Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
فضاءات
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

نقد النقد: تدارك ما فات
د. سلطان سعد القحطاني

 

 

7

ومن مزايا نقد النقد، تدارك مافات على الناقد الأول، فالدكتور الحامد تناول عدداً من المؤلفات بالنقد، منها ما هو نقدي ومنها ما هو جمع، وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة الحديث عن هذا الموضوع، فقد أهمل، بقصد، أو بغير قصد.. في دراسته للشعر في زمن ابن عبدالوهاب ولم يفت ذلك على نقاد النقد: يقول الدكتور محمد العيد الخطراوي (أغفل الكاتب الشعر الذي كُتب في ظلال الدعوة بالمدينة المنورة، فلم يشر إلى شعر البيتي، والبوسنوي، والبرزنجي، وغيرهم ثم يضيف: ولم يسلم - حفظه الله - من بعض المبالغات التي دفعته لها حماسته، وذلك كجعله الشاعر ابن سحمان، يتفوق على الفرزدق في وصف الذئب!! ولو كان هذا القول صحيحاً لكان الشعر في نجد متقدماً، وهذه المقارنات الجزافية من الدارسين والنقاد تقلل من القيمة الأدبية والحس النقدي لهم، فابن سحمان من الشعراء النظامين التقليديين، ولم يظهر في نجد شاعر مجدد في ذلك الزمن، وإطلاق الألقاب المجانية والمقارنات غير الواردة هو السائد في هذه الدراسات الهزيلة، وقد زادتها هزالاً على هزلها، فقد تحدث عن الكتب والمؤلفين الذين أرخوا لبداية النهضة، في كتب توثيقية إقليمية، فابن إدريس أرخ ووثّق لشعراء نجد المعاصرين، وعبدالرحمن العبيد فعل ذلك في كتابه (الأدب في الخليج العربي) ووجد الحامد أن هؤلاء المؤلفين يغدقون الألقاب على المترجم لهم، مثل الكاتب الكبير، باوردي زمانه...، ونود أن نقول: إن هذا التيار في ذلك الوقت هو السائد في ظل حركة القومية العربية، ويستدرك عليه الدكتور الخطراوي هذه المبالغات عندما يقع فيما ينقده ويستعيبه، كقوله عن ابن عثيمين، نقلاً عن ابن إدريس: وهو كما يقول ابن إدريس (بارودي الشعر في المملكة) فهذا القول لا يستقيم، لأنه لا شبه إطلاقاً بين ابن عثيمين، والبارودي، وإذا كنا نقبل هذا الأسلوب في ذلك الزمان فلن يكون له مكان بيننا اليوم، في ظل الدراسات النقدية الحديثة، والمقارنة تقلل من قيمة المبدع، وتحيله إلى مقلد وليس مبتكراً. وتقع القراءة الثانية للمنجز الإبداعي (نقد النقد) في نفس الفخ، ولا أسهل عند نقاد العربية من هذه المقارنات الجاهزة، ولانشك في عملية التأثير والتأثر، لكنها في حدود لو تعدتها لصار الناقد صورة للمنقود، وبالتالي لا إبداع عنده، فالفلالي في سخريته الباردة متأثر بالعقاد والمازني في نقدهما، سخرية باردة لا تجلب إلا العداوة والمكابرة، ولا تصلح في الأمر شيئاً، فمنهج (مدرسة الديوان) هو منهجه، يصف في المقدمة كلاماً لا نجده على أرض الواقع، ولا نجد إلا انفعالاً، وإفراطاً في المدح ومثله في الذم، ولا يشفع له إلا سبقه في هذا الميدان (والفضل للمتقدم) وربما شجعه على ذلك النقد الزائف والمدح الممجوج، الذي لا يزال يمارسه الكثير من أدعياء النقد في الصحافة العربية، ويقول عبدالله الحامد: (وعلى أن عبدالله عبدالجبار وحسن القرشي في ملاحظاتهما على المرصاد قد أوقفا المؤلف على نماذج رائعة من الشعر، لبعض الشعراء الذين أزرى بهم، ودلاه على نماذج للآشي ولحسين عرب، لكن الناقد لم ينتبه أو لم يرد أن ينتبه).

ونعود للقول: إن كتاب المرصاد وصاحبه قد حازا قصب السبق في النقد الأدبي، وليس في الدراسة النقدية، وهو يمثل زمانه بكل ما فيه من حسن وسيئ، وما أجراه عليه الدكتور الحامد من نقد نتفق معه عليه، والحامد في دراسته يحاول أن يستقصي الكثير من الأمور المنهجية بصراحة ووضوح ويكشف عن الأخطاء التي وقع فيها سابقوه، ولو أن دراسته لم تكن في الكثير من الأحيان بالدقيقة، فقد درس كتب التوثيق والتراجم على أنها دراسات نقدية، وهي - بلا شك - داخلة في نطاق الأدب، ولكن من طرفٍ واحد، وليس من الطرفين، فمؤلفات: العبيد، وابن إدريس، والساسي، وعبدالفتاح الحلو، وحتى دراسة عبدالله عبدالجبار (التيارات الأدبية في قلب جزيرة العرب) مقرر مدرسي، وليس دراسة نقدية خالصة، على الرغم مما جاء فيها من ملاحظات نقدية اعتمد عليها الباحثون والدارسون للأدب، بصفة عامة، من حيث قيمتها التاريخية أما حديثه عن كتاب (الأدب الحديث في نجد) للدكتور محمد بن حسين، وما فيه من أخطاء منهجية فحديث في الصميم، كنا نقدناه ونحن طلبة، فالمبالغات والحماس الزائد عن حده أخصبت أرضا صالحة لتصيد الأخطاء، وإن كانت لا تحتاج إلى تصيد، فإن يجعل المؤلف الشاعر حمد الحجي يفوق الشابي مكانة في الشعر، وانه (الشابي) لم يبلغ من الفحولة والتجويد هذا المبلغ الذي بلغه شعر الحجي، فأمر ليس فيه نظر فقط، بل يجب تصحيحه من أساسه، ونبذ ما فيه من تعصب مخالف للحقيقة العلمية. ويعلق الحامد على هذا القول: (والشابي أشعر جماعة أبولو أدرك بقصيدتيه (إرادة الحياة) و(صلوات في هيكل الحب) ما أعجز الشعراء المعاصرين الكبار، فضلاً عن شاعر متوسط كالحجي)، وليت الناقد (الدارس) اكتفى بهذا، فقد تعدى إلى أن ابن مشرف أستاذ لشوقي في شعر القصص، وحاول أن يثبت أن شعره وصل إلى مصر في حياة شوقي، وهو أمرٌ لا يسلم به، وإن كان هذا القول صحيحاً، فأين الإثبات العلمي؟، وللناقد تعليق علمي جميل في هذا الصدد، يقول: (فشوقي متأثر بلافونتين، وفن الخرافة الشعري معروف في شعرنا القديم عند أبان اللاحقي وابن الهبارية، وفي الأدب العالمي منذ حكايات (إيسوب) اليوناني، وليس لابن مشرف فحولة في شعره، ولا إبداع في قصصه، ولا سيرورة في ذكره؛ تجعل شوقياً يقتبس منه. لقد أخذت المؤلف رياح الإعجاب والحماس في أحكامه المتسرعة، فابن مشرف شاعر نظام، ليس في شعره ما يستحق أن يطلق عليه صفة الشعر، فهو هجاء سمج، وتكفيري متطرف، يقول من مقطوعة يهجو فيها الدولة التركية ويكفرها:

(ويحكم بالدستور بين ظهوركم

وحكم النبي المصطفى ليس يذكر)

ومن لم يكفر كافراً فهو كافر

ومن شك في تكفيره فهو أكفر)

ومن المفارقات الغريبة في هذا الصدد، مقارنة هجاء شعراء دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بشعراء الإسلام - وابن عبدالوهاب لم يطلب من أحد منهم أن يهجوا أحداً - لكن تبرعهم بالهجاء، ظناً منم أنهم قد أحسنوا صنعاً، أضر بالدعوة أكثر مما نفعها، واستشهاد الناقد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان: (أهجهم وروح القدس معك) لا يقاس على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين جديد ضد الكفر، وابن عبدالوهاب، ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وكل المصلحين يدعون إلى تصحيح عقيدة عند المسلمين، وابن مشرف يهجو المسلمين، كما ذكرت قبل قليل، و(عين نجم) يقصدها الناس للاستشفاء بمياهها المعدنية، وليست مكان فسق ولا كفر حتى يطلب ابن مشرف تركها وهدم قبتها (على نظام الحمام التركي)، ولرجال العلم الشرعي فيها قصائد مدح تخالف ما ظنه ابن مشرف، يذكر الشيخ محمد بن عبدالله العبدالقادر بعض الشعر في مدح هذه العين، حيث يقول من قصيدة للشيخ عبدالله بن الشيخ أحمد آل عبدالقادر، ومنها:

(يا عين نجم فقت آبار الحسا

بحرارة وبخار ماء يصعد

ونزاهة ونظافة في مائها

والمدح في أوصافها يتزايد)

فأين هذا من قول ابن مشرف - من شعراء الدعوة - الذي استشهد به الناقد على أنه هجاء:

(ألا فاتركا عيناً تضاف إلى نجم

فقبتها بالهدم أولى وبالرجم)

والمؤلف يقول إن شعراء نجد في عهد الدعوة قد تركوا الهجاء، ونزهوا ألسنتهم عنه. ويعقب الدكتور الحامد على ذلك القول: (وهو كلام غير صحيح، فشعراء الدعوة قالوا الهجاء، بل أوغلوا فيه، وكانت لهم فيه إجادة، ومن يقرأ ديوان ابن سحمان - وكفى - يجد هذه الحقيقة. ونوافق الناقد على ما أورد من آراء إلا في (الإجادة) فلم يتعد شعرهم النظم التقليدي.

وعندما نجد هذه الملاحظات الجميلة من الناقد على النقد الصادر من مؤلفين آخرين، نجده عند ناقد آخر يقع في نفس الخلل الفني المنهجي، ويستعمل نفس الآلية التي نقدها، فهل نضج بعد طول مراس للنقد، أو أن هذه حماسة يشترك فيها مع الآخرين خلال التأليف؟؟، قد يكون هذا أو ذاك، ففي كتابه (اتجاهات الشعر المعاصر في المملكة العربية السعودية) قسم البحث إلى عددٍ من العناوين الرئيسة، مثلا: الشعر الواقعي - الشعر الوجداني - شعر المناسبات - شعر التأمل...، وقد كان البعض منها واضحاً متطابقاً مع العنوان، والبعض الآخر متداخلاً مع عناوين أخرى، وقد لاحظ عليه بعض النقاد تناقضاً في آرائه واضطراباً في آليته النقدية، فبينما يرى في نقده للنقاد السابقين اهتمامهم بالأدب الإصلاحي (الوظيفي) يرى في دراسته هذه أن من وظائف الشعر أن يضع علاجاً لقضايا الأمة، ويعارضه في هذا الرأي النقدي بعض النقاد، ويرون أنه يخلط بين وظيفة الشعر ووظيفة غيره من بعض الأجناس الأدبية الأخرى. كما يسوق أحكامه أحياناً بطريقة جازمة دون دليل، وقد كان محقاً في نقده لمن سبق أن تحدث عنهم قبل قليل، لكنه يقع في اضطراب المنهج، كما وقعوا فيه، فقد أخرج حمزة شحاتة من الواقعية، خلافاً لعبدالله عبدالجبار، ويطلق الأحكام أحياناً أخرى جزافاً، وذلك عندما جعل الغزاوي مشابهاً لحسان بن ثابت (رضي الله عنه) في المديح، وعدم التكلف، علماً بأن حسان رضي الله تعالى عنه لم يكن مداحاً، ولست أدري ماذا كان يعني بعدم التكلف. وقد خلط بين الغزل والتصريح بالعورات، ويعيب في الوقت نفسه على الشاعر أن يكون مطلوباً للمرأة، ويرى النقاد أن هذا رأي قديم لم يعد له مكان الآن، وهذا حكم أشد غرابةً وعجباً. وأعجب من كل ذلك محاكمته للشعر في الغالب من خلال منظور أخلاقي صرف، وكأنه لم يطلع على ما أُخذ على (قدامة بن جعفر) في نظريته عن الشعر الأخلاقي، متجاهلاً الجوانب الفنية، وقد لا نعترض على إجهار هذا الصوت الذي يميت تحت مبضعه كثيراً من الأعمال الفنية، ولكننا نطالب بأن يفسح للجانب الفني في نقده، لأن الفن هو الأساس في الشعر. علماً بأن الباحث دافع عن شعر الغزل - مثلاً - بأن الإسلام أعطى الشعراء فسحة من أمرهم، وصرح بأنهم يقولون ما لا يفعلون. وبصفة عامة يظل الكاتب طوال مراحل بحثه انطباعياً، لا يحيلنا معه إلى مقاييس، ولا يرجعنا إلى معايير.

dr-sultan1@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة