخص ويتوجع من شراسة قيده.. ومن هوانه.. ومن ملايين وملايين متفرجين أو مهرجين لا يعيرون لضراعته أذناً صاغية، إنه ينفخ ناقوس الخطر منذراً ومحذراً من نهاية منتظرة:
وهأنذا ذلك المصلوب يردي نكسة العرب..
هذه النكسة التي خشيها ثالث الحرمين الشريفين.. وحذر منها كانت محطته الشعرية التالية:
نكسة تلك يا ترى.. أم هوان؟!
أين منها الأباة.. والشجعان؟!
أين وجه الرشيد؟ أين توارى
فأشاحت بوجهها بغدان؟!
ودمشق الفيحاء تسأل خجلى
لم لا يعتلي الحمى مروان؟!
وجه الرشيد يا صديقي ينضح حسرة وخجلا ووجلاً مما يجري على أرض الرافدين التي سقطت أسيرة غزو غادر متوحش.. ودمشق الأموية تهب من حولها العاصفة الاستعمارية مهددة متوعدة
فأجمعوا الشمل للجهاد، وقوموا
قد أصاب الأبي فينا افتنان
وأيضا خذلان.. وعدم اكتراث بما يجري..
(وطني هناك) على لسان طفل مشرد يرقب أرضه من بعيد.. ويصرخ في لوعة شوق اليه:
اماه مالك ترقبين الأفق في نظر جريح
تسترجعين من الأسى في غربة الوطن الذبيح
فكأنما تأبين عن سر التشرد أن تبوحي
والسر يا أماه لو تدرين في قلبي وروحي
أبيات موحية بجمالها، معبرة بصدقها عن معاناة المشردين المبعدين عن أهلهم وديارهم.. الطفل لا يجهل خصومه إنه يعرفهم:
إني عرفت من استباح ديارنا وذمارها
وأبي. ومدرستي. وجيراني مضوا بغمارها
عيني تفتح عن بقايا الحلم من آثارها
فأكاد أذكرها وأصعق من رؤى تذكارها
لا يكفيه التذكر.. ولا الحسرة.. إنه يعيد بفجر حرية جديد بعد أن يكبر ويمتشق سلاح المقاومة والتحرير:
لا تجزعي أماه من ليل طويل مفزع
فالثأر يا للثأر يغلي في حنايا أضلعي
والفجر أبصره يشع أمامنا فتشجعي
لا تجزعي فلسوف ينبئ عن جناتي مدفعي
وهذا ما ترجمه أطفال الحجارة.. وشباب الاستشهاد إلى عمل أقض مضاجع المستعمرين وأربك حياتهم..
وأشواق قلب (شاعر).. كأشواق ومشاعر كل قلب حين تعصف به عاصفة الحب.. بأي شكل رسم لنا صورة شوقه وتباريحه؟!
أشواق قلب على آفاق تفكير
تجري فتأسر أنغامي وتصويري
ومهجة تلهب الأحلام عارمة
فتنقذ النفس من أنات مأسور
لكي تضيء حروف في منابعها
ويسكب النجم أطيافاً من النور..
رومانسية أشواقه لا أشواك فيها، ولا شراك على غير ما اعتدنا.. لقد ألهبت لديه جذوة فكره.. ومن نشيدها ما جلا حقيقة حبه..
ومادامت أشواقه سالمة ومسالمة فإن لحونه أيضا لابد وأن يجيء إيقاعها هادئاً تطيب له النفس:
يا لحن يا عبق الزهور ويا شذى حلم الاقاحي
ما أنت إلا القلب ينبض فيك مخضرّ الوشاح
ملء الضلوع أحسه فإذا به ملء الصداح
إلا أن جديدا طارئاً على لحنه غيَّر مجرى ترنيمته.. ودفعه إلى طرح تساؤله
أشجان قلبي لم تزل وهواي ينبض بالجراح
يا لحن مالك لم تثر في النفس أحلام الطماح؟
وتظل في ذاك المساء ونحن في ألق الصباح
ربما أخذه حنينه إلى ذكريات صامتة عز عليه البوح بها ألما.. فصاغها نغما شجياً على غير ما اعتاد..
شاعرنا العبيد امتطى صاروخه الشعري العابر للفضاءات على أمل مصافحة النجوم.. أي نجم يختار؟ لا شك أنه سيختار.. بل سيصاب بخيبة أمل حين يكتشفها كتلا ضخمة يجللها السواد إلا مع إشراقة شمس..
ما لهذا الفؤاد في خفقاته؟
رق في شعره وفي ألحانه
وارتوى من منابع الحب حتى
صاغه في نشيده وبيانه
لم أجد أثرا للنجوم في رحلته.. ولا منصة صواريخ لانطلاقته.. ما ألفيته مجرد خيال سابح يطوِّف بالحقل.. والبحر. والطير.. وعالم الطبيعة النقي وهي تصافح النجوم، ولكن عن بعد لأنها لا تقوى على ملامستها. ولا حتى مد الأيدي لمصافحتها.. الخيال فيها أوسع من الممكن.. في حياة شاعرنا محطات عمرية ومراحل سيئة متباينة.. من وحي العشرين حيث الشباب المبكر.
تجمدي تجمدي
يا رفة الحلم الندي
يا نجمة مشعة
على جبين الفرقد..
مرت كطيف عابر
يسير في تردد
لأنها مسكينة على حد وصفه.. تجفف دموعها براحتيها.. أما هو فخاطره في توقد بحثا عن مصيرها إلا أنه لم يوفق.. تلك صورة (من وحي الثلاثين) نقرأ الصورة الثانية:
أيها الشاعر الذي
حطم القيد وانطلق
وسرت في كيانه
وجرت تلهب الورق
الثلاثون لم تزل
صورة منه فأتلق
قد طويت شراعها
لفؤاد به خفق
في أحلامنا التي
تتسامى بلا قلق
الزمن هو الذي يطوي الاشرعة لا نحن مكرهين.. لو أن الأمر بيدنا لأبقينا الأشرعة مشرعة دون طي، ودون حاجة إلى ذكريات نسترجعها في حسرة:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
العمر لا يعود لحظة إلى الوراء.. لا بُعيد الميلاد، ولا حتى في الاربعين من العمر:
لمن تبوح بأحلام ستشجينا.؟
وتبعث الشوق من أصداء ماضينا؟
لمن سننشد.. والآفاق واجمة
كأنما وقفت حيرى تناجينا؟
أبيات مجتزأة من قصيدة مطولة قالها وهو بعمر الأربعين من عمره أهداها للخالدين.. ولا أدري أي خالدين يقصد بالذات.. لعله يعني أولئك الذين خلدتهم أعمالهم الشعرية:
الخالدون تجلوا في مواكبهم
مثل النجوم تجلت في مآقينا
ماتوا.. وما مات عطر الشعر نلثمه
كالروض يعبق فواحا رياحينا
ومن وحي الخمسين كانت له هذه الوقفة:
ذهب الشباب وما درى السمار
فكأنما هو كوكب سيار
أبصرت منه أفوله فتشابهت
في عيني الآصال والاسحار
ونشرت حلمي طاقة من نرجس
ياليتها نجوى له وإطار
طاقة مغردة تؤدي وظيفتها.. إلا أن النرجس مرادف للباقة العطرية...
ورسمت في وطني خواطر شاعر
لتصان فيه مبادئ وذمار
خواطره كما عرضها واستعرضها على شاشة خياله تتجسد في آماله، وفي آلامه الذي يصوغه شعراً، وفي قلبه الذي يسمو بعلمه، وفي عقيدته التي تشده إلى بارئه.. متسائلاً:
فعلام بعض الناس ينسى ربه
وهنا النذير. وسيفه بتار؟
كل الرياض تجف من أوراقه
ولسوف تداوي تلكم الأزهار
حتى الرياض هنا جائزة.. والأكثر تحديداً لرسم الصورة مفردة.. (كل الغصون) الأقرب إلى توصيف العلاقة بين الغصن وأوراقه..
وما دمنا مع الرياض وأوراقها فلن نبرح الأرض مع شاعرنا ليأخذنا مع رفيف الورد أيهما أراد
رفي رفيف الورد وابتسمي
يا نغمة تنساب وسط فمي
ترنو الى الأشواق باحثة
ما فات من حب. ومن ألم
سكبت مع الأحزان عبرتها
ودعت إلى أحياء أشواقي
وتوشحت في ظل رابية
تدعو الربيع دعاء مشتاق
لمن تكون هذه النجوى؟ إلى ربيع جمال حسناء أسرت قلبه؟ أم إلى ربيع طبيعة غناء خلبت مشاعره؟
أغصانها الخضراء راقصة
وأريجها قد فاح بالعطر
كم تأتلق فيها براعمها
جذلانة ترنو إلى الطير
فمضيت أستوحي النشيد على
لحن يثير خواطر تسبي
وأقول للذكرى وقد عبرت
أنا ها هنا أصغي إلى قلبي
في شعره إيحاء بالجمال.. رفيف ورده.. وخفقات وده الذي بارحت ذكرياته تعتمل في دواخله موردة.. ومؤرجة.. الإنسان بدأ من الطين.. وإلى الطين يعود تلك حكمة الخالق. وتلك إرادته.. ماذا يقول العبيد بعد أن عاد الى طينه؟!
أسائل نفسي والحياة تثيرني
لِمَ الناس في أوجاعها تتصارع؟
لِمَ النفس تهوى ما تحب وتقتفي
وراء سراب زيَّنته الطبائع؟
هل يريد لنا شاعرنا أن تهوى ما نكره؟! الحياة حب.. والهواية حب.. لا ذنب لمن يحب ويهوي أن ينخدع وراء حلم كاذب.. أو أمل مخادع، فللحياة وجه تقي.. وآخر شقي.. والحياة أيضاً قسمة ونصيب.. تُصيب تارة وتخيب أخرى..
عجبت إلى الإنسان عاد مكبلا
إلى الطين تستولي عليه النوازع
نزعة حب التملك.. شهية الحروب، وما تخلفه من بشاعات وفظائع.. ناسيا أو متناسيا أن يستوحي بعقله خيار عمله:
ولو عاد يستوحي الهدى بعقيدة
من الله جاءت للورى تتابع
مفردة تتابع تحتاج الى تاء ثالثة كي يستقيم للبيت وزنه (تتتابع)...
اذا كان للقلادة همس فقد اكتشفه صديقي الشاعر العبيد وأباحه شعراء:
يا أيها الغواص مالك مبحر
تعب الشراع وملَّ من ليل الكدر
الشطر الأول يحتاج إلى علامة استفهام لازمة(؟)
ترنو إلى الأصداف علَّ بجوفه
حلم السعادة تقتفيه كل الأثر
وتخوض في ذاك الخضم تلاحمت
فيه المنى وتواثبت فيه الصور
شاعرنا من الجبيل حين البحر، وحيث الصيادون، وغواصو البحث عن اللؤلؤ والأصداف.. لا غرابة أن يستشف همس القلادة، بل ورنينها لأنها جراء من مشهده اليومي منذ طفولته ما برح عالقا في خياله يسترجعه ويرجعه: بحصاده.. وبمعاناته.. وأخطائه..
هذا هو الغواص في سفراته
ألف الشراع فكاد يصرعه القدر
كل ميسر لما خلق له.. ليس الغواص وحده.. وإنما الكائن الحي أينما كان.. إنه عرضة لنفس المخاطر مادام يشقى ويسعى من أجل رزقه.. لا أدري أين وجدها وحيدة شريرة تسكنها الوحشة.. إنها نخلة شدت انتباهه ولم يتركها في حالها وإنما شاغلها شعرا:
ما أرى في تطلع واشتياق
وقفت والدموع ملء المآقي
تتسامى على الربا وتناجي
همسات الاصيل في الآفاق
شاعرنا خيّب ظني لم تكن شريدة ولا متوحشة.. وإنما شامخة سامقة تناغي همسات الأصيل بسعفها.. وربما أيضا بعناقيد جنيها..
إنها النخلة الوحيدة رمز
لشموخ. وهمة. وانطلاق
نعم.. شجرة.. معطاءة.. صابرة ومصابرة.. فيها شموخ الاعتزاز.. وكبرياء الوقفة.. وحين تموت تموت واقفة لأنها تكره الانحناء..
وفي نهاية المطاف مع شعر شاعرنا العبيد نقف جميعاً معه وقفة المتأمل للساحل وهو يغازل موج البحر ويداعبه:
يا بحر كم أخفيت من أسرار؟
ونشرت في الآفاق من أخبار
المد فيك تثيره في رهبة
والجزر فيك تبثه بوقار
والطير ملء جناحه رفت به
فمضى يجوب مراتع الاسحار
يستشرف واقعنا متأملا على ساحله الشمس التي أدماها المغيب بشفقه.. والغيوم التي تنسج حلتها الرطبة.. والريح التي تهتز لها القلاع المتحركة فوق الماء, يشتشرف الصور من حوله، وكان يرقب ملاحا يجرف بزورقه نحو الملء وسط موجة غاضبة..
يا أيها الملاح رفقا بالمنى
إني أراك تحن للإبحار
آمالنا موج تلاطم خلته
يشكو من الإقبال والادبار
ويرتسم في ذهن شبح الذين احتواهم البحر بموجاته.. وغرقوا:
رحلوا إلى الأعماق فيك ولم تزل
أخبارهم تروى لدى السمار..
ونحن أيضا نرحل بعد أن طوينا جادة السفر.. ووقفنا عند آخر محطة شعرية دون أن يجهدنا السير لأن الطريق مُعبد؟


الرياض: ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved