الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

أساطير العنف الجديدة (2)
فاضل الربيعي

سوف أرسم إطاراً ذهنياً عاماً لفكرة الترابط هذه، بين العنف والتضحية والسيطرة على الجموع؛ بما يمكن للمتلقي من الحصول على تصورٍ جديد نسبيا عن الموضوع.
أولا: مجتمع اقتصاد العنف
يقوم مجتمع اقتصاد العنف على قاعدة وحيدة لإعادة إنتاج نفسه: دفع الأفراد والجماعات المؤلفة للسكان للعيش في قلب حالة طوارئ قصوى ومستمرة، يبلغ فيها الخوف من السلطة والخطر الخارجي في آن واحد أقصى درجة ممكنة.
إن نموذج هذا المجتمع يتجلى على أكمل وجه في الواقعة التالية: أثناء الحرب العراقية - الإيرانية أشاعت حركة (الحجتية) المنحلة (أسسها الشيخ محمود الحلبي وكانت معادية للخميني في المراحل الأولى من الثورة ثم التحقت به) وفي سياق جهودها للتعبئة العامة من أجل الحرب، أسطورة تقول إن الإمام الخميني التقى على الحدود مع العراق ووسط لهيب الحرب الإمام الغائب، وأن هذا وعده بالنصر المؤزر على العراقيين.
ما إنْ انتشرت هذه الأسطورة حتى كان الآلاف من الشباب الإيراني المتحرق شوقاً للقاء ورؤية الإمام الغائب( المهدي) يندفعون نحو الجبهات مستسلمين للموت.
قد لا يبدو توظيف الخطاب الأسطوري في حقل السياسة، مجرد عمل دعائي أخرق تقوم به هذه الجماعة السياسية أو تلك، بمقدار ما يفصح عن نزعات وميول لرؤية الطاقة الكامنة في المجتمع والثقافة؛ وقد تقبلت هذا النمط من الدمج ومن دون إعاقة. ولنتذكر أن الرهبان في حروب الفرنجة كما يذكر ابن الأثير وأسامة بن منقذ، استخدموا أسطورة عن ضياع سيف المسيح زعموا فيها أن من يعثر على السيف يكون قد جلب النصر على المسلمين.
بهذا المعنى يتحول المجتمع المعاصر بفضل المثيولوجيا وتحت تأثيرها، أي تحت تأثير الدمج بين الصور، إلى مجتمع يقوم على نوع من اقتصاد عنف، تنتج فيه القوى المسيطرة أشكالاً غير مرئية من السيطرة والنفوذ على جمهور، لا يتوانى عن اعتبار نفسه خارج عملية الإنتاج.
وهذه سوف تبلغ ذروتها مع الاستحواذ عليه وتوجيهه والتحكم فيه واستعباده.
لقد اتسمت حقبة النضال من أجل الاستقلال الوطني في العالم العربي، وإلى حد ما حقبة ما بعد الاستقلال مباشرة، بتطور أشكال وأساليب استخدام وتوظيف (العنف) كأداة في حسم الصراع ضد أعداء (خارجيين) أو ضد أعداء (داخليين) كانوا يواصلون إعاقة هذا الاستقلال أو مصادرته. وكان من الجلي، بالنسبة لمناضلي حركات التحرر العربية طوال حقبة الخمسينيات ومطلع الستينيات، أن السلطة لم تكن لتعني شيئاً آخر سوى تنظيم العنف من أجل مواصلة أو معاودة الصراع بزخم أكبر، قصد الحفاظ على (المكاسب الجديدة). على أن فكرة استخدام العنف ضد جماعات أخرى (استعمارية مباشرة) أو (محلية غير مباشرة) غالباً ما ارتبط في الحقب التالية، بتحول مثير في منطوق الفكرة الأصلية؛ فبعد أن كان العنف في مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني والاستقلال، يتمحور حول قوة كولنيالية خارجية، بات في مرحلة ما بعد الاستقلال يتمحور على العكس حول (قوى اجتماعية) محلية منافسة.
ولذلك غالباً ما ارتبطت فكرة نشر الاستقرار وتوطيد أشكال السيطرة الجديدة على الجموع، أي على الجماهير وإعادة تركيب قواها داخل المجتمع، بفكرة الاستحواذ على جزء أو كل السلطة السياسية فيه، حتى وإن تطلب ذلك إشاعة أنماط من العنف؛ الذي يجب أن ُيضفى عليه كل ما يلزم من المشروعية وربما التقديس.
وفي هذا الحيز نشأت الصورة المريعة التي لا تزال رائجة حتى اليوم، عن النخب السياسية الحاكمة بوصفها (استعماراً محلياً) أكثر بشاعة من الاستعمار القديم الذي ناضلت ضده.
وبالفعل؛ فغالباً ما يصادف المرء شباناً ساخطين في العالم العربي وهم يرددون فكرة أن الحكام المحليين هم امتداد طبعي للمستعمرين القدماء؛ أو يستمع بدهشة إلى التعبير الفظيع الآتي: الاستعمار الوطني، وذلك في معرض وصف النخب المحلية التي حلت محل النخب الاستعمارية. بهذا المعنى سيكون لدينا مفهوم آخر للسلطة يتنازع فيه قطبان: الحاكم المحلي والحاكم الاستعماري.
كان جورج سوريل (في كتابه تأملات في العنف) من أكثر مروجي نظرية السياق الأيديولوجي للأسطورة. وعندما سعى إلى تقديم تحليل جديد من منظور الأسطورة لفكرة الإضراب العمالي العام، وقام بقدر قليل من الحصافة بتحليل الثورة الروسية الكبرى والأساليب التي طبقها لينين في إسقاط القيصرية، فقد انتهى إلى تقرير حقائق زائفة ليس لها أدنى قيمة. لاحظ سوريل أن الحركات الاجتماعية تجنًد أتباعها بتصوير أنفسهم كمناضلين من أجل قضية منتصرة في النهاية. بيد أن تحليله لمعنى وجود خطاب تعبوي قادر على اجتذاب جماعات مناضلة، توقف عند حدود تكريس نقد من طبيعة دعائية ضد ما اعتبره هو (جانباً دعائياً) في الثورة الاجتماعية المعاصرة. بكلام آخر، انتهى السياق الأيديولوجي للأسطورة على يد سوريل، ومن ثم على يد مريديه أو من هم على خطاه في العالم العربي، إلى إنشاء منظور سطحي لخدمة عمل دعائي؛ مكرس بالكامل ضد هذه الحركات وليس لخدمة العلم.
عندما كتب سوريل كتابه هذا، كانت هناك في الطرف الآخر من العالم، أي في الولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً في ثلاثينيات القرن الماضي، محاولات محمومة من أجل (تخليص الدين من الأساطير). ومن الواضح أن كتاب مرسيا إلياد (التكرار الأبدي وفي ترجمة أخرى العَوْدُ الأبدي) جاء في هذه الأجواء المشحونة بالجدل، وذلك حين صمم إلياد على البرهنة على أن ما يحكم العلاقة بين الدين والأسطورة، إنما هو نظام ثقافي، يكرر فيه الإنسان منذ الأزل وحتى اليوم حنينه المثيولوجي لما كان فعله في الماضي. وكانت تلك قراءة افتتاحية مذهلة ساهمت إلى حد كبير في نشر مفهوم جديد ومغاير للأسطورة في أوروبا كلها.
وكما كتب أ.رتشارد عام 92 فإن الإنسان بلا أساطيره ليس سوى حيوان فظ بلا روح. في هذا الإطار تجدر ملاحظة أن العنف في معظم مجتمعات العالم القديم، وحتى عند القبائل البدائية، يظهر في صورة كائن مخادع أو مُمْتلك لقابلية خداعه هو. كما يمكن ملاحظة أن سائر مجتمعات العالم القديم لا تمتلك، ولم تكن تملك في أي وقت، تصوراً موحداً للعنف، فهي ترى إليه تارة بوصفه كائناً مقدساً وحارساً لحياتها من (عنف) آخر مدنس، خارجي وشرير يتربص بها، وتارة أخرى تنظر إليه في صورة عنف أهوج (داخلي) يهدد حياتها بالفناء.
في الحالة الأولى، وحيث يتبدى العنف بوصفه كائناً مُخادعاً، فقد نظرت سائر المجتمعات القديمة إليه، بما فيها مجتمعات القبائل العربية في طفولتها البعيدة، ككائن مقدس يمكن بواسطة الاستسلام له، وعبادته أو التسليم بقوته الخارقة؛ ولنقل الحصول منه على الحماية وتأمين شروط فعالة للاستقرار. وهذا ما يفسر لنا سر انتشار عبادة - الشيطان في المرحلة الطوطمية.
لقد عبد العرب القدماء والمصريون، في وقتٍ ما من تطورهم التاريخي، الإله الصحراوي شيت (سث) وهو إله/ شيطان يمتلك قوة خارقة، جسدته المصورات المصرية القديمة في هيئة كائن شرير دميم الخلقة (وهو عند الإخباريين العرب ابن آدم: النبي شيت).
إن الفكرة الأصلية التي قبعت خلف (ثقافة الغزو) القبائلي عند سائر المجتمعات القديمة، قد لا تتصل بالضرورة بتأمين مصادر العيش والحياة فقط من خلال الاستيلاء على أراضي وحيوانات القبائل الأخرى، بمقدار ما ترتبط أيضا بالنزوع إلى فرض الآلهة على جماعات أخرى، وإخماد شرور (معتقداتها) التي تجلب الجفاف والموت.
إن الحروب الدامية بين يشوع وأعدائه والتي صورتها التوراة بالتفصيل (خصوصاً، في السفر الخاص بفتح يريحو) تبدو من منظور شكلي كما لو أنها هدفت للاستيلاء على الأرض. ولكن تمعناً أكثر راديكالياً في بواعثها يمكن أن يفصح، إلى جانب هذا الدافع، عن دوافع أخرى تتصل بالتوسع الديني. ومن حيث الجوهر، يبزغ هذا النزاع المرير بوصفه نزاعاً بين مجتمع الدين ومجتمع الأساطير.
كل الأديان الكبرى سعت إلى حسم هذا النزاع بين المجتمعين القديمين؛ والإسلام نفسه منظور إليه من هذه الزاوية سيبدو تجسيداً لحقيقة هذا التنازع الأزلي والمستمر بين نموذجين من المجتمع، أحدهما تسيطر عليه منظومة سردية جديدة، تقوم على قواعد وأسس تشريعية ناظمة للعلاقة بين الفرد والخالق، وبين الأفراد أنفسهم في المجتمع وهذا هو مجتمع الدين؛ وآخر تسيطر عليه سردية بدائية تحررت من كل أشكال الحدود والتشريعات الناظمة لهذه العلاقة وهذا هو مجتمع الأساطير.
إن الإطار التاريخي التقريبي، الذي نرسمه هنا، للنزاع بين المثيولوجيا (الأساطير) والدين، يوضح الطريقة التي انتهى فيها إلى نوع من الدمج بين المفهومين، تماماً كما نعيش اليوم دمجاً مماثلاً بين المثيولوجيا والسياسة؛ وإلى الدرجة التي أصبح فيها متعذراً التمييز بين ما هو تشريع ديني أي الحدود والمحرمات وبين ما هو أسطوري.
في المجتمع البدائي كان النزاع يدور بين المثيولوجيا والدين، ويتخذ في غالب الأحيان طابعاً شكلياً يتركز الانطباع من خلاله، بأنه نزاع من أجل فرض آلهة وأفكار جديدة.
أما في المجتمع ما بعد الصناعي (الحديث) فإن النزاع يدور على جبهة موازية: المثيولوجيا والسياسة، ولكن من أجل فرض (آلهة) ومعتقدات ما بعد صناعية، وهذه هي التي دفعت بعض الصحفيين والشعراء في مطلع القرن قبل الماضي ومع بزوغ الرأسمالية، إلى التخلي عن آلهة الأولمب لصالح أبطال العصر الرأسمالي.
بهذا المعنى يغدو الصراع القديم المستمر، والذي حكم تطور المجتمع البشري منذ الخليقة حتى اليوم، صراع أفكار متماثلة أو متشابهة (توائم).
إذا ما شبهنا الأفكار والمعتقدات بالأطفال التوائم، الذين كانوا يثيرون الذعر في المجتمعات البدائية كما لاحظ جيرار، فإن صراع السرديات المحتدم والمطرد، يمكن أن يتبدى في صوره الرمزية الساطعة وبالفعل كنوع من صر اع توائم. إنها أفكار متشابهة إلى حد مثير للقلق والفزع (الأفكار المتشابهة في العصر الحديث مثل التوائم في المجتمع البدائي يمكن أن تجلب الشرور على المجتمع).
ففي المجتمع البدائي ليس الآخر غريباً أو يمكن (تغريبه) عند الحاجة وحسب، وإنما كعدو محتمل ما دامت هناك فكرة أخرى تسيطر عليه وتحركه، هي في النهاية غير فكرتنا نحن، وأن مهاجمة خطره الكامن والمتستر بدلاً من انتظاره، يمكن أن تجنبنا الفناء والموت أو الاستسلام.
أما في المجتمع الحديث ما بعد الصناعي، فإن الآخر يصبح قابلاً للتغريب بسهولة بفعل الدوافع ذاتها. إنه لا يشبهنا بما فيه الكفاية؛ أي ليس (توأمنا) المطلوب الذي يتعين علينا أن نجعل منه متماثلاً أو قابلاً للمماثلة، سواء بواسطة الصراع معه وضده أو بواسطة السيطرة المباشرة عليه. وهذا ما تفعله اليوم إيديولوجية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية؛ الذين يسعون إلى فرض التماثل على الآخر، غير الأمريكي أو غير الغربي. بهذا المعنى المحدد أيضاً تصبح المعتقدات الدينية والأسطورية القديمة والحديثة، متلازمة بصورة مدهشة على مستوى إنشاء صورة للآخر كعدو.
واليوم تتجلى هذه الصور بأنصع أشكالها مع تنامي وانتشار أسطورة العلاقة بين الإسلام والإرهاب في العالم الغربي، وحيث تنشئ وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية كل يوم صوراً مفزعة للتوأم العربي المسلم، الذي لم يستكمل توأمته (تماهيه) مع الآخر الغربي، أو أنه قام عمداً بتعطيل وإعاقة إمكانية تماثله مع هذا الآخر.
إنه يظهر كعدو محتمل لا بد من مهاجمته قبل أن يهاجمنا، ومن أجل إرغامه على مواصلة تطوير تماثله إلى الدرجة التي يصبح فيها نوعاً من توأم. أي أن يصبح مثلنا ( نحن الآخرين أي الغربيين) وهذا هو منطوق الحملة الغربية التي تلخصها صرخة دانييل بايبس:( إنهم يهاجمون قيمنا. متوحشون. إنهم يكرهون حضارتنا).
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved