الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (1من 12)
محددات المثقف الحديث

يشار في هذا السياق إلى أن أول نص يظهر فيه مصطلح (المثقفين) (les intellectuals) كان بيانا قد نشر في كانون الثاني / يناير 1894م وهو البيان الذي صدر إثر قضية دريفوس(Alfred Dreyfus) وقد وقع عليه اميل زولا وعدد من كبار الكتاب الفرنسيين، منهم أناتول فرانس، ومارسيل بروست، وليون بلوم، وقد حمل اسم (بيان المثقفين).
ان توقيع البيان باسم المثقفين كان إشارة إلى انخراط الكاتب في الشأن العام، أو ما سيطلق عليه سارتر بالمثقف ذي (الأنف الطويل) الذي يحشره في كل الحيزات المجتمعية والسياسية، وهذه الوظيفة كانت نتاج الأزمنة الحديثة: حيث قيام مجتمع المواطنين على أنقاض مجتمع (الرعية - العامة) التي لم يكن الكاتب القديم ليأبه لها في توجيه الخطاب؛ لأنها لم تكن طرفا في المعادلة السياسية، ولهذا فإن الكاتب القديم وهو كاتب سلطة بالضرورة يخضع (العامة) عبر احتكار سلطة المعارف الدينية، وتتبدى صورته في التراث العربي في دور (الفقيه)، أو في صورة كاتب الديوان، أو المسامر، لتسلية الحكام والأعيان في مجالس الأنس والطرب. لكن مع نهاية القرن الثامن عشر - أوروبيا - مع اتساع قاعدة القراء وتطور وسائل النشر والطباعة، وانتشار التعليم، ومن ثم اقرار المبادئ الحقوقية الدستورية التي تجعل من (الشعب - الأمة) مصدر السلطات، بدأت سلطة (الرأي العام)، وبدأ طموح المثقف للتأثير به بل وقيادته، اذ ان الطباعة والنشر وتوسع التعليم لا يكفي بدون ان يكون مؤسسا على فلسفة سياسة دستورية مدنية ديموقراطية تكفل حرية النشر والتفكير والتعبير، وواقع المجتمع العربي اليوم يعطينا مثالا عن استيراده أفضل التقنيات في النشر والطباعة والتوزيع، لكن تغول السلطة العربية منذ وأد الدولة الليبرالية الدستورية، افترس سلطة الرأي العام والمجتمع المدني.
ويأتي في هذا السياق نموذج فولتير كمجسد لهذه السلطة (سلطة الرأي العام) الذي استقبلته باريس سنة 1778 استقبال البطل المظفر، وهو الذي كان قد تعرض للملاحقة والاضطهاد والجلد والسجن، لقد احتفت به باريس ليس على المستوى الشعبي فحسب، بل حتى على مستوى المؤسسات العلمية والأدبية والفنية التي خلقتها الدولة نفسها، مثل الأكاديمية الفرنسية ومؤسسة مسرح الكوميديا الفرنسية.
وفي هذا السياق، سياق تاريخ ولادة المثقف الحديث، مثقف المجتمع المؤثر في الرأي العام الفاعل، يقوم الدارسون لتقصي بدايات هذا التدخل للمثقف في الحيز العام، وذلك عندما يكتب فولتير رسالته الشهيرة: (رسالة في التسامح) 1763 فيما سمي بقضية كالاس (Callas)، وذلك قبل قضية دريفوس بمئة وثلاثين عاما. لقد كتب فولتيير مادة (تعريف الكاتب) في انسيكلوبيديا الأنواريين، بما يتجاوز المعنى المعجمي، وبما يتلاقى مع معنى الكاتب الذي كان فولتير ذاته: حاملا الحداثة، ومجددا الصناعة، وداعية للتغيير فالكاتب بالمعنى الحديث لم يعد حيزه البلاط (مسامر - مسلي - شاعر أو أديب) أو الجامع (فقيه - محدث - متكلم - نحوي). (راجع: علي اومليل - السلطة الثقافية والسلطة السياسية)
ما الذي يميز الإمام
عن كتّاب زمنه في القرن 19:
إن محمد عبده هو الأصغر سنا بين مجموعة الأسماء النهضويين الذين عرفهم القرن التاسع عشر (الطهطاوي 1801 - 1873، خير الدين التونسي 1810 - 1899، فارس الشدياق 1804 - 1877، بطرس البستاني 1819 - 1883، وأخيرا جمال الدين الأفغاني 1839 - 1897) بينما الامام عاش بين 1849 - 1905، اذ هو الوحيد الذي عاش بعد القرن التاسع عشر، واتصل ببدايات قرننا العشرين.
ان ما يميزه عن الطهطاوي ان الأول ترجم الدستور فكان مبشرا به لكن لم تكن له - على الأقل وفق شرط زمنه تحت سلطة محمد علي - ان يجعل منه خطة عمل، بل كان لا يزال في طور النظرة إلى الحاكم وفق معايير قروسطية يقول: فالحاكم مسؤول أمام الله فقط وليس له من دون الله ديان سوى ضميره، أما رعاياه فعليهم واجب الطاعة المطلقة له. (الطهطاوي - مناهج الألباب... ). بينما محمد عبده جعل الدستور على (أجندة) برنامج حزبه الوطني، وهو في البند الثاني من البرنامج الذي صاغه محمد عبده في ديسمبر 1881، يشترط على الخديوي توفيق مقابل تأييده، شروطا يرفض أي حاكم عربي حتى اليوم أن يتقبلها في برنامج حزب سياسي. يقول عن حزبه الوطني: هذ الحزب يخضع للجناب الخديوي الحالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في شهر سبتمبر سنة 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبا وقالبا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون اليه الاستبداد والاجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بانجازها. (الأعمال الكاملة- جمع د. محمد عمارة -ج1-ص401). أو ربما يعود التمايز بين دوري (الطهطاوي - عبده) بالإضافة إلى ذلك أيضا إلى اختلاف تحديات اللحظة الثقافية التاريخية بين الرجلين - الرعيلين، إذ ان الطهطاوي كان يستقطبه سؤال لحظته المتمثل بهاجس الجيل الأول الذي كان يتوجه لقارئ تقليدي يهدف إلى إقناعه بأن من الممكن قبول الطريقة الغربية دون التخلي عن الأصالة، وأن الحداثة الأوربية ليست تهديدا، بل ينبغي قبولها كطريقة حياة، وعلى هذا (فلم تكن فكرة الطهطاوي عن الدولة، بالرغم مما شاهد في باريس، فكرة ليبرالي القرن التاسع عشر، بل كانت الفكرة الاسلامية المأثورة، فللحاكم السلطة التنفيذية المطلقة، إلا ان ممارسته إياها يجب أن يحد منها احترامه للشريعة ولحراسها...). (البرت حوراني - الفكر العربي في عصر النهضة).
لقد ظل العقل الطليق للطهطاوي مشدودا لأوتوقراطية محمد علي الذي ظل الطهطاوي وفيا له عرفانا بجميله، بالاضافة إلى اعجابه بهذا الرجل الذي حرر مصر من قبضة المماليك وقادها في طريق التقدم ( الطهطاوي - المصدر السابق -ص206). فلقبه بالمقدوني الثاني، اذ كان محمد علي نفسه يشعر بالشبه بينه وبين الاسكندر، كما كان يقرأ حياته بلذة، في حين أن محمد عبده عبر عن وعي الجيل الثاني، بما يتناسب مع منظومته لوعي المثقف الحديث الذي بدأ يغدو مخاطبا المجتمع وبدأ الشعب يدخل ساحة التاريخ (ثورة عرابي مثلا). وعلى هذا كان محمد عبده في لحظة زمنية تجعله قادرا على الحديث عن أن الحكم هو حكم إلى الشعب إلى حكم الشورى واطلاق عنان الحرية للمصريين ورفض الاستبداد.
وذلك - أيضا - بعد ولادة القارئ الحديث الذي أنجبته المدارس الأوروبية، التي وضعت مهمة اقناع هذا القارئ بعدم التغرب والانسلاخ والذهاب بعيدا عن الهوية الاسلامية التي راح الامام يجعل منها اشكاليته المركزية، في صيغة أن الاسلام لا يتناقض مع قيم العصر، كما أسلفنا. هذه النزعة الدستورية الشديدة في منافحتها عن الحريات ومناهضة الاستبداد، ستكون إحدى نقاط تمايز رأيه في تقييم ظاهرة محمد علي مع أستاذه الأفغاني الذي كان يكن الاعجاب لدور محمد علي في تاريخ مصر، بينما كتب الامام نصا من أرقى النصوص في الكشف عن الوجه الاستبدادي الطغياني لمحمد علي المدمر لانسانية المصري، وهو نص يتمتع بباصرة نافذة وعبقرية في كشف هذا النموذج من الحكام الذين سيبتلى بهم العالم العربي بعد أكثر من قرن ونصف على نموذج محمد علي، الذي سيتكرر في صورة ما سمي بالأنظمة (الثورية)، وسنعود إلى هذا النص التقييمي لمحمد علي ولبرنامج الحزب الوطني الذي صاغه الامام في سياقات أخرى.
والأمر ذاته ينطبق على خير الدين التونسي (1810 - 1899) الذي كانت تشغله اشكالية الطهطاوي: وهي الاشكالية القائمة على سؤال: كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث، دون أن يتخلوا عن دينهم؟ وهي اشكالية - كما لاحظنا - ستتحول مع محمد عبده إلى معادلة يقدمها في صيغة أن العالم الحديث لا يتناقض مع الاسلام، فلا تتخلوا أيها الحداثيون عن الاسلام!. ولقد أتيح لخير الدين التونسي مواقع عديدة تتيح له أن يضع برنامجه الدستوري موضع التطبيق، فقد أصبح رئيسا لوزراء تونس في السبعينات من القرن التاسع عشر، فلم يقم بأي مسعى من أجل إعادة الحياة الدستورية إلى تونس، بل قد عين صدرا أعظم في استانبول، وكان عبدالحميد قد علق الدستور بعد أن أصدره، ورغم طموح خير الدين إلى أن يكون ابن خلدون الثاني لتونس لكنه ظل محافظا ومتأخرا عن أفق الطهطاوي الذي التقط فكرة (الأمة - القومية) في حين ظلت في خطاب التونسي (الأمة الاسلامية) رغم أن كتابه (أقوم المسالك في معرفة الممالك) لا يشير إلى مدى سعة اطلاعه على التراث الاسلامي فحسب، بل يجد القارئ إحالات كثيرة إلى مراجع تظهر أنه اطلع على مونتسيكو وبوليبوس، (مترجم جان ستيوارت ميل)، بل ورحلة الطهطاوي الباريسية ذاتها.
مع ذلك فقد كان بعيدا عن التقاط روح (القومية الحديثة) التي كانت أبرز مميزات الانتقال من مرحلة الاقطاع إلى الرأسمالية الحديثة. بينما سيكون مشروع محمد عبده مشروعا وطنيا مصريا وفق مفاهيم (القومية الحديثة) رافضا بعمق السلطنة العثمانية التقليدية المتخلفة، ولم يقبل من حضورها إلا التعبير الرمزي الإسلامي، في مواجهة النفوذ الفرنسي الذي كان يناصبه العداء بمناصبته هذا العداء لأسرة محمد علي الأوتوقراطية. بالاضافة إلى أن مشروع محمد عبده ظل باستمرار مشروعا مجتمعيا، من موقع الصحافة، أو العمل السياسي المعارض في العروة الوثقى، أو التدريس وولعه بأولوية التربية بمثابتها معادلا للوعي الاجتماعي وفق المفردات التي يتداولها خطابنا المعاصر، ومن ثم معركته لإصلاح الأزهر علميا وفقهيا، ودوره في إصلاح النظام التشريعي الإسلامي من خلال إطلاقه باب الاجتهاد والتأويل.
وفي الفترة التي غدا فيها مفتيا للأمة المصرية، كان منهمكا في تفسير القرآن استجابة لأسئلة زمنه وتحديات عصره إذ هو يؤسس لولادة دور المثقف الحديث المشاكس الذي سيتفرد بتاريخ الفكر العربي الحديث بدخوله السجن، وعيشه في المنفى، في سبيل مشروعه الفكري والثقافي والسياسي على طريق التأسيس لحداثة اسلامية فحواها النزعة الدستورية الديمقراطية.


د. عبدالرزاق عيد
abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved