Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
فضاءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 

العراق أدب الداخل وأدب الخارج
قاسم حول

 

 

عدد المهاجرين العراقيين إبان حكم الدكتاتور العراقي بلغ ثلاثة ملايين مهاجر كان بينهم ثلاثة آلاف مثقف عراقي بين كاتب وصحفي وفنان، وتعبير المثقف هنا محصور في مجالي الأدب والفن، وليس الثقافات الأخرى في مجال العلوم الاجتماعية والتربوية والمهنية.

وبعد سقوط النظام على يد قوات التحالف تردّد العراقيون، وبشكل خاص المثقفون منهم، في العودة إلى العراق حيث الوضع لم يكن مفهوماً، وفيه الكثير من الالتباس والغيمية.

والمؤسف ليس فقط في عدم عودة المثقفين إلى بلادهم بل إن هجرة جديدة حصلت حيث بلغ عدد المهاجرين خلال السنوات الأربع الماضية ما يقرب من أربعة ملايين مهاجر. أكدت ذلك الدوائر المختصة باللاجئين، وانعقد في نهاية شهر إبريل الحالي مؤتمر لبحث مشكلة اللاجئين العراقيين في جنيف بسويسرا. ولا أحد يعرف عدد المثقفين الذين هاجروا في هذه الهجرة الثانية - إن صح التعبير -، لكن أغلب المثقفين تقول الأخبار إنهم قد هاجروا.

كل الذين رحلوا بعد احتلال العراق هم البقية الباقية من المثقفين الذين صاروا مستهدفين من قبل التيارات الأصولية في العراق بكافة تنوعاتها المذهبية.

يكاد العراق يكون قد فرغ من مثقفيه ورموزه الثقافية والأكاديمية؛ فإذا كانت فترة الدكتاتورية قد أفرزت ما سمي بأدب الداخل وأدب الخارج العراقي فإن مرحلة ما بعد الاحتلال سوف تلغي هذا الفصل في الأدب بسبب خلوّ الساحة العراقية تقريباً من المثقفين، وإذا كان من المثقفين مَن قد بقوا داخل العراق فلا أظن أنهم يجرؤون على الكتابة والتعبير بحرية.

الفنانون بين المثقفين العراقيين هم أكثر عرضة للموت؛ لأنهم يظهرون على شاشات التلفزة، وأن أية كلمة يلفظها الفنان في أداء شخصية معينة يفهم الأصوليون منها معنى معيناً فإنهم يستهدفون الفنان دون أن يفكروا أنه يؤدي نصاً مكتوباً، وقد يكون النص تاريخياً، وقد يكون نصاً مترجماً عن نص غير عربي؛ فهم يحمّلون الممثل مسؤولية الكلمة ومعناها حسب ما يروق لهم أن يفسروه، وهو أمر كارثي. وقد راح أكثر من ممثل ضحية هذا التصور الساذج، وهذه الدموية الرهيبة التي لا تعرف الرحمة.

سيلجأ الكتاب والصحفيون والفنانون العراقيون للاحتماء بخارج وطنهم ونشر مؤلفاتهم وتقديم برامجهم المرئية ونشر مذكراتهم، ولكن المشكلة تكمن في من هو قادر على استيعاب هذه الموجات من البشر التي تهجر العراق؟ أية دولة تملك مساحة كافية وسكناً كافياً وفنادق كافية ومخيمات كافية لتستوعب ليس بضع مئات بل مهاجرين بتعداد شعب كامل أكثر من تعداد شعوب كثيرة، فاللاجئون الجدد بلغ عددهم أربعة ملايين أما الثلاثة ملايين السابقة فلقد انصهروا ضمن الشعوب الأوروبية والأمريكية. لكن هذا الشعب الجديد توزع بين سوريا والأردن، وكلما وجد أحد فرصة النزوح نحو أوربا حمل متاعه وتنقل بين محطات العالم وبين هؤلاء كتاب وصحفيون وفنانون كبار في مسيرة الأدب والفن العراقي.

ظاهرة المثقفين العراقيين المهاجرين تحتاج إلى مؤسسة دولية من مؤسسات الأمم المتحدة واليونسكو لكي تناقش أوضاعهم حيث تهجر الثقافة العراقية ورموزها وتضيع في متاهات البحث عن لقمة الخبز والركون في مخيمات اللجوء فترة من الزمن وسط التحقيقات والاستفسارات ويكون العمر قد مضى ولا سيما إذا ما ترك المثقف عائلته ليتقدم بطلب ما يطلق عليه (لم الشمل) في لغة اللجوء، وكل هذا يأخذ سنوات من عمر الإنسان.

هنا يكون تعبير أدب الداخل وأدب الخارج، ثقافة الداخل وثقافة الخارج، فنون الداخل وفنون الخارج.. هذه المصطلحات سوف تنتهي وتتوقف عملية الفرز لتظهر مفردة جديدة واحدة عنوانها الثقافة العراقية المهاجرة.

ما هي نكهة هذه الثقافة وما هي هويتها؟... ستكون أولى الكتابات وأولى المسرحيات وأول الأفلام فيها ملامح الوطن.. لا شك أن معاناة الاغتراب الأول ورحلة عبور الحدود العراقية وصوت المدافع والانفجارات ستعج بها كتب العراقيين المهاجرين وسنسمع الكثير من دوي المدافع ونرى الكثير من الحرائق وأصوات سيارات الإسعاف تنطلق ما بين سطور الروايات وسطور سيناريوهات الأفلام وحوار المسرحيات حتى إذا ركن الكاتب للهدوء ومنح داراً ومشى في غابات الصنوير وجلس على ساحل البحر وسمع لغات لم يألفها وحتى يتعود جرسها الموسيقي يكون نهر دجلة والفرات وشط العرب وبساتين نخيل أبو الخصيب وجيكور السياب وجسور بغداد التي يتم نسفها والأحياء التي تسيجها الأسوار.. كل هذه المعالم سوف تتلاشى بعد الرواية الرابعة والمسرحية الثالثة وقصيدة الشعر الثانية والفيلم الأول!؟

ستكثر المواقع الإلكترونية وكل يفكر أنه سوف يحرر العراق من موقعه الإلكتروني من كارثة الاحتلال، ويظن أن جورج بوش نفسه وكونداليزا رايز بشخصها سوف يقرؤون روايته ويشاهدون فيلمه السينمائي ويتابعون قصائده وسيكتبون إليه رأيهم في ما يكتب ليكتشف في النهاية أن صوت العراق لا يمكن أن يسمع سوى من مدنه وأريافه وكل صوت يأتي من خارج العراق هو صوت له نغم مختلف لا يعبر عن واقع العراق ولا يمكن الأخذ به لأنه صوت مشكوك فيه، وإن جورج بوش وكونداليزا رايز مشغولان بحسابات واردات نفط العراق وليس بحسابات كلمات الشعر ومفردات الرواية ولغة التعبير السينمائية.

الثقافة العراقية والأدب العراقي والفن العراقي في خانة غريبة من خانات التأريخ لم يعرفها العراق ولم يعرفها العالم ولا أظن أن بلداً من البلدان قد مرّ بها أو أنه سيمر بمثيلها في يوم من الأيام. هي مرحلة كلمة (مخيفة) تعتبر تعبيراً مجملاً لكلمة غير موجودة في قاموس اللغة من كلمات الكوارث والفواجع. سيظهر أدب لا لون له ولا طعم ولا رائحة.. أدب غريب يحمل اسم مؤلفه وبالتعريف في مقدمة الكتاب يمكن القول إن الكاتب (من أصول عراقية)، وحتى هذا التعبير سيتم الاستغناء عنه بعد كذا من السنوات.

أما في العراق فسينشأ جيل جديد من الكتاب والأدباء والفنانين مقطوعي الصلة بمن سبقهم لأنهم لم يتلقوا ما تعلموه من الذين قبلهم ولا ندري ماذا سيكتبون.. هذا إذا ما سمحوا لهم بالكتابة!

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة