Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
أقواس
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 

بعد إصدار (حرام c.v) عبدالله ثابت:
أنا روحٌ تريد أن ترجع إلى عنصرها وتتلاشى فيه

 

 
* جدة - صلاح مخارش:

(اشتريت ناياً/ سكبت بجوفه ماء ورد/ نفخته.. ترنّح باسمك) هذا جزء من (الهتك) الذي بدأ به الشاعر عبدالله ثابت السير على مساحة شاسعة من الكتابة العميقة. محاولته الأولى لإعادة تعريف الأشياء من حوله، يقول عن ذلك: (إنه إفصاحي، لثغتي الأولى التي تجرأت بها على الفن، وأذكر أنني كنت خوّافاً جداً أن يعجز هذا الكتاب عن حمل نكهته وتفاصيله الصغيرة الخاصة، كنت خوّافاً مثل أي يتيمٍ يحلم أن يعبر الشارع لأول مرة، دون أن يمسك أحدٌ بيده، دون أن يقول له أحدٌ (احترس!)).

بعد هذه اللغة غير المألوفة، وبعد أن تجاوز مخاوف البدايات، فإنه ينظر إلى ما أنجزه في الهتك على أنه خلاص: (اليوم أراه أكثر من كونه مجموعةٌ شعرية، فهو عندي يساوي براءة الرغبة الأولى في قول (أنا)، ويساوي عندي خيط الخلاص والغسل الأول من الدم، وسيبقى هذا الهتك طوق نجاتي، والكلام البكر، وما زال الهتك يملأني بذلك اليتيم الخوّاف الذي يعبر الشارع لأول مرة!).

وتستمر مغامرة الكتابة الشعرية لدى عبدالله ثابت في (النوبات.. تالفٌ يمضغ عصبه)، فهو نافٍ لكل الأشياء عنه، وكأنه بدأ يتعرف على ذاته (لست أي شيء.. إنني مجرد التواء في رقبة الوقت!). يقول عن هذه التجربة الكتابية المختلفة: (النوبات، كانت تلك السجادة المرفوضة، السجادة الممدودة وحدها على الشوك، وكنت متكوّماً عليها تحت ذلك السلّم المعتم، الذي انكفأتُ تحته شارداً عن كل أحد، مصلياً، ومحتجّاً، وظالماً، ومظلوماً، فاتكاً ومفتوكاً به.. كانت النوبات عويلاً ضائعاً، ليس له من يسمعه، ذاك النوع الحاد من الصراخ الذي يصبح سوراً عالياً يجلس أدناه، ناحية الذات، كائنٌ أشعث ومجنون، وكل الذين يقتربون منه يودون لو كلّموه، لكنهم يهرولون بعيداً حتى لا يطالهم مسّه، ولا ينفلت عليهم غضبه واحتجاجه). ولأن هذه النوبات هي تالف فإنه يتعالى على الأشياء ليعيد تعريفها، وتقديم نفسه إليها بصيغه الجديدة. يجيب عن ماهية الجديد في النوبات قائلاً: (كانت النوبات طريقتي في التعالي عن الاعتذار لزمنٍ مشوّه، وتمكيناً لمدى من التلوّع والعذاب حيال هذا الوجود.. من مطلقاته، إلى كذباته!).

من يتتبع النمو الكتابي لدى عبدالله ثابت يدرك أن (الإرهابي20) كانت علامة فارقة، فهي أكثر من مجرد تجربة خاصة، إنها إدانة للمظهر المخادع وللصوت العالي، هذا الصوت الذي يبرر وجود البعض بعد أن كان مهمشاً، نقرأ في الإرهابي20 تساؤلا مرّا: (من أنا؟ وكيف صرت أنا أنا؟ ماذا أريد؟ وأين أقف؟ وإلى أين أتجه؟ وأي الأوقات والأمكنة حملتني وسافرت بي حتى هذه اللحظة، التي أشرع فيها في حفر ملامحي بإزميل من صدق على هذه الأوراق، التي لربما كان لها شأن ذات يوم؟).

يقول ثابت عن هذه التجربة: كتابٌ محتشد بهواجس (من أنا، ومن أنتم، وما هذه الأرض، وما هذا العالم، وما الذي أفعله، وما الذي يفعله هؤلاء؟)

الإرهابي20 يعني لي شجاعة التساؤل والشعر، شجاعة اللوحات واللحن والكلمات، في مواجهة واقعٍ متجبّر وفظيع!

بالله من ذا يصدق أن هذا الواقع كان في الأصل قروياً صادقاً، يتعاطى كل مفردات الحياة بالنشيد والنبع والشعر.. من ذا يصدق أننا أبناء أولئك القرويين الذين كان لكل شيء عندهم أغنية، لأحزانهم أغنيات، ولفلاحتهم أغنيات، وحتى عند نومهم واستيقاظهم، وعند ألمهم وغضبهم، وعند موتهم وميلادهم، كانت لهم ألحانهم الفاتنة.. والإرهابي20 لم يكن سوى مسحٍ على ملامح هذه الخيبة!).

ولصعوبة القول، نترك للمؤلف وصف طبيعته في الكتاب الذي لقي إقبالاً واسعاً: (أردت أن أقول في الإرهابي20 إن الفن يمكنه أكثر من أي شيء آخر أن يطوح بذلك العالم المجرم، ويمكنه أن يجمعنا في صوفانية الحسّ بسحر الأشياء، حيث التداخل والانصهار مع الكون والموجودات، حيث الإنسان هناك لا يريد أكثر من أن تنتصر الحياة على الموت، والجمال على القبح).

هذه هي المغامرات الكتابية التي سبقت السيرة الذاتية للمحرّم، الصادرة مطلع عام 2007م، وحملت عنوان: (حرام c.v)، جاء الكتاب، في 180 صفحة، بها العديد من الصور والمحادثات والأغنيات، ورسائل الجوال، وكثيرٍ من الشعر، والقصص الخاطفة، والسرديات، والهوس، والروابط الإلكترونية، والرسمات، وعبارات مقتبسة لآخرين. وهذه السيرة هي ما يسميها مؤلفها بسيرة الفتنة: (سيرة الفتنة، الفتنة التي تخصني، سيرة ذلك القبو السحيق في أعماقي، سيرة ملاحقة الأرواح الحائمة فيه.. تلك الأرواح السحرية الخارقة، الفتنة هي التي تفسر أن تكون صورة فيروز بجوار ألباتشينو، ويوسف الثنيان بجوار ميلان كونديرا مع لوحة، وماردونا بجوار غازي القصيبي مع أغنية، وأبو بكر سالم بالفقيه بجوار نيتشه مع رسالة جوال.. وصورة نمر أبيض مع نص وهكذا!).

ويضيف ثابت: (حرام.. أشبه ما يكون بمشي النائم الذي يحلم بمنام جميل.. جميل وعابث، وهذا التيه الذي ينتمي إليه جاءت كل وعثائه عبر هاجس اقتناصات وساوس، وأحلام، وفتنات، وصياح، وغناء، وحب، وغضب، وحزن، وأنين، وأوجاع.. الخ!

حرام كان مطاردةً مثيرةً للأشباح الكامنة في ظلماتي، في قعر قلبي، وهكذا جاءت كل فكرة فيه، وهكذا واجهت هذه الهواجس والأرواح، ولم أستسلم لسطوتها فحسب، لا.. بل حاولت أن أحدثها مرة، وأحتج عليها مرة، أن أتوطأ معها، أن أمسها أو أن أبكي عليها!).

وصف جورج جحا حرام بأنه كتابة غير مألوفة تضم: (الرومانسي والمجازي والرمزي الذي يصل إلى حد الأجواء السوريالية).

وعند سؤال عبدالله ثابت عن سرّ هذه العوالم الغرائبية المتداخلة، يجيب بحكاية ذات مغزى: (قرأت مرةً عن قريةٍ في أفريقيا، في زمنٍ مضى كانت إذا انقطع عنها المطر، وجفت أرضها، وحلت عليها المصائب، والفقد والأحزان، واختنق بها الكون كل الكون.. اجتمع أهل تلك القرية كلها، لا يغيب منهم أحد، بمرضاهم، وكبارهم وصغارهم، وحتى ما تركه موتاهم من أثر، ويجيئون حتى بماشيتهم، وكل كائن حيّ فيهم، ثم يبدأون معاً في الغناء والرقص، ليطردوا الشر الذي حاق بهم، ليطردوه إلى الأبد، ولتعود لهم الغيمة ويسيل الوادي، وينبت الحب والعشاق من جديد!).

ويختم حديثة باستطراد جميل يشبه هوسه بالشعر والحكايات المؤثرّة: (أنا حتماً من سلالة أهل تلك القرية، أو على الأقل لابدّ أن روحاً من تلك القرية عادت لهذا الوجود.. وكانت أنا!. هذه النفس لا تهدأ، نفسٌ لا تحمل هوية محددة.. وطالما كان مشيها انفلات على الهويّات المزاحمة لصفائها لتعود إلى تلك القرية برقصاتها وغنائها وحبها وواديها، نفسٌ تحمل تجليات ما يحيط بنا من الشتات!

إنني روح لا ترغب في أن تصل لشيء، لأنها لا تثق بشيء، وما عادت تلوذ بغير ريبتها!. روحٌ تريد أن ترجع إلى عنصرها وتتلاشى فيه!).

وربما كانت هذه الرحلة، العودة للعنصر والتلاشي فيه، هي أهم ما يميز كتابات الشاعر عبدالله ثابت، لأنه قريب جدّا من التعبير عن أرواح الناس، على ما بينهم من تباين في كل شيء.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة