الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 14th June,2004 العدد : 63

الأثنين 26 ,ربيع الثاني 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
من ورثة الأنبياء!!
بقلم: علوي طه الصافي

علاَّمة جليل.. وداعية إسلامي مؤثر، وكبير، في العصر الحديث.. تخطت شهرته بلاده (مصر) فطبّقت الآفاق العربية، والإسلامية، والعالمية حيث يوجد مسلمون على اختلاف قاراتهم، وأوطانهم، وألسنتهم, وألوانهم من خلال برنامجه الديني (في تفسير القرآن الكريم) الذي تبثه بعض الفضائيات، ومن خلال رحلاته، وكتبه، التي لم يكن يكتبها بيده، ولم يخص بها دار نشر معينة للاستفادة من ريعها المادي، لأنه كان يعد عمله خالصاً لوجه الله، ويسعده أن يصل إلى مساحة أوسع من شرائح القراء، ومن يعمل لأجل الله، وفي سبيله، لا يأخذ أجراً على عمله، فما لله يبقى ويخلد، وما لغير الله يفنى، ولا يدوم!!
ربما كانت بعض دور النشر تقوم بتسجيل الحلقات التي يلقيها في الجامع شفاهة، ثم تقوم بطباعتها، وبيعها لمن يطلبها وهم كثر.. ربما نقول هذا استنتاجاً، تم ذلك دون علمه، ودون إذن منه، لأننا نشاهد من خلال التلفاز أجهزة تسجيلات، دون أن يمنع أحداً، ولم نقرأ أو نسمع أنه رفع دعوى ضد أحد مطالباً بحقوقه الفكرية.. كما لا نستبعد ترجمتها إلى لغات غير عربية.
كان يجلس في الجامع على كرسيه البسيط، بملابسه المتواضعة على الطريقة (الأزهرية) متدثراً بالجبة وعلى رأسه عمامة، أو طاقية بيضاء تشبه العمامة، وعلى أرض الجامع يحتشد حوله من يأتي لسماع تفسيره للقرآن الكريم، وأسراره، وعجائبه، ومعجزاته، وبلاغته العربية العبقرية، بأسلوبه (التفكيكي) لكل صغيرة، وكبيرة وكل مفردة لها دلالاتها، وأبعادها من مفرداته، بحيث قد يأخذ منه تفسير آية من آياته الكريمة ربع ساعة، أو أكثر من الوقت، وهو بأسلوبه في التفسير وطريقته لم يسبقه إليهما أحد من المفسرين ويتميز أسلوبه في التفسير باستعماله بعض المفردات، والعبارات، والأمثال العامية المصرية، ليس عجزاً منه أن يقولها بالفصحى التي يعد واحداً من فطاحلتها (1)، ومن المعروف أن من لا يتقن العربية الفصحى، فقهها ونحوها وصرفها وبلاغتها إلى جانب إتقانه العلوم الشرعية، من لا يتقن كل ذلك لا يعد مؤهلاً تأهيلاً اقتدارياً، وقدرة لتفسير القرآن الكريم.
قلنا إنه في استعماله (العامية) في أسلوبه التفسيري ليس عجزاً منه في لغته الفصحى التي هي (لغة القرآن الكريم)، وإنما ليزيد السامعين له في الفهم، وإيصال المعلومة، أو المفهومة إليهم بوضوح متجاوزاً أسلوب التعجيز و(الإبهام) و(الغموض)، لمعرفته أن بعض من يحضر حلقاته هم من الناس البسطاء ومن لا يجيد القراءة والكتابة.
ولعلي أكون على حق إذا قلت إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له مقولة تعني (خاطبوا الناس بما يفهمون)، لهذا كان يحرص لتوصيل، وإيصال رسالة معاني القرآن الكريم، وأسراره، باستعمال الوسائل المناسبة لهذا التوصيل، والإيصال، وله جمهوره الكبير في الأقطار العربية الذي يتابعون برنامجه الشائق، المشوق.
إنه العلامة فضيلة الشيخ محمد متولي شعراوي أحد ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث الشريف (الحسن) الذي رواه (أبو الدرداء) وأخرجه (أبو داوود، والترمذي, والدارمي).
قبل أن أتعرف عليه شخصياً، كنت قد عرفته من أول برنامج ظهر فيه من إعداد المذيع المعروف (أحمد فراج) الذي كان يقدم لفضيلته أسئلة في مختلف المسائل الشرعية، ومشكلات الناس الدينية التي لها علاقتها بحياتهم، فيرد عليها بما أوتي من علم غزير، وقدرة على الحجية المقنعة الصحيحة من خلال خطاب أجوبته السديدة، دون مواربة، أو تفريعات مذهبية، لأنه يستمد خطابه من (الكتاب، والسنة) وكان اسم البرنامج (نورٌ على نور).
ومن حسن المصادفات أن فضيلته قام بزيارة لصديقه الحميم، وتلميذه الدكتور محمد عبده يماني حين كان وزيراً للإعلام في نهاية عام 1395هـ كما أتذكر وللمعلومية فإن الدكتور (يماني) هو الذي استقطبه للعمل مدرساً في (جامعة الملك عبدالعزيز بجدة) حين كان مديراً لها قبل توليه وزارة الإعلام، حيث مكث فضيلته عدة سنوات بالمملكة.
قلت إنه من حسن المصادفات أن جاءت زيارة فضيلته في الوقت الذي كنت أعمل فيه سكرتيراً للشؤون الإعلامية والصحافية بمكتب الوزير الصديق العزيز الدكتور (يماني)، فكانت فرصة لي للتعرف على فضيلته شخصياً، وكان هذا هو اللقاء الشخصي الذي كان مصدر سعادتي.
ولشهرته، ومكانته الاجتماعية والدينية عُيّن في بلده (مصر) وزيراً للأوقاف، لكنه لم يستمر فيها طويلاً لأنه وجدها بمشاغلها، وتعدد مسؤولياتها ستشغله، وتصرفه عن رسالته الدينية الإسلامية التي وهب نفسه، وعلمه ووقته في الدعوة إلى الله، وهي رسالة أسمى وأنبل وأرقى من منصب الوزير، فقدم استقالته، في وقت يتكالب فيه الآلاف على هذا المنصب الكبير، ووجاهته الاجتماعية الرفيعة في رأيهم.
ولم يكن دوره متوقفاً على تقديمه البرامج الدينية، وعلى رأسها تفسير القرآن الكريم، المعجزة، بل كانت له نشاطاته الخيرية، وبخاصة في قريته (دقادوس) وأنشأ مجمعاً خيرياً أطلق عليه اسم (مجمع علي بن أبي طالب الخيري)(2).
أما اللقاء الشخصي الثاني والأخير بفضيلته فقد كان في منزل الصديق الدكتور هاشم عبده هاشم رئيس تحرير جريدة عكاظ بجدة الذي أقام له حفل عشاء مختصر، حضره صديق الجميع الدكتور (محمد عبده يماني) الذي لا أستبعد أنه كان يستضيف الشيخ في منزله خلال إحدى زياراته لأداء العمرة.
ولا شك أن أي مجلس يكون فيه الشيخ (شعراوي) يتحول فيه إلى القطب الرئيس للمجلس بحديثه الماتع، وعلمه النافع الذي لا تمل منه النفس، إن لم تطلب الزيادة، والإكثار، ومما يزيد من متعة حديثه أنه غير مكرور، ودائم التجدد، والتنوع في مسائل شتى، وأمور متعددة، تزيدها بهجة روحه الإسلامية الراقية، السمحة، وعذوبة أسلوبه، في تواضع إنساني آسر، دون تزمت، أو إسفاف، فهو واسع الصدر، رحب المعشر، مما يجعلك تتصور أن نشأته وأجزاء من حياته التي عاشها في القرية، وما تتميز به من بساطة، ولين التعامل قد أثّرت في شخصيته، وأثرت إنسانيته بكل ما جميل.
والمعروف أنه حفظ القرآن الكريم في وقت باكر من عمره، وما سمعته من ابنه الذي اقتفى أثره الشيخ عبدالرحيم الشعراوي، من قناة (اقرأ) الفضائية، في إحدى حلقات برنامج (المواجهة) الذي يقدمه (محمد بركات) أن والده العلامة كان سريع القراءة، والاستيعاب.. وهذا ما ساعده على الإلمام بكل مصادر ومراجع العلوم الشرعية، واللغوية، والأدبية، حتى أنه قال الشعر، لكنه لم يعطه ذلك الاهتمام المطلوب.
لقد كان نابغة من صغره، وكبر شأنه ليصبح علماً في قريته (دقادوس) قبل أن ينتقل منها، حيث كان يلجأ إليه أهلها في الملمات، للاستعانة بمكانته ووجاهته لدى الجميع، إلى جانب استشارته، والاستنارة بعلمه وحكمته.
ومن أطرف ما رواه ابنه (عبدالرحيم) أن والده كان يدرس في معهد أزهري بالزقازيق، وكان يسكن في شقة مستقلة، ولاهتمام والده به، وحرصه على سيره في الدراسة، كان يفاجئه بزياراته إلى (الزقازيق) من حين لآخر.
وفي واحدة من هذه الزيارات لم يجده في شقته، وحين استعلم عنه من الجيران قيل له إنه في شقة في الطابق العلوي، فصعد الأب ليجد ابنه الشيخ محمد متولي شعراوي يجلس بجوار فتاة يشرح لها ما غمض عليها في أحد الدروس!!
وقد فوجئ الشيخ بزيارة والده الذي طلب منه مرافقته لأمر مهم, وسار خلف والده دون معرفة الأمر المهم.. وحين وصلا الشقة سأله والده عن علاقته بالفتاة التي كانت تجلس بجواره في الشقة العلوية، أجابه بأنها فتاة أزهرية طلبت منه مساعدتها في شرح درس لها بحضور والديها.
رغم ذلك أسر الوالد في نفسه شيئاً لم يعلم عنه الابن، وهو يأمره بالعودة إلى القرية، فامتثل لأمر والده، وسافر معه إلى القرية.. وبعد وصولهما مباشرة طلب منه مرافقته إلى منزل خاله وحين سأل الشيخ عن سبب الذهاب إلى منزل خاله؟ أجابه الأب بصرامة: سأخطب لك ابنته؟ وتتزوجها بعد أيام قليلة وتسافر بها معك إلى (الزقازيق).
حاول الشيخ أن يقنع أباه أنه ما يزال صغيراً على الزواج، فهو في الخامسة عشرة من عمره، بينما ابنة خاله في الثالثة عشرة.. لكن الأب ظل على إصراره.. فذهب الاثنان إلى بيت الخال، وتمت الخطوبة، ومن ثم مراسم الزواج، ولم يعد الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى الزقازيق إلا وزوجته معه!
لن أحلل موقف الأب بأكثر من خوفه على ابنه, ورغبته في التفرغ والاهتمام بدراسته، ولأن حياة المدينة المنفتحة غير حياة القرية المنغلقة!
وقد لاحظت على فضيلته في أخريات عمره، الإعياء، وإجهاد السنين التي عاشها حتى أنهم في التلفاز المصري كانوا يحضرون (الكاميرات) إلى منزله لأخذ أحاديثه.
انتقل إلى رحمة الله في شهر صفر 1419هـ الموافق شهر يونيو 1998م إن لم تخني الذاكرة، وقد شيعت الجماهير الغفيرة جثمانه إلى مثواه الأخير تغمده الله بواسع رحمته جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.


alaui@alsafi.com
ص.ب 7967 الرياض 11472


(1) اختير بالإجماع عضواً في مجمع اللغة بالقاهرة.
(2) بداخل المجمع قسم للأيتام.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved