Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
سرد
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 
يوم كفنٍ متحرك
عبدالرحمن بن سلطان السلطان

 

 

4.40 فجراً

بالرغم من النافذة المفتوحة على مصراعيها والمروحة الكهربائية التي تعمل بأقصى طاقتها، إلا أن أمواجاً من حرارة حارقة تسري في عروقي الضيقة، كما أن الغدد تعمل بكل جهد ونشاط، حالة من القهم الذي أعيش لا تزال ترزح بثقلها عليّ. وأنا ممزق ومرمي في فراشي الوثير كخرقة بالية، صرت أكره هذا المسمى ب(النوم)!!.... متى تطلع الشمس لتنقذني من هذا المأزق الصعب.

6.59 صباحاً

لم أصلّ الفجر... خيوط ذهبية تتسلل إلى غرفتي بدون إذني، أتذكر الليلة الماضية فأشعر برغبة بالبكاء الحقيقي ولكنني لا أستطيع!، قمت وكل عضو في جسدي يصدح بالكسل. نقرت الصلاة.

7.13 صباحاً

أهرول باتجاه غرفة الطعام لكي أتناول طعام الإفطار، فهو يوضع ما بين الساعة السابعة والسابعة والربع فقط!!، دوامه لا تنتهي من نظام صارم جرّ علينا عدداً هائلاً من المصائب التي لا تعد ولا تحصى. أجد أخي الأكبر يوسف وهو يرتشف كوباً من قهوته المرة. أين الباقون؟.... لعلهم ذهبوا لقضاء بعض حوائجهم المتأخرة.... كيف ذلك وأغلبهم عاطل عن العمل!!.

أجلس والهدوء يسبقني، أستقبل حديثه الجاف ببرود اعتدت عليه.

- صباح الخير.

- صباح الن.... النور.

- هل نمت جيداً؟

- نوعاً ما.

- لدينا عمل كثير اليوم.

- لا مشكلة.... ولكن يجب أن أزور الوالد في المستشفى.

- لن تحتاج إلى ذلك.

- لماذا.... هل نقل إلى مكان آخر؟

- .... نقلته الملائكة إلى مثواه الأخير.

- ....

- توفي فجر اليوم.

- ....

12.50 ظهراً

الأنفاس تتلاهث والعرق يزداد لزوجة، أنظار تتقاطع وأرواح هائمة تراقب الوضع من بعيد.

لم أستطع تحمل هذا الوضع الشاذ، سحابة من كآبة كاذبة تخيّم فوق رؤوسنا المكسوة بالشعر الأسود فقط. الكل ينتظر الفرصة لينقض على الفريسة، لم أستطع تصور أن لكل شيء نهاية.. أن أبي ذلك الجبار المرعب سوف يوارى الثرى بعد قليل، اقترب مني خالي سعد ثم همس في أذني اليسرى:

- لا بد أن نسوي مشاكل الدائنين.

- ماذا!!.

- ألم تسمع مشاكل الدائنين.

- لا يزال كفن والدي لم يُحل.... أرجوك ياخالي.... فقط لذكرى أمي....

- .... إنهم يتشاورون.

- دعهم!!.

رائحة (اللبن) ذات نكهة مميزة، فهي تنفض الغبار عن الذاكرة المهملة وتذكرك بأن الإنسان مهما ارتقى وتطور فسوف يعود يوماً إلى هذه الأرض إلى هذا التراب.

ها هو الجسد الذي نزعت منه الروح يُرفع.... يقفز أخي الأكبر يوسف ومعه ابنه محمد - الذي سمي على اسم والدي - يتلقف الكفن الأبيض، يضعه باللحد المظلم، يحل جزءاً منه، يوجه وجه أبي نحو القبلة، حركات لا إرادية تحكم انتظام الموقف، يبدؤون برصف اللبن وإغلاق الفجوات بشيء من الطين اللزج، يخرجون من القبر المريع، بدأ الناس بِهلِّ التراب، ذُرفت دمعة من أخي الأوسط خالد ولكن لا أدري هل هي على وفاة والدي أم على زوال الامتيازات التي كان يتمتع بها فهو المدير التنفيذي لمؤسستنا الكبرى منذ أن تقاعد الوالد المبجل - إجبارياً - بعد الجلطة التي عصفت به قبل اربع سنوات.

ماذا يخبئ القدر لنا نحن أبناء أبي يوسف العظيم؟. يبدو أن الحياة كما قيل: قديماً (يوم لك...... وأيام عليك).... كما أن الساعات القادمة سوف تكون حبلى بالمفاجآت.

1.13 ظهراً

ألقيت بجسمي المنهك جسدياً والجريح نفسياً داخل سيارة أجرة كانت تنتظر شخصا ما دخل المقبرة ولم يخرج منها.

- البحر....

- سوف يكلفك مبلغاً كبيراً.... البحر بع.... بعيد.

- لا يهم.

1.29 ظهراً

ما أوسع البحر وما أضيق الأفق، أتمدد على صخرة ملساء، قطرات من حزن حامض تتسرب من بين انحناءات جسدي المثقوب برصاص من القهر والذل المزدوج، يتجسد أمامي والدي الطاغوت كياناً من كهارب الضوء الفاقعة والمتموجة.... أبتعد عنه... أهرب.. ألم يكفيه ذاك الجحيم الذي كنا نعيش فيه.... خمسة وعشرون عاماً من الضيم المتواصل....

- أنتم مجرد كائنات ناطقة.... ومن الدرجة الثانية أيضاً.

دوماً كنت وحيداً، مشرد الروح والمعنى، أعيش بلا رفقاء، أسير بلا أصدقاء.... لم أجد يوماً منْ يمسح أحزاني ويكفكف دموعي.... حتى دراستي الجامعية لم أفلح بها.... كنا نعيش وسط سجن بلا قضبان.... سجن من وهم كبير.... لا حياة اجتماعية لنا.... بكل بساطة لا شيء لنا.... كنت دائماً شاباً مطيعاً للأوامر ومثالاً ممتازاً للابن البار الخانع للجميع.... ولكن: ما الفائدة.... صرت كالدمية الرخيصة لا تملك حق تقرير المصير!!

أدور بعصبية واضحة للعيان أمام هذا البحر الفتان كما يدور حيوان كاسر سقط فجأة في فخ مميت، أضحك، أبكي، أئن..

رائحة نفاذة تخترق جدار الصمت الثقيل، رائحة كريهة لم أتبين مصدرها، ولم أدرك حقيقتها إلا متأخراً، أتأمل محيطي الضيق وقد تحولت إلى هيكل عظمي منخور باهت الألوان، أحاول استنشاق نسيم البحر ولكنني أحس بضيق في التنفس، ريحٌ تنطلق جهة الشمال... ريحٌ متوحشة يصاحبها مطرٌ يطرد الجمهور القليل عن الرصيف الصخري. قررت العودة إلى المنزل فالشمس لم يعد لها مكان في السماء.

7.00 مساءً

- ترن ترن.

أقرع الجرس مرات عديدة، أضرب بكلتا يديّ ولكن لا أحد يرد، أرفس الباب بقوة لا داعي لها.

أليست تلك (مها)؟ - أختي الصغيرة - أرهف سمعي فألتقط صوت مواء ينطلق من حنجرتها، وأبصر دموعها البلورية تنحدر على خديها تحدر القطر على أوراق الزهر، وقد شحب لونها وانطفأ شعاع عينيها، إنها لم تبرح مكانها منذ علمت بالخبر!!. حاولت تجاهل وجودها فمررت من أمامها دون أن أنطق بحرف واحد، سرت ابتسامة صفراء على شفتيها، لن أشعر بتأنيب الضمير، مجرد وخزات قليلة سوف تنسى بعد حين، لم نكن سوى مجرد أخوةٍ أعداء!!.

ألمح صورة الوالد تقف شامخة وسط هذه القاعة المثخنة بالجراح... شعور بالغثيان ينتابني.... أتذكر ذهابه للحج قبل سنوات طويلة.... ملتفاً بملابس الإحرام البيضاء.... حج ولم يعط كل ذي حق حقه!!.... ألم يكن يشعر بثقل الكفن الذي يحمله....

لا أدري!!.

7.02 مساءً

لم أكن أجرؤ على الاقتراب منها قبل ساعات قليلة والآن.... أقتحمها وقد خلعت ثوب الخوف الذليل.... أدخل غرفة والدي العتيقة، الباب مفتوح بشكل يثير الأسئلة!!، ما أجملها علبة من الأسمنت المطلي بالدهان الأصفر الباهت، قبر حضاري، قبر بشباك وباب وجهاز تكييف وشيء من الإضاءة الكلاسيكية، رائحة الحجرة غير المألوفة تنشر أطيافاً من قلقٍ بشعٍ ووحشي في آن واحد.... الأثاث الخشبي القديم يرفض وجودي هنا.... لماذا أشعر بالانقباض وسط هذا السنديان الجنائزي؟، أين آلام النزع الأخير وشدائده؟، أم أنها صُفرة الموت هي من يسيطر على هذا السرير الشاغر؟، هنا توقف والدي عن الحركة قبل أربع سنوات!.

خرجت من الغرفة أجر أذيالاً من الهزيمة الوقحة وإذ بأخي خالد قد انضم إلى جوقة البكاء الدميم. أخاطبهم بجسارة لطالما افتقدتها:

- هل مرّ السيد (موت) من هنا؟

- ....

لم يلتفت أحد منهما، أكمل حديثي ذي القطب الواحد:

- يبدو أن أعوانه قد تكاثروا في الفترة الأخيرة.... أشفق على حفار القبور.... فلقد أرهق كثيراً!!

يبدو أنني متعب جداً، لا بد أن أخلد للنوم، أتسلل إلى غرفتي.... باردة رطبة كما عهدتها.... ها قد توقف قطار الليل البهيم في محطته الأخيرة، لا بد أن يواصل المسيرة، لم يعد له مكان هنا، ضحكت بشدة عندما علمت بأن رصيفه كان بركة من الدم الإنساني الحار وأنا الراكب الوحيد!!، تمددت لأنام، لا أشعر بالنعاس ولكنني أحس بجبل من الإجهاد العقلي سوف ينهار فوق جسدي الوضيع إن لم أنم الليلة!!

10.10 ليلاً

استيقظت فجأة تعباً، أكثر تعباً مما لو كنت أحفر قبوراً لأهل هذا المنزل المشؤوم، ظلمة فحمية تتسكع بين جدران غرفتي الواسعة نوعاً ما، أقوم والهيجان يسبقني كغول أسطوري انقرض منذ زمن طويل.... أكسر تلك التحفة النادرة.... أرمي.... أقذف زجاج نافذتي.... ها قد انتصرت في معركتي الدونكيشوتية!!

أتسلل من غرفتي - ارض معركتي الكبرى - وقد تهلل وجهي وانبسطت أساريري. هل هو الإحساس بسلام ما بعد الألم أم مجرد شعور مؤقت؟

أبصر أخي يوسف وقد انتصب في منتصف قاعة الطعام وعرقٌ غزير ينزف بشدة من مسام وجهه المرهق، فتنقلب سحنتي وتتغير ملامحي.

- أين كنت؟؟

أتجاهل السؤال المتوقع، فأقلب نظري في التحف التي تصطف بكل شموخ وعزة بين أطراف هذه الحجرة الفارهة.

- أكرر السؤال.... أين كنت؟

- .... كنت هنا.

- .... المهم.... المحامي ينتظرنا غداً بعد صلاة الظهر لكي نبدأ في تصفية التركة.

- هكذا وبكل بساطة.

- ليذهب كلٌ منا في طريقه!.... تصبح على خير.

- .... وما طريقي أنا؟

أصب جام غضبي على قوقعة الزمن التي تمضي ولا تعود.

4.39 فجر اليوم التالي.

أدركت أنني جسد بلا روح. أنني عقل بلا قلب، أخرجت ورقة مالية خضراء مزقتها ثم بصقت عليها بحركة مسرحية تلفت الانتباه، اغرورقت عينيّ بدمع حزين مالح، كم كنت ساذجاً فأنا ميت منذ أمد طويل جداً، لم أكن سوى كفنٍ متحرك بلا خيوط!!.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة