الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th July,2003 العدد : 20

الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1424

المرأة العاصفة
د.صالح زياد

تبدو العلاقة بين الصفة والموصوف في هذا العنوان مؤشراً على دلالة غير تقليدية او نمطية شعرياً، فالشعر ألف طويلاً صفة ساكنة للمرأة، وهو سكون يحيل الى صورة نموذجية تختزل المرأة إلى الصمت لا الكلام، والمفعولية لا الفاعلية، والمكان لا الزمان. ولهذا كان حضور المرأة في الشعر هو حضور الغزل والنسيب والتشبيب، حيث كلام الرجل وفاعليته وزمنه التي تتنزل المرأة منها منزلة ما يريده لها وبها. وهي منزلة انعكست على الرجل، مثلما انعكست على المرأة، فخرجت به الى دلالات غير واقعية تجرده من الالفة والضعف وتنحاز اليه بالقوة والشجاعة والكرام والغوث والحكمة والصبر والبصيرة. حتى ليمكن ان نكتشف في الغزل سيكولوجية الرجل وهو يتلمس دون ان يهتدي ربما معاني وجوده الانساني في المرأة، خاصة واننا نجد القدامى ينصون على ان الغزل بكسر الزاي من الرجال، هو من "كان متشكلاً بالصورة التي تليق بالنساء" وان الغزل بفتح الزاي هو "التخلق بما يوافقهن".
بما تحمله لفظتا "التشكل" و "التخلق"" من الافتعال الذي يحمل الموصوف بهما إلى غير شكله او خلقه المقرر ثقافياً.
هذه "المرأة العاصفة" هي الجزء الذي يحيل عنوان ديوان الشاعر عبدالله بن صالح الوشمي "البحر والمرأة العاصفة" الى دلالة شعرية عبر اجتماعها بواو العطف مع "البحر" بكل ما يفضي اليه هذا الاجتماع من تضايف وافتراق بين الطرفين يؤثر الدلالة بهما ويلج بها إلى تداعيات الذكر والأنثى والقوة والضعف والاتساع والمحدودية والحافة والوسط والانفتاح والانغلاق والمغامرة والجبن والمجهول والمعلوم والخلود والعدم والعنف والرقة والخصومة والعقم.. وهي تداعيات تحيل المرأة مثلما تحيل البحر إلى مزيج تتلاقى فيه دلالاتهما ويكتسبان ما يرفعهما عن مستوى المواضعة الإرشادية في لفظيهما الى حيث نرى في احدهما ما نراه في الآخر، فتتلبس المرأة صفحة "العاصفة" خارجةً من ضعف الانوثة الى قوة البحر ومن الوسط المغلق حيث العدم والعقم والجبن إلى الحياة والخلود والخصوبة والمغامرة.. إلى حافة الدنيا المفتوحة على الشمس والنجوم والبعيد والمطلق.
وبقدر ما يغدو عنوان الديوان إشارة منفردة ومستقلة عن قصائد الديوان، حيث لا يتكرر في احد عناوين القصائد كما جرت حديثاً عادة العنونة للدواوين والمجموعات الشعرية، فانه يؤشر على المعنى العميق الذي تتجه اليه القصائد، فهو كلها الذي تنتظم به اجزاؤها، وهو مركبها الذي تتناثر خارجه مفرداتها. وهذا المعنى العميق مخبوء في "البحر" و في "المرأة"، انه دلالة الايجار والانتظار التي تحيل الى البحث عن شيء ما عن سمكة عن لؤلؤة عن ارض عن وجود عن وطن او عن معنى.
لكن "المرأة" التي تحتل نصف عنوان الديوان، لا تحتل الا قصيدة واحدة من قصائد الديوان، تحت عنوان:" اوراق من سيرة امرأة".. فهل يعني ذلك ان لهذه القصيدة ثقلاً دلاليا يرتب الديوان عليها ويحيله الى امتداد لها وهوامش على متنها؟! او انها، على العكس من ذلك، هي النتيجة التي تفضي اليها القصائد الاخرى، بما يحيلها الى مادة الانتظار وهدف الابحار وموضوع البحث المبهم الذي يحفل به الديوان؟!
على اي حال، فاننا نواجه في هذه القصيدة فاعلاً مختلفاً عن الفاعل الذي تقوم عليه وبه القصائد الاخرى سواء كان المتكلم او الغائب.
وهو اختلاف يضيف صوتاً الى اصوات الديوان ولا يكاد يضيف دلالة، وهنا تكمن اهميته، اعني اهمية ان يكون صوتاً مختلفاً من حيث هو امرأة ومتطابق.. تقريباً.. مع فعل البحث والانتظار والابحار الذي ينهض به الديوان، في انزياح لافت بالمرأة وفعلها ونمطية همومها المعيشية والاجتماعية، مبدلاً صمتها كلاماً، وسكونها حركة، ومفعوليتها فاعلاَ، وضعفها وترددها صموداً ويقيناً وعناداً واعتداداً.
يقول:
الفتاة التي
بدأت رحلة البحث عن
أمها: الورقة!
لم تعد ابداً
لم تعد منذ أن ابحرت عبر هذا الشتاء الطويل
لم تعد رغم لسع العواصف
لكنها المرأة:" الحدقة!!"
انها ترحل، تماماً مثلما رحل الشاعر/ المتكلم في غير قصيدة، ومثلما رحل السندباد الذي تتكرر الاشارة اليه وينفرد بقصيدة معنونة باسمه، وهي وهم يرحلون بحثاً عن شيء ما. وتبدأ الفتاة رحلة البحث ولا تستأنفها، تماماً كما هي طبيعة فعل الديوان الراسخ في البدايات فشاعره "شاعر البدء".. اما بحثها فهو عن "الورقة" التي تحل محل "امها" فتغدو سبباً وجودياً لكينونتها، انها اذن تبحث عن الوجود عن سببه، وهي تبحر باحثة عما تفتقده ولا تعود رغم الاخطار التي تجعل عودتها اقرب الى امنها وسلامتها، والشاعر يكلها الى بصرها وبصيرتها مطمئناً الى فعلها.
ويمضي ليقول:
عندما بدأت تكتب الشعر قالوا لها:
انك الآن في بلد الانبياء.
فاخرجي!
انه ثمر لو طعمت حلاوته سوف تحترقين
فلا تدخلي
انه النار فالتمسي غيره!
ان تذودي! وان تحملي ذكراً او فكوني القمر!
انت مثل جميع النساء
انت لا تملكين الضياء!!
لم تعد الفتاة اذن لانها وصلت الى ما تبحث عنه، فبدأت "تكتب الشعر" اي ان الشعر هو الورقة/ الام التي رحلت للبحث عنها، انه وجودها الرمزي الذي يشير الى ممارسة التحليق والحرية وفعل الرؤية والرؤيا، انه العلم بعلاقات الاشياء وصورها التي يغدو تشكيل الفتاة لها امارة الهيمنة والسلطة والاقتدار على منازعة الحقائق ملكيتها وواحديتها.. وهنا يكمن الخطر من الفتاة وعليها في وسط الجماعة التي تبادر فتطلب منها الخروج لانها "في بلد الانبياء" كاشفةً، بهذه العلة، عن قداسة متعالية للواقع واطلاق لحقيقته بحيث يغدو صنيع الفتاة تدنيساً لطهوريته وشذوذاً عن انسجامه المطلق.
ولا يبدو اظهار خطرها كافياً لاقناع الفتاة فتمتد الجماعة بالتعليل الى بيان خطورته عليها في تناص واضح مع وصية الله تعالى لآدم وحواء التي غدت مخالفتها بالاكل من الشجرة الخطيئة الكبرى لها وفقدان العلو والنعيم والقرب من الله. وان عليها ان تعود الى الحقيقة المقررة لجنسها في عرف الجماعة "ان تذودي، وان تحملي ذكراً، او فكوني القمر" وهي الاشارات التي تختصر وجود المرأة، وظيفياً، في الخدمة والانجاب والامتاع الحسي، ولا يشفع لها اختلافها عن النساء في عرف الجماعة، فهي "مثل جميع النساء لا تملك الضياء".
ويعيدنا الفعل "قالوا" الى فعل الجماعة الذي رأيناه في قصة عبدالعزيز مشري وهو يحاصر المرأة ثقافياً، فارضاً عليها نمطاً من الوجود وصورة سلبية من الكينونة، وبذات الكيفية ايضاً التي تروج القيمة الثقافية عبر التماس بها مع المقدس والرؤية الى فعل المرأة بوصفه مضاداً للفضيلة والضوء ومنذراً بالفساد والخراب في صورة تتجاوزها الى الكل. ولا تختلف النتيجة عند عبدالله الوشمي عنها عند عبدالعزيز مشري، انهما ينتهيان بالمرأة الى الحزن والموت الذي تكتمل دائرته حين يقول الوشمي في آخر مقاطع القصيدة.
ايقظت ليلها وبدت شاعرة
كتبت كل شيء
ولكنها بقيت حائرة!
لم تجد نفسها!
لم تجد غير احزانها
ورماداً صغيراً
يسمونه:
ذاكرة!!
آه ايتها الشاعرة".
هكذا تنتهي القصيدة بآهة الشاعر، في انحياز واضح الى المرأة، تماماً كما رأينا انحياز عبدالعزيز مشري، فكلاهما يتخذ زاوية الرؤية في مسافة قريبة منها وبعيدة عن الجماعة التي تبدو متعالية ومتسلطة وذات قبضة حديدية. والشاعر الوشمي بعد ذلك واقع في اصداء وارجاعات عدد من شعراء القصيدة الجديدة في المملكة الذين برزوا في الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، لكن ذلك موضوع آخر.
هامش:
صدر ديوان عبدالله بن صالح الوشمي: البحر والمرأة العاصفة، عن نادي القصيم الادبي، بريدة، عام 1423هـ/ 2002م.
+++++++++++++++++++++++++++
zayyad62hotmail.com
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved