Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
الملف
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 
شاعر من القصيم
قراءة في شعر عبدالله العثيمين
د. أحمد مطلوب

 

 

يزخر ديوان الشعر العربي بقصائد الحنين إلى الوطن، والوقوف على الدار القديمة، ومناجاتها بعد الغيبة الطويلة، والشاعر عبدالله العثيمين عاد إلى وطنه بعد غياب طويل في إنجلترا، وما أن مسَّت عجلاتُ الطائرة أرض وطنه حتى نظم قصيدة (عودة الغائب) بثَّ فيها حنينه وأشواقه إلى بلدته (عنيزة) التي شهدت ولادته وسمعت خطواته وهو يدرج في رحابها:

طرِبْتُ ماذا على المشتاق أنْ طَرِبا

لما دنتْ لحظاتٌ نحوهُنَّ صبا

وكان غيره يطربُ إلى البيض، ولكنه طرب شوقا إلى بلدته التي ناجاها كما يناجي الحبيب حبيبته:

أرْستْ على مدرج الأمجاد طائرتي

وموعدي مع أحلامي قد اقتربا

حيث التي أسَرَتْ قلبي تعانقني

وتمسحُ الهمَّ عن عينيَّ والتعبا

كم قد مكثت بعيداً عن مفاتنها

أغالب السُّهْد في (سكتلند) مغتربا

وبثها حبه وهو بعيد عنها:

وكم بعثتُ أناشيدي لأخبرها

أني على العهد طال الوقت أم قرُبا

لواعج الشوق كم كانت تُؤرقني

وكامِنُ الوجد كم أذكى دمي لهبا

أهذا لأنه مغترب أم لأنه متعلق ببلدته تعلق العاشق بحبيبته:

منْ كان مثلي بالفيحا تعلُّقُه

فلا غرابة إن عانى ولا عجبا

وما ذاك إلا لجمالها الذي يأخذ بمجامع القلوب:

أحلى العرائس ما من عاشق لمحت

عيناه فتنتها إلاَّ لها خطبا

تنام ما بين جالٍ كلُّه شممٌ

وبين كثبان رمْل كلُّهن إبا

وإن تأملت أزياءً تتيه بها

رأيت من بينها البرحيَّ والعنبا

عاد الشاعر إلى بلدته ليستريح على رباها التي هي أعزّ ربى إلى قلبه الذي أضناه الفراق وهو في (اسكتلندا) يَعُدّ الأيام، لينهي رسالته ويعود إلى الوطن مكللا بالنجاح. أليس من حقه حين عاد أن يخاطب (عنيزة) خطاب المتيم؟ ومن أحقُّ بالحب من الأرض التي ولد فيها؟

حبيبتي أنتِ يا فيحاء مُلْهمتي

ما خطَّه قلمي شعرا وما كتبا

رَجَعْتُ من غربتي كي أستريح على

رُبًى لدى قلبيَ المضنى أعَزُّ ربى

ما بينهن عَرَفْتُ الأنس في صغري

وفوقهن عرفْتُ اللهو واللعبا

هنا سمعْتُ أهازيجا مرتلةً

وعشْتُ أيام أشواق وعهد صبا

كلُّ شيء يذكره بصباه، حي الهفوف حيث كانت أسرته تسكن فيه، والمشراق حيث يجلس الناس ليتمتعوا بالدفء، والسبيل حيث يشرب من قربتها الظامئون، والعزيزية حيث يذهب إليها حاملاً كتبه:

هنا سجلات تأريخ تحدثني

بما يطيب عن الماضي الذي ذهبا

تُعيد لي صورة الهفوف كاملةً

الناس والشارع المسقوف والعتبا

ومتعبا قَصَدَ المشراق في دعةٍ

وظامئا من سبيل عُلِّقت شربا

وصورتي كلَّ يوم حاملا بيدي

إلى العزيزية الكراس والكتبا

لقد فرقتهم الأيام، ومضى كلُّ إلى غايته:

ومعهدا كان لي فيه سنا أملٍ

وإخوة جمعوا الأخلاق والأدبا

غابوا كما غبتُ عن أركان مسرحه

ومزَّقتهم ظروفٌ دُبِّرتْ إربا

فواحد ضاع في أعماق وحْدتِه

وآخر عن قوافي شعره رغبا

وثالث حزَّ في نفسي تغيبه

وإن يكن لذوي الأمجاد قد طلبا

ما زلْتُ مثل كثير من أحبته

ليوم عودته المأمول مُرْتقبا

ويقف الشاعر في خاتمة قصيدته معتذراً من حبيبته؛ لأنه لم يفِ حقها في مناجاتها وجلاء مفاتنها، إذْ وَقَفَ مبهوراً أمامها ولم يُسْعفه الخيال ليحلق أكثر مما حلق، ولم ينجده القلم ليخط أكثر مما خطّ، وما بثّ من شوق:

حبيبتي أنت يا فيحاء معذرةً

إن جاء وصفي لما في النفس مُقْتضبا

فما وهبت خيالا في تدفقه

يطوي السافات حتى يبلغ الشهبا

ولا وهبت يراعا من شمائله

أنْ يستجيب لقلبي كلَّ ما طلبا

في مهجتي الودّ أصفاه وأعذبه

لسحر عينيك ضاق النطق أم رحبا

ألا يحق له أن يلقى بلدته بهذا الحب، ويبثها هذا الشوق، وقد كان في إنجلترا حبيس القرية والدرس، وكان قلبه ينبض ألما، وها هو في عام 1970 يقول:

أمرانِ يختلجان في خلدي

جوْرُ الأسى وتعسُّفُ الكمدِ

جثتا على صدري ولم يدعا

لي صبريَ الماضي ولا جَلَدي

ضيفان من جنبيّ زادُهما

من قلبي الملهوفِ من رشدي

ويتعجب:

ما لي وللأيام أغمرها

حبا ويلهب سوطُها جسدي

أأظل أرسُم حبها بيدي

وتظل تُدمي بالقيود يدي

ويسأل: أتزول عنه الهموم بعد أن طاردته أشباح الظلام ولم يعُدْ يرى غير الدجى الفتاك:

أتُرى الهموم السود تبرحه

أم سوف تُنهكه إلى الأبدِ

لقد ذهبت الهموم يوم عاد إلى الوطن، ونال من الحظوة والتقدير ما نال. وتظل بلدته (عنيزة) حبيبته الساحرة، وينظم قصيدة (عنيزة والحلم الشامي) من وحي قصيدة نظمها الدكتور نذير العظمة حين زار (عنيزة)، فماذا قال العثيمين:

أعبرُ التاريخ أجتازُ مدى الماضي وبيده

فأرى عِقْدَ بطولاتٍ وأعمالٍ مجيده

وأرى الفيحاء تبدو وسط العِقْدِ فريده

ويخاطب العظمة:

أيُّها الشاعرُ والفيحاءُ مهْوى كلِّ شاعر

قبَّلَ الحُسْن على ساحاتها ثغر المفاخر

لحنك الشاميُّ إذ ناجيتها هزَّ المشاعر

وكان الجواب أنها ذات مجد تالد وطارف، وأن الفن وشَّحها بالنخيل والبيادر، وأن أصيلها فوق موج الرمل سحر، وأن لياليها فتون وسمر:

فأجابتك جمالاً حُسْنُه للقلب آسِرْ

لوحةٌ وشحها الفن نخيلا وبيادر

وأصيلا فوق موج الرمل سحريّ المناظر

والليالي قمر في برده الفتان ساهر

خطف الغفوة من عينيه إيقاعات سامر

وتعود الذكرى به إلى الماضي، ويذكر مالك بن الريب صاحب:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً

بجنب الغضا أزجي القلوص النواجيا

ويذكر زامل بن عبدالله السليم الذي كان قائدا لجيش (عنيزة) نحو أربعين سنة، وأميراً لها ثلاثة وعشرين عاما، والخياط شاعر المدينة وفارسها، ويشير إلى معركة جرت بين أهل (عنيزة) وخصومهم، وكانوا قد أوشكوا على الانتصار لولا نزول المطر الذي أبطل مفعول بنادقهم التي كانت تثور بالفتيل:

وطني من عبق التاريخ يستلهم ذكره

مالك بن الربيب في حضن الغضا يكتب شعره

والردينيُّ لهيب في سبيل الحق ثوره

وأمام السور قرمٌ يملأ الإقدام صدره

زاملٌ يبحث للخياط في الميدان شفره

أخمد الوبلُ إذ انهلَّ نهار الزحف جمره

ويعتز بمحمد بن عبدالله القاضي أحد شعراء (عنيزة) الكبار، وأحد شعراء نجد المشهورين، وبالشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي:

وطني في ريشةِ القاضي تعابير وخضره

وندى من روض علمٍ نَثَرَ السَّعديُّ عطره

ويهتبل الفرصة ليبث الدكتور العظمة ما يلاقي من همّ، وما يرى من تمزق الأمة العربية، وتسلط الحكام على رقاب شعوبهم:

مثلما في قلبك الحرِّ جراحاتُ خفيّة

في فؤادي أيها الشاعر تجتاح رزيّة

كلنا في الهم أشلاء مآسٍ يعربيّه

أيُّ قلبٍ لم تمزقه من الحزن شظيّه

قهقهات الموت في بيروت روح همجيّه

حرَّك الشيطانُ في أرجائها ألف سريّه

وسيوف العُرب تجتزُّ رقابا عربية

لم يدع بتَّارها شيخا ولم يترك صبيّه

أيهم لبنان في وجدانه أسمى قضية

كلهم يقتل باسم الشعب والشعبُ الضحية

وتظل عنيزة حبيبته، يذكرها كلما جنح به الخيال إلى الماضي، وكلما ذُكرت في حديث أو قصيدة كتلك التي نظمها العظمة بعنوان (عنيزة والحلم) التي أوحت إليه قصيدة (عنيزة والحلم الشامي) أو مخاطبة زميل كما في قصيدة (سألت العارفين) التي وجهها إلى زميله أبي بدر حمد القاضي بعد عودة أعضاء مجلس الشورى من الإجازة سنة 1423هـ، وأبوبدر القاضي من بلدة (عنيزة):

ومسقطُ رأسِك اشتهرت رباها

كأجمل ما رأى العشاق طرا

فهل أمضيت بعض الوقت فيها

وطفْتَ بما تلذ العين شهرا

أظنك عاشقا مثلي عليها

تشوف منائرا بنيت بمصرا

ومثلي لا يروقك مهرجانٌ

على جرشٍ ينظم أو ببصرى

ويمضي في وصف بلدته، ويضفي عليها جمالاً وسحرا:

وعهدي بالغضى مهواك ربْعا

تجدد فيه لابن الريب ذكْرا

إذا ما الشمس ودَّعت البرايا

لتأخذ في المدى الغربي خدرا

وخلَّف رونق الشَّفق المولّي

سُدول الليل للأكمام سِترا

يطيب على (المصفر) شبُّ نارٍ

توهجها يظلُّ سناه فجرا

ويحلو السامري أصيل فن

لمن عرف الهوى عصْرا فعصرا

وهل من فتنة الفيحاء بُدٌّ

عروس تخلُبُ الأسحار سِحرا

تتيه برملها الذهبي غربا

وشرقا تزدهي بجمال (صفرا)

وكم هامت بطلعتها قلوب

فخطت بوحها شعرا ونثرا

ويتوقف عن الكلام على سحر (عنيزة) لأن أبا بدر القاضي أدرى بجمالها ومفاتنها:

ولستُ مفصلا ما أبدعته

مفاتِنها فأنت بهنَّ أدرى

ظلت مشاعره وهاجة بعد سنوات طويلة من عودته إلى بلدته سنة 1972، وبقي يتحدث عنها حديث العاشق الذي تيمه الحب فإذا به في كل واد من الحب يهيم.

لقد صورها بأكثر ما يذهب الخيال به، وهي البلدة التي:

تنام ما بين جالٍ كُلُّه شمم

وبين كثبان رملٍ كلهنَّ إبا

وهي التي:

تتيه برملها الذهبي غرْبا

وشرقا تزدهي بجمال (صفرا)

ولا عجب فبلدة (عنيزة) هي الأرض التي حُلَّت بها عقود تمائمه، وأول أرض مسَّ ترابها جلده، وأول منزل ولد فيه وعاش، وليس كثيرا أن يصفها بهذه الأوصاف التي بدت له في ربوعها، وظلت تجول في ناظريه وتنبض في قلبه، وهو بعيد عن الوطن يغالب السهد والغربة في بلاد الإنجليز. ويرسم لمدينة (أبها) صورة جميلة، ولكنها تمر كلمح البصر بخلاف بلدته، وإن صوَّرها غادة حسناء تتثنى رقةً وصِبا:

عشقْتها حلوةً نشوى ترفُّ على

رُبى بأحضانها راق الهوى وحلا

مليحة تتثنى رقَّةً وصبا

ومن نسيج المعالي تكتسي حُللا

ورُمْتها والهوى العذريّ في خلدي

غمامةً تحمل الأشواق والأملا

(أبها) وأيُّ فتى لم تهف مهجته

لطرف جازيةٍ بالفتنة اكتحلا

إن حلَّها الضيف هشت وانتشت كرما

ب(مرحبا ألف) حيته وألف هلا

ألم يتدفق هذا العشق من حب الوطن الذي يستلهم ذكره من عبق التاريخ، ومن مهبط الوحي الذي يذكره أينما حل، ويحمل إلى إخوانه العرب الشذا الفواح الذي عطَّر الجزيرة العربية يوم بعث الله فيها رسول الهدى محمداً - صلى الله عليه وسلم - ففي عام 1417هـ ألقى في دمشق قصيدة بمناسبة أسبوع الجامعات السعودية في رحاب الجامعات السورية:

وجئت يحملني عبر المدى قبس

معطر بالشذا الفوَّاح فتانُ

على جناحين ميمونين حفهما

في مهبط الوحي والتنزيل إيمانُ

ومن عشيات نجدٍ مستطاب صبا

رياه شِيحٌ وقيصوم وريحان

وما مهبط الوحي إلا جزيرة العرب:

مهد العروبة أصلا يزدهي شرفا

ومهبط الوحي نورا للورى وهدى

وقد ضمّ الوطن المسجدين الطاهرين في مكة والمدينة:

وطن تضم المسجدين رحابُه

أرأيت أطهر من ثراه وأكرما

وأرض الجزيرة هي التي انسكب فيها هدى الوحي، وكانت أطهر أرض في العالم. وفي سنة 1423هـ أقام المجمع الثقافي العربي ندوة في عمان (الأردن) وألقى العثيمين قصيدة (تحية من أصالة نجد):

أتيت أحمل من نجد أصالتها

رفاقي الشيحُ والقيصوم والرطب

وطائفٌ من صبا أذكت نسائمه

غمامةٌ بالشذا الفواح تنسكبُ

وتردد ذكر الأماكن الوطنية في شعره كالفيحاء (بلدته عنيزة) التي تكررت في قصيدته (عودة الغائب) ثلاث مرات، كما ذكر فيها حي(الهفوف) ومدرسة (العزيزية).

وذكر الجزيرة وهو يتحدث عن الفتوحات الإسلامية:

وجاوز أركان الجزيرة خالدٌ

وإخوانه الصِّيد الكماة الغواضبُ

وطوى حمد الجاسر الجزيرة بحثا وتنقيباً:

طوى الجزيرة داراتٍ وأمكنةً

تلاّ وحزنا ودوّا صيهدا وربى

وذكر الحجاز مهبط الوحي، وفيه مكة والمدينة:

سرتْ من حِمى البيت العتيق وطيبةٍ

إلى حضنها تهفو المنى والرغائب

أناخت بها مأمورةً فتأسستْ

لمسجده حيث استقرتْ جوانبُ

وطافت نجد في شعره حيث القصيم والرياض:

نهلَ الوجدَ من لظى حرِّ نجدٍ

وهجير ضِرامه الدَّهناءُ

وارتمى بكرةً يهيم بليلى

وأصيلا تشوقُه أسماءُ

ونجد مرتع الريم:

وهل لرقيق الحسن بُدُّ من الهوى

وطفلات عفر الريم مرتَعها نجد

* دراسة مطولة على شكل كتاب وقد اجتزأنا صفحات من فصل عن الشعر الوطني عند العثيمين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة