الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

وأمطرت ذات صيف
شعر: د. عبير الحربي
طريق طويل..
أضواء خافتة..
تبدد عتمة الليل..
سماء ملبدة..
قطرات مطر تبلل أغصان الشجر..
قلب وحيد يجتاز الطريق..
عقل شريد..
وعينان تبحثان بين الجموع عن وجه بلا ملامح..
انعطف بها الطريق أمام مطعم صغير..
يتسم بالدفء..
تنتشر في أرجائه رائحة الحب..
شقت طريقها بين الطاولات المزدحمة..
واتجهت إلى مائدة قرب النافذة طالما اعتادت الجلوس عليها..
اتخذت مقعدها أشعلت شموعها وذكرياتها..
مررت بأصابعها على غطاء الطاولة الأبيض المزخرف بقلوب حمراء..
وعلى الشمعدان الفضي..
انتشلت الوردة الجورية من الآنية الزجاجية..
واستنشقت عبيرها وبقايا عطره المختزل في ذاكرتها..
علت بسمة ذابلة على شفتيها البائسة..
عندما وقع نظرها على بقعة باهتة اللون تتوسط الغطاء..
تذكرتها..
عندما أوقعت بعض قطرات من حساء السمك ذات مساء..
عندما رغبت بشدة أن يتناول شيئاً من طبقها المفضل...
تسللت دمعة متمردة ما لبثت أن تلاشت على وجنتيها المشتعلتين بوهج الذكرى..
تنهدت ونظرت إلى العاملين بنظرة امتنان..
فالكل هنا يحفظ تقاسيم وجهها عن ظهر قلب..
نظراتها الحزينة..
شحوبها الدائم..
يتقون ضحكاتها المنسية في زمن الانتظار..
خمس سنوات وهي زبونة دائمة لهذا المكان...
تقاسم معها أجمل اللحظات..
وارتوى من دمعها في أحلك الأوقات..
ذلك التعايش..
جعلها تتحلى بالشجاعة بأن تطلب من صاحب المطعم بعد أن قرر تغيير ديكوراته..
بأن يحتفظ بتلك الطاولة ومحتوياتها لها..
فكان لها ما أرادت..
ففي مثل هذا اليوم..
منذ خمس سنوات..
كان هذا المكان كأوراق التوت سترت قلبين عاشقين عن عيون ملتهبة وألسنة كالسياط..
شهد كل همسة..
لمسة..
وترددت في أرجائه اعترافات العشق والغرام ودون إمضاءة على معاهدة الحب الأبدي..
زفرت آهات حزينة..
ازداد بها الجو اختناقاً..
وتسللت إلى جدران ذاكرتها بخفة..
تفتش عن لحظاتها الحالمة..
تسترجع نبرة صوته..
وابتسامته الساحرة تستحضر وجوده..
سرت قشعريرة بجسدها..
فهاهي الذكريات تتزاحم والأحداث المؤلمة تطفو على السطح..
تهز رأسها..
محاولة طرد تلك الذكرى الدخيلة..
لكن عبثاً تحاول..
هاهو أمامها..
ويدها بين كفيه ونظرات الحزن في عينيه..
وصوته المتقطع الأنفاس يهمس لها..
بأنه مضطر للرحيل وأنه سيفعل المستحيل حتى يستحق قلبها بجدارة..
لم تُثْنِه توسُّلاتها..
ولا نحيبها..
ولا ارتعاش جسدها من حمى الألم..
ودَّعها بعد أن أخذ العهد عليها بأن تحفظ قلبه وتصونه..
ودَّعها وهو يؤكد بأنه سيعود قريباً..
تركها..
جسداً يهزه الألم..
وقلب يلفظ أنفاسه الأخيرة..
وعقل أنهكته الذكرى..
أفاقت من شرودها على صوت النادل بعد أن فرغ من ترتيب المائدة..
تأملت الكرسي المقابل لها..
وطبق المكرونة الذي أمامه..
طبقه المفضل ليته يأتي..
ثلاث سنوات وهي تطلب له هذا الطبق..
وتنتظر قدومه..
تنتظر وتنتظر إلى أن يوشك أن يغلق المطعم..
فلا وجود له..
انقطعت أخباره..
ولم يَبْقَ غير هذه المائدة تتوسم فيها الخير..
أغمضت عينيها..
تمنَّت بقوة تواجده أمامها..
أن تسمع صوته مجدداً..
وما هي إلا لحظات..
وكان القدر قد رقَّ لحالها..
سمعت صوتاً..
أيعقل؟!! أيقنت أنها تحلم..
الصوت يزداد عمقاً ووضوحاً..
إنها نفس الكلمات المحببة لها..
إنه يحدِّثها..
لا..
لا..
إنها مخطئة، الصوت بعيد عنها بعض الشيء..
إنه ليس موجهاً لها..
إنها تتوهم، ليس هو..
قاومت بشدة أن تفتح عينيها وأن تتجه لمصدر الصوت..
خشيت أنه حلم فتصحو منه..
طال مكوثها..
وأخيراً قرَّرت أن تجازف وأن تبكي تلاشي لحظة الأمل..
فتحت عينيها ببطء..
يا لسعادتها، الصوت ما زال يشدو..
أدارت رأسها باتجاه الصوت..
ذهلت..
عقدت الدهشة لسانها..
كان هو..
كان هو..
لكنه ليس على مائدتها..
وليس معها..
بل مع أخرى..
اتجهت نحوهما..
وهي لا ترى غير دموعها..
وقفت أمامه..
رفع بصره نحوها..
دهش..
زاغت نظراته..
خاطبتها المرأة..
بماذا نخدمك سيدتي؟..
أعجزتها حروف الأبجدية وقتها..
وطال صمتها..
وازدادت شهقاتها..
فقالت لها بصوت ينضح ألماً..
أبحث عن خاتم أسقَطْتُه منذ زمن..
ظننته الماس..
فلما وجدته بإصبع غيري أيقنت أنه نحاس..
وعادت أدراجها..
تجرُّ أذيال الخيبة..
لا تسمع غير انكسار نفسها..
واتَّحد برق السماء بإعصار الألم بداخلها..
وارتوت الأرض من فيض عينيها..
واختفت بين الجموع تبحث عن ملامح الوفاء في وجه لا يعرف الغدر..
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved