Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
فضاءات
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

زنكنه
قاسم حول

 

 

أظنها كلمة تركية وتعني الغنى، فيقول العراقي عن الشخص الثري (رجل زنكين). وهناك عائلة كردية تسمَّى عائلة زنكنه، وهي عائلة وأصبحت عشيرة، لأنّ أهلها اشتهروا بالغنى والمال. ومن بين شخصياتها المعروفة الكاتب المسرحي والروائي محيي الدين زنكنه. هذا الرجل لم يكن غنياً ولم أكن أتصوره أن يصبح غنياً مذ عرفته في فرقة مسرح اليوم وعلاقته بالفرقة الطليعية ومسرحيته السؤال التي لم ينساها جمهور المثقفين في العراق وعشاق المسرح من أهل بغداد .. منذ ذلك التأريخ ومحيي الدين زكنه لا يحمل من غنى المال سوى اسم العشيرة. لكن كل الذين يعرفونه يعرفون حقيقة ثرائه وغناه فهو غني حقاً ويفخر المرء أنّه ينتمي لعشيرة زنكنه.

لو شاهدته وهو صديق الصبا وصديق الإبداع والكتابة والتمرُّد والرفض الواعي، لو شاهدته وأنا أسير في شوارع مدينة السليمانية، والله لما عرفته، ووالله لما عرفني. هي رواية الروايات، رواية العراقيين الذين تركوا وطنهم، هجروه أو هجروا منه، وعراقيون بقوا غرباء في وطنهم حتى إذا ما انهار التمثال والتقى الغريب بالغريب لم يعرفا بعضهما وكانا بحاجة إلى تقديم من قِبل طرف ثالث.

وهذا ما حصل معي حيث جمعنا كاتب طيب وجميل هو الأستاذ مصطفى صالح كريم، أقام دعوة عشاء جمع فيها الكتّاب والفنانين وبينهم الصديق الحميم محيي الدين زنكنه الذي لم أعرفه إلاّ حينما بكى وحينما بكيت عرفني. وهذا المشهد علمت أنه يتكرر كلَّ يوم مع كلِّ الذين هجروا وصاروا غرباء فيلتقون بغرباء وطنهم.

الغربة غربتان غربة خارجية وغربة داخلية.

غربة المنفى خارجية بين المألوف وكسر المألوف.

وغربة المنفى داخلية هي انعكاس لعملية كسر المألوف.

هذه غربة المنفيين من أوطانهم. وهناك غربة الباقين في أوطانهم.

هي أيضا غربتان، غربة المألوف في مقارعة الظلم التي تتحول إلى مساومة بين الذات والموضوع. يرتدي فيها المثقف جلباب القناعة ويقلع أسنانه ليضع طقماً من الأسنان الضاحكة. ويبارك الموت عندما تقتضي الضرورة أن يلعن الحياة، ويجد في قاموسه كلمات الثناء التي تمجد البوابة الشرقية للوطن والتي من خلالها يسافر صلاح الدين الأيوبي ليحرر القدس المغتصبة.

وهناك الغربة الثانية للذين بقوا في الوطن متشبثين بالبيت والأسرة، فيعود رب الأسرة في ساعة متأخرة من الليل بعد أن يذهب إلى شارع أبي نواس على ضفاف دجلة ليبكي غربته هناك، وينسل تحت أضواء المصابيح الخافتة أو المطفأة تجنباً للغارات الليلية .. هذه هي الغربة الداخلية الصعبة. بين هذا التلوُّن الصعب الذي يضطر المرء للتسلل في لباسه، يبقى محيي الدين زنكنه رافضاً اللعبة، رافضاً لعبة الغربة في شقيها الداخلي والخارجي.

من الطبيعي أن ينتمي محيي الدين إلى عائلة زنكنه فهو الغني ليس بماله، بل برواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة وبحوثه ودراساته. وحتى مدينته بعقوبة فهو لم يتركها متوجهاً إلى مدينة السليمانية في كردستان العراق، لولا عملية التهديد بالهجرة أو النفي أو الموت، فحمل مكتبته وهاجر داخل الوطن من مدينة إلى مدينة أو من إقليم إلى إقليم، وعندما عرف بالموعد وأني حاضر في هذا الموعد جمع مؤلفاته التي أصدرها طوال إقامتي خارج الوطن، وجاء يحمل كيساً ثقيلاً في وزنه وأكثر ثقلاً من وزنه لأن كلمات محيي الدين زنكنه ثقيلة الوزن في مفهوم الإبداع وفي مفهوم الحرية وفي مفهوم اللغة.

زاره مقدم برنامج في فضائية وطلب أن يعمل عنه برنامجاً تلفزيونياً طويلاً فسأله ممتحناً إياه، أي من أعمالي قرأت؟ فارتبك مقدم البرنامج وعرف محيي الدين زنكنه أن مقدم البرنامج لم يقرأ بعد مؤلفاته .. عرف بأنّ مقدمي البرامج التلفزيونية ليس لديهم ما يكفي من الوقت للقراءة. عرف بأنّ مقدم البرنامج يريد أن يستدرجه ليتحدث هو عن نفسه من خلال أسئلة عامة مثلما تفعل الكثير من الفضائيات، ويفعل الكثير من مقدمي البرامج.

رفض أن ينتج برنامج عنه.

فهو لا تغريه الشهرة بقدر ما يغريه الإبداع.

متواضع..طيب .. مبدع ..قليل المال

واسمه زنكنه .. محيي الدين

لأنّه (زنكين) بثقافته وبعدد مؤلّفاته .. وبنوعها المتميِّز.

أنظر إليه نموذجاً صافياً في وسط صعب وظرف صعب

وأشعر أن الدنيا لا تزال بخير.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة