Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
الملف
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

صوت من الخليج
د. غازي القصيبي

 

 

العثيمين ..

وشيء من الشعر الحزين

رأيت عبد الله العثيمين في أواخر الستينيات الميلادية وكان أيامها يكتب الدكتوراه عن نجد، في اسكتلندا، وكنت أكتب الدكتوراه عن اليمن، في لندن.

وقبل أن يتحذلق متحذلق فيسأل علام يبحث القوم تاريخ نجد في اسكتلندا وتاريخ اليمن في لندن، أقول لأن في اسكتلندا عن تاريخ نجد ما لا يوجد في نجد، ولأن في لندن عن تاريخ اليمن ما لا يوجد في صنعاء اليمن. وتلك، بطبيعة الحال، قصة حزينة..

ولكنها قصة أخرى..

كان عبد الله العثيمين يزور لندن لماماً، ولا يقضي فيها غير سويعات يشد بعدها الرحال عائداً إلى الجبال الشم في اسكتلندا.

وكنا نلتقي في صحبة الصديق القديم السرابي (وأعني بالسرابي الذي يظهر ويختفي بلا مقدمات) عبد الله العميل..

وكان عبد الله العثيمين، أحياناً، ينشد بيتاً أو بيتين..

وكنت أحياناً، أنشد بيتاً وبيتين..

ثم يختفي عبد الله العثيمين..

ويعلق عبد الله العميل

(هذا شأن شعراء التروبادور)

عدت إلى الوطن وإلى كلية التجارة (قبل أن تستبدل باسمها الغريب القديم اسماً أغرب منه) وعاد عبد الله العثيمين إلى الوطن وإلى كلية الآداب (التي قررت بحكمة الاحتفاظ باسمها القديم)..

وكان لقاؤنا في الوطن أقل من لقائنا في الغربة.. ولله في خلقه شؤون..

(وجمعتنا أمسية شعرية أقامتها الجامعة (كانت الجامعة وقتها، صدقوا أو لا تصدقوا، تعج بمختلف أنواع النشاط الثقافي) في أعقاب حرب رمضان..

وكان عبد الله العثيمين نجم الأمسية..

ربما لأنه استطاع أن يتنبأ، قبل الآخرين من شعراء وغير شعراء، بالمصير الذي ستنتهي إليه القضية..

قال يومها:

(ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني

وإن تصغهنَّ (أهرام) و(أخبارُ)

تعاقب السنوات ألست أوضح لي

ضلال من جنحوا للسلم واختاروا)

وقوبل البيتان بتصفيق حار

(بعدها لم نكن نلتقي، إلا (لقاء الغرباء) في لجنة عابرة، أو حفل عابر،.. حتى زارنا مؤخراً في لندن ليحاضر عن توحيد المملكة العربية السعودية.. جلست بجانبه أقول:

(كل هذا الشيب يا عبد الله؟!)

قال: (أنا أقف على الستين)!

قلت: (وأنا أحاول أن أبطئ خطوي.. فلا أقف عليها!)

تذكرت لقاءات الستينيات الميلادية..

وردد لسان حالي مع شوقي:

وهب الزمان أعادها

هل للشبيبة من يعيد؟

* وترك عبد الله معي ثلاثة دواوين صغيرة نشرها عاشق الثقافة العامل الصامت (عبد الله العوهلي) (لا تسلني) و(عودة الغائب) و(بوح الشباب).

أعادتني الدواوين إلى مراحل الصبا الأولى.. وأحسست وأنا اقرأ أنني أقرأ تاريخي الأدبي.. أو كفاحي الأدبي!..

وهذا تعبير لم استعره من هتلر..

وإنما من الصديق العزيز الدكتور سليمان السليم الذي أخبرني أنه عندما كان في المدرسة الابتدائية اشترى دفتراً ضخماً سماه (دفتر الكفاح الأدبي).. كان ينوي أن يملأه بجواهر البلاغة.

ولم يمتلئ الدفتر.

لحسن حظنا.. أو لسوئه!

* في شعر العثيمين تقرأ مأساة هذه الأمة

معركة بعد معركة.. فلسطين.. القناة.. الجزائر.. لبنان.. والبوسنة.. وبمرور السنين وبتوالي الهزائم يصبح الشعر المتفائل شعراً حزيناً..

* وفي شعر العثيمين تقرأ كيف يتحول الفتى إلى رجل ثم كيف يتحول الرجل إلى كهل..

ومع الصدمة تلو الصدمة.. والخيبة بعد الخيبة..

يصبح شعر الفرح شعراً حزيناً..

* تأمل:

(مالي وللأيام أغمرها

حُباً.. ويلهب سوطها جسدي؟

أأظل أرسم حبها بيدي

وتظل تدمي بالقيود يدي؟)

* واسمع:

(والمراؤون علا سلطانهم

كدروا حوضي.. أغاضوا مَنهَلكْ

كم يودون لو اغتالوا الندى

إذ رأوا عطر الندى قد أثملكْ

عشقوا ذبح العصافير إذا

رنحت بالشدو أعطاف الفلكْ)

صدقت يا أبا صالح!

أواه كم صدقت!

* وتأمل هذه الأبيات في السخرية من الذات

(وهي أرقى مراحل السخرية):

غزا عارضيه الشيب واستل ركبه

من السود ما ارضى هواه.. وما استحلى

له من جني التاريخ فرع محدد

ولكن - لسوء الحظ - لم يدرك الأصلا

وما عرف التحقيق إلا كتيباً

يئن فريداً.. مثلما أنّتِ الثكلى

يخوّفه في ساحة النقد ظله

وترهبه الأقلام إن أطلقت نبلا

* وبعد يا أبا صالح!

ماذا عن الأيام الخوالي؟

وماذا عن شعر الغزل؟

يقول أبو صالح:

(وقلب أذابته صواحب يوسف

وأرهقه من كيدهنّ تجاربُ

فهذي تمنّيه بمعسول قولها

وأحلى كلام الغيد ما هو كاذب

وتلك إذا مرّت سباه جمالها

وقيدها مما ارته نوائبُ

وثالثة.. أما الدلال فملكها

وأما فنون السحر فهي عجائبُ

غزت بالعيون النجل أركان مهجتي

فهشّ لها ربع وبشت ملاعبُ

ونفس الهوى أمارة تعشق الهوى

وتدفعها نحو الجمال مآربُ

وما أتعب العشاق غطت رؤوسهم

من الشيب أجناد.. وحلّت كتائبُ

قال أبو يارا: وألوية.. وفرق.. وجيوش!

أي والله يا أبا صالح!

ما أتعبهم!..

أي والله!..

* عن المجلة العربية/1416 هـ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة