لحظاتٌ باقية
محمد نور عبد الله رمضان
|
دوَّت صافرة البداية لتعلن للملأ بأني آت، بدرت مني صرخة خوف وفرح، سأم وملل، بكاء وحزن.. اختلطت ببعضها البعض عبقت بهو المكان، زغرودة متقطعة اندست بينهما بلهفة شوق تبارك طيب اللقاء.
هكذا ولدت غريباً وأيقنت أني جئت من ماض بعيد واسمي خالد ضاربة جذوره في قاع التاريخ، سطر ببقايا مداد ارتجفت أناملي ولم تقو على حمل اليراع اندثرت معالم حروفه وسط الزحام، ومثلها ترعرعت بين فكي هزبر يداعبني، يدلنني، يهمس في أذني تارة ويدفعني إلى عالم المجهول تارة أخرى، أتعلق بحاضر لم يأت بعد أناجيه، أتوسل إليه يرمقني بنظرة عطف ويصد عني.
رفاق الصغر يهربون مني يعلمون أني لا أنتمي إليهم.. يقتربون مني بحذر، الأسئلة الحائرة تلمح في سواد عيونهم، عقولهم الصغيرة لا تستطيع فك شفرة طلاسمها.. لعبي حزينة.. أفكاري خاملة لا تجدد.. طموحاتي محدودة.. هواياتي لا شيء تطلعاتي للمستقبل والزاوية الحادة التي أنظر بها للحياة لا تمثل عالمهم، عالمي يعترف بالوحدة.. عالمي لا يعرف إلا الانطوائية والعزلة.. عالمي يحبذ السكون والسكينة الغربة هي ديدني، هكذا نمت وعشعشت في كياني.. صارت جزءا مني أتنفسها.. تسري في دمي.. أتناولها وجبة غذاء دسمة.. دراستي الأولية شعارها المعاناة.. إثبات ذاتي صعب المنال.. النكوص يقودني إلى حافة الهاوية. حاولت ارتقاء عتبات سلم الزمن تعثرت قدماي، تحاملت على نفسي، جنيت زحمة حروف رتبتها، نثرتها في قراطيس ناصعة البياض، تموقعت بين السطور، تنافرت وتجاذبت، شكلت كليمات تراصت مع بعضها البعض، أعطت جملا فهم معناها تذوقها بعضهم، احس بحلاوتها، التهمها بشراهة.
دفاتري تتوق للانفلات من بين يدي، يراعي يتمرد يبكي على القراطيس بحرقة، دموعه الداكنة تركت بصمة حزن على جبين الورق، الأيام تمضي بتثاقل، الحصص اليومية تزحف بسلحفائية، معلمو المواد كما هم!! طريقة سردهم للموضوعات لم تتجدد، معلم الرياضيات كعادته لم يأت بمذكرة، يلج الفصل بعفوية، قميصه المحزق يخترق سكون الصمت بعنف، خطوطه المتقاطعة نسجت في عقولنا ورسخت فيها رسوخ النظريات الرياضية، الدهر أكل منه وشرب.
معلمة الإنجليزية لم تكف عن ثرثرتها خارج الفصل، تدخل بجرأة وتلقي علينا تحية الصباح، شعور غريب وإحساس عجيب دب النشاط من جديد وهرب الخمول من النافذة الكل ينصت إليها، الأفكار الشاردة عادت بقدومها، تنورتها الصفراء تنير ظلمة الحجرة، صوتها الجهور جلجل في أركانها! صاحت بقوة محذرة زميلنا المنزوي في نهاية الفصل: (صه صه يا.. ألم تتغير ضحكتك البلهاء، كل شيء في الدنيا تغير إلا ضحكتك وقميص معلم الرياضيات المزركش هكذا قالتها ساخرة).
انفجرنا ضحكاً، رن جرس الراحة وانطلقنا إلى منازلنا تسابقنا نفحات الحرية، القيود التي تكبلنا تكسرت، المتاريس التي تقف أمامنا انزاحت، الجدار الذي يأوينا تهدم، شجيرات القرية تتمايل تغازل بعضها بعضا إلا شجرة السدر أمام منزلنا ساكنة واجمة، كل الازهار متفتحة إلا زهرة البنفسج نوارة حارتنا ذابلة.. شجرة السدر في شوق دائم لنا طيلة ركوضنا تحتها، امتطينا صهوة فروعها كثيرا، نكاد نعرف عدد وريقات أغصانها فكلما أردنا مبتغانا تومىء لنا بالسمع والطاعة لم تعترض سبيلنا يوماً ولم تمل من طلتنا عليها فهي تدرك أنها في حاجة إلينا فكلما ظمئت رويناها وكلما سئمت آنسنا وحشتها فهي لنا ونحن لها.
النهار ما زال في أوله، جارنا كعادته يتجه لأخذ مكانه أمام الدار، ها هو المقعد يستعد لاستقباله وها هو يحمل معه شريطا ضخما من الذكريات، يجلس ببطء الجميع في انتظار ندائه، لم يناد على أحد، العيون تائهة، الأفكار شاردة، ها هو يخرج لفافه رثة من تجاعيد ثيابه يحاول جاهداً حلها، يفتحها بتأن، لم يقل شيئاً الكل وقف أمامه يصرخ: (أرسلني أنا!! أنا أول!! سآتي سريعا!! أغمض بصرك وأفتحه ستجدني أمامك!!) دس ورقة نقدية في يد اصغرنا وقال: (لا تنسَ السيجار الأحمر ولا تنسى نصيبك من الحلوى) واستدار دورة نحونا لم يرني ليسألني كعادته تواريت أبحث عن الكرة، هربت بعيداً عن أسئلته المملة، خيبة الأمل أصابت الجميع، شجرة السدر بدأت تتمايل قذفت جزءا من ثمارها إلينا، تحدياً لجارنا تجمعنا حولها تركنا هديته المشروطة، زخات المطر تلت النسمة العليلة، جو من الحيوية غمر القرية، قطرات من الندى علت أغصان زهرة البنفسج.. انتعشت وتفتحت الكل يمرح، اشتد تساقط المطر، كل منا اتجه نحو داره، لوحنا بأيدينا المبتلة لبعضنا البعض على أمل أن نلتقي غداً طال الليل وشمس الغد لم تشرق.
منبه الساعة خرج عن صمته وأطلق صيحته اليومية المعتادة، نظرت إلى الساعة الثامنة إلا ربع موعد الدوام اليومي حزمت حقيبتي وحملت باقي أحلامي وانطلقت أصيح الدو.. الدوا.. الدوام.
الدمام ص ب 1091 الرمز 31431
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
