الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

المغزول(*) وست سنوات مرت على فراق المشري
محمد عبدالرزاق القشعمي

قرأت بألم بالغ روايته الأخيرة، بل الرواية التي غادرنا وهو يكتبها، فعندما تضاعف الألم وضع القلم على الورق وقال ل(فوزية) (1) أنا ذاهب كالمعتاد للمستشفى وسأعود لأكمل هذا العمل... وهكذا ذهب ولم يعد، بل بقي أياما في المستشفى ولم يخرج إلا محمولاً إلى مقبرة الفيصلية بجدة يوم 8-5-2000م حيث ووري الثرى رحمه الله.
عند قراءتي (للمغزول) كنت أتتبع مساراتها وما يأتي على ذكره من بعض الأحداث التي مرت عليه، وخصوصاً المشافي بين جدة والرياض والدمام وأمريكا خلال العشر سنوات الأخيرة، فقد تعمقت إذ ذاك علاقتي به وبالذات قبيل انتقال سكنه من الدمام إلى جدة حيث تم زراعة كلية له هناك ونجاحها وزيارتي له للتهنئة بمستشفى الملك فهد بجدة، وتعرفي إلى الدكتور فيصل شاهين الذي أجرى له العملية وتحول إلى صديق له بل ولجميع أصدقائه.
أقول: إنني من خلال تتبعي لمجريات أحداث الرواية - المغزول - ولمعرفتي ببعض أحداثها وكأنني أستحضر شخصية الراوي وأعايشه، فقد صادف أن أكون بجدة قبل وفاته بسنتين، وخلال شهر رمضان وأجدها فرصة أن أزوره في أواسط الليالي في منزله مع شقيقه أحمد في شارع المكرونة وقريباً من طريق المطار، وكنا نجلس إلى جوار شجرة المشموم الوحيدة في مدخل البيت، فكان أحمد يحمل أخاه - كما ذكر في الرواية كالحشرة مقطوعة الأرجل - فيجلسه إلى جواره على كرسي ونبدأ بالتحدث في كل شيء. وعندما نكون وحيدين يستعيد ذكريات القاهرة وسفرياته المتعددة لها وسكنه في فندق (أبو ديك) في الحي الشعبي كما ذكر في رواية (في عشق حتى) رغم معاناته المرضية، ولكن الحب لا جنسية ولا وطن له.
كان -رحمه الله- معجباً بأستاذي عبدالكريم الجهيمان ودائماً يحملني له السلام والتحايا.. ويذكر بفرح طفولي كيف تحققت أمنيته عندما رآه عام 1416هـ قبل عشر سنوات عندما كان منوماً في المستشفى التخصصي بالرياض قبيل قطع رجله الأولى، وقد تكررت زيارتي له مع الجهيمان أثناء بقائه هناك، وطلب من أبي أحمد - الأخ عبدالله حسين - أن يحضر آلة التصوير لأخذ صورة تذكارية معه في المرة القادمة. وهكذا كان.
تكرر خروجه وعودته للمستشفى.. وبدأت (الغرغرينا) تغزو جسمه وعندما قرر الأطباء بتر الرجل الثانية وتوقيعه بالموافقة خرج هارباً في الليلة السابقة لإجراء العملية، ليذهب بعد ذلك بأشهر إلى أمريكا التي قرر أطباؤها بتر الساق من الفخذ إذ سرت (الغرغرينا) في جسمه. وبقي عدة أشهر في العناية الفائقة، حتى عاد، وقد ذكرت ذلك للأستاذ الجهيمان الذي تحمس لزيارته حيث يقيم بجدة. فذهبنا معاً حيث استقبلنا الأستاذ عابد خزندار وذهبنا أولاً لزيارة الأستاذ عبدالله عبدالجبار يستعيد الجهيمان ذكرياته معه قبل ستين عاماً عندما كانا يدرسان في مدرسة تحضير البعثات بجبل هندي بمكة المكرمة عام 1360هـ.
كانت جدة وقتها تعوم على برك من مياه السيول، فانتقلنا إلى حيث ينتظرنا بشوق المشري وأخواه: أحمد وعبدالرحمن وغيرهم.. وعندما وصلنا وجدنا غرفة الاستقبال غارقة بالدخان والمعسل فخفت عليه واتصلت بصديق الجميع على الدميني لأشكو وضعه فرد علي: (دعه يستمتع ولو بلحظة فرح).
نعود بالقارئ إلى (المغزول) (3) وبطلها (زاهر المعلول) والذي بدأها ب(أين رجلي.. أعيدوا لي رجلي).
(..إن زمنا يقارب ربع قرن، ضرب فيه (زاهر) سفراً بعيداً من مصالحة المرض.. كان آخرها جرح (الغرغرينا) الذي تفاوض معه منذ أشهر تسعة فلم يكن نهاية عثرات المكرمين، الألم.. حتى وإن كان مفاجئاً محفزاً لغصة الوجع، لن يكون جديداً على خبرته، غير أن زعقة الممرضة التي نفذت كزعقة أوزة مخنوقة.. أوشكت أن تتدخل في صبره الجاهز بعضاً من مخاوفه.
لم يعد كما رأى اللحظة، بقادر على مصالحة المضاعفات، كان ذلك يخيفه.. لقد أدرك دونما أي استزاده في التجريب والوقت.. أن من الصعوبة جداً على امرئ فقد توازنه في ذات ظرف، أن يقف على قدم واحدة، وللمرة الأولى..!).
(..لكن.. كم من الوقت يحتاجه المبتلى كي يعلم الناس بضرورة التوازن ليتوازنوا مع فقد توازنه! شأن معدب فكر ان يتجنبه، أو يتجنب بقناعة ميسرة أن ليس للآخرين سوى الظاهر، أما حدائق الجمال المدفونة في بطن الطواهر، فهم عنها وفي غير غائبون..). ويتذكر أيامه الأولى وهو طفل عند بداية معرفته بمرض السكري فنجده يقول: (لقد عرف طعم المرارة وقت إذ يبكي أوساط الليالي وحيداً لا يجد قيمة الدواء الذي تستحيل الحياة بدونه، ابتلع معونات مهربة كما يبتلع كباب التراب، ودرس بعناية كيف يفرك أنفه في الجدران حتى ترعف من العزة ولا يقايض بمبادئه التي أولج بسببها هذا المصير..).
ويقول عن نفسه عندما أخذه جده قبل عشرين عاماً إلى حيث العلاج (.. حين أخذه جده محمولاً كالجرادة المنهكة من القرية البعيدة إلى المدينة الساحلية، وما أن كشف الأطباء مرضه المزمن في بدايته حتى بكى جدّه وفرح هو لأنه سيغيب عن المدرسة..).
ولكن (زاهر) يقفز بنا إلى حديث هو مع معاناته مع المرض وفي شهوره الأخيرة ومع ذلك لا ييأس فتقرأ قوله: (.. أيها العالم تقدم، فالزهور قوية بجمالها وشذاها ونقاء ألوانها، وأن المطر يستنطق شقوق الصخور بالانبات، وأن الطرف الصناعي ليس أكبر من أطراف الضلوع الباردة أمام دوران الأرض، وضحكة الشمس وغناء النجوم..).
ومع مواعيد المستشفيات وجداول الحضور وجداول الممنوعات وجداول الأدوية.. وألفته لزملائه المرضى.. ووجوه الممرضات.. ومع ذلك نجده يحن ويتذكر الأصدقاء فيقول: (..الأصدقاء جواهر حياته.. ونخيل حدائقه العالية التي تنبئ بالشمس والمطر، وحاجة الضلع اللافح لنسيم الهواء.. لم يكن في يوم قد أحس بحاجة إلى أقربائه، فهم من أولئك الذين يضخمون المآسي، أو يضيقون إلى المصائب مقادير مجانية لا علاقة لها بما يعاني.. يستطيع (زاهر) أن يبتهج ابتهاجاً لا ينفذ رصيده بأصدقائه، فهم يمدونه بالأمل والجمال والإنسانية..).
(..لقد قال يوماً لطبيبه، إنه يفضل الموت على أن يجد نفسه عاجزا). كان صادقاً.. ولم يكن قادراً على تصور أن يعيش بلا قدم... ثلاثة أشهر مكثها في الغرفة (505) (4) يفصل بينهما وبين التي رقد فيها قبل سنتين، وقت إذ أجريت له عملية زراعة كلية.. سرير.. لا بأس، فهو يعرف كل المرضى في هذا الجناح، وكل الممرضات، وعاملات التنظيف، وعمال المراسلات، حتى أصبح صديقاً ضمنياً للجميع، كره الإقامة في السرير وأجواء الممرات الرمادية، وطبق الطعام ذي الفجوات، ولون الأغطية الأزرق الداكن، والنافذة التي لا تستوعب من خلف زجاجها المغلق أبداً غير أسطح المنازل بالدور والدورين، المراهم صبغة (اليود) حبوب (الفلاجيل) المرة والتي تثير الغثيان والصمت، الحقن الست التي كتبت في جدول علاجه اليومي..)، (.. تمنى لو يخرج.. يخرج فقط من سجنه عرف أنا علاج لها سوى المقاومة والخروج إلى الرحابة.. الحرية التي لا تمني لها، ولا خسارة في فدائيتها، وعليه أن يملك الحجّة والقوة ليصل إليها..).
وهكذا كلما هاتفته من الرياض أو القاهرة أو دمشق إلا ويبادرك بالطرائف والنكت رغم معاناته وإذا سألته عن صحته شكر ومدح وقال إنه لا يشكو من شيء ويبدأ ينصحك ومطالبتك بالاهتمام بصحتك وكأنك أنت المريض وهو الصاحي ولهذا نجده يقول: لم يتعود أن يتذمر ممن يهاتفه أو يقاطعه، فكان في كل وقفه: sorry (آسف) يتزود بدفعة مجاملة، لا يريد أن يزعج أصدقاءه بأموره الصحية..).
وينصح من يتبرع له ينصحه أو وصفه (.. اسمعني جيداً.. أنتم تجيدون التنظير، وترون أن بهجة الحياة وجمالها خلقت لكم أيها الأصحاء، لكنكم تخافون من وخزة بعوضة، تخافون منظر الدم، تخافون أن يصيبكم الصداع، وتتعاملون بشفقة مع المرضى، لقد زرعتم في مفاهيم الناس، أن المريض جدير بالعطف، وأن كل المرضى في الحقل سواء.. دائماً تشتكون من الوهم.. والتوقع، والشكوك، واختلاط المواقف في تجديد المفاهيم.. ثم تشفقون على المرضى (مسكين فلان).. (فنجده يسترسل بفلسفته المعتادة قائلاً: .. الموت لا بد آت.. وأنت تتألم.. لأنك موجود، والوجود يعني الإحساس، والإحساس يعني أحقية الحياة، والحياة تنتهي بالعطف الساذج والإشفاق، ليس بفهمها وحبها وتمثل قيمتها الإنسانية.. فالموت في أمر صغير ليس كالموت في أمر عظيم، كله نهاية نبض لا نهاية قيمة..
ويعود بنا إلى طفولته وإلى القرية وإلى بداية المرض).. في القرية.. قال الذين عرفوا فطنته ومسالمته، وقت إذ نزل المرض الغريب بالعطش الدائم والتبول.. قالوا إن زاهراً ولد طيب، لا يستاهل العلة، لم يتخلف سنة في دراسته، ولا عصى أمراً لأهله في البيت، مثل يضرب به في الأخلاق والشطارة.. خذوه إلى الفقيه، لقد أصابته عين..).
(..بعد عودته إلى البيت بالقرية، لم يجدوا من لديه معرفة لحقن الإبر فكانوا يأخذونه على ظهر الحمارة إلى موقع سوق القرى، حيث الطبيب الذي يأكل ويشرب ويتنفس من ريالات الفلاحين والفلاحات.. بعد جمع البيض وصرم البرسيم والغزل والريحان وبيعه في السوق الجامع، فإن لم تقع في يد الفقيه، فهي لا ريب لن تحيد عن جيب الطبيب..).
ونجده يعود بنا إلى حيث هو بعد قطع رجله، (.. الآن، بفقد رجله: لقد اجتزت اليمني وقذف بها في كيس المهملات، في مكان تجمع فيه مخلفات الورق وبقايا الطعام، وحفاظات طمث النساء، وكمامات التمريض، وأعقاب السجائر، ألقيت رجل إنسان، حملته منذ أربعين عاماً، وجابت به حيث كان يوجهها، وفتكت بأنواع من الأحذية والصنادل والخفاف، وطاعته حينما أمر في طرفات الجبال والسهول..).
(..ما أصعب على الإنسان أن يتنازل عن أجزاء من جسده دون مبرر يرضي عنه! ما أصعب أن يرى أطرافه تفقد أمام عينه.
في حفرة وعيه وكامل إحساسه.. ولكن..).
وبعد أن سافر - إلى أمريكا - بأمل أن يدرك ما يمكن إدراكه من إبقاء رجله الأخرى ولكن الطبيب يخبره أن الوقت قد فات وأن القدم لا تكفي ولا ساق بل إلى جذع الفخذ لأنك تأخرت كثيراً إذ لو قبلت بما قرر طبيبك هناك لكان الوقت مناسبا.. ولهذا نجده وقد سلم أمره لله يقول.. (..موت! لا أرغب في مفارقة الحياة الآن.. ليكن في الغد، أريد أن أودع أصدقائي.. الناس.. كلهم أعزاء، وليس من الفضيلة ألا أراهم.. الزهور وُجدت قبلنا بثلاثمائة مليون عام (هيدي، هلا.. مش ضريبة).. (بدك طشت وطنجرتين، بخاطركم) ليل طويل. وهذه العبارات باللهجة الشامية أو اللبنانية التي دائماً ما يختتم بها حديثه معي ومع غيري بالهاتف كي يسليني وأنا السليم وهو يعاني ما يعانيه.
***
(1) وفوزية فتح الله ممرضة مغربية عملت لديه السنة الأخيرة من عمره ولحقت به بعد حوالي أربع سنوات.
(2) تعني بلهجة أهل الباحة المجنون.
(3) المغزول، آخر أعمال الروائي الراحل عبدالعزيز مشري، ط1، دار الكنوز الأدبية بيروت.
(4) مستشفى الملك فهد بجدة.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved