Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
فضاءات
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

الثقافة المعلبة
سعد البازعي

 

 

تنهال عليك العبارات أثناء حديث ما بوصفها عين الحقيقة، بوصفها نتائج صادقة لأنها مختبرة ومعروفة، فلا مجال للجدال بصحتها، الثقافة الشعبية أو العامية مثقلة بها، بتلك العبارات التي تتخذ في الغالب سمة الأمثال وأحياناً شكل الحكم (بكسر الحاء) بوصفها حقائق نهائية وهي مجرد اختزالات قابلة للحفظ لما يعد تجارب أو خبرات، أو أبيات شعرية تعد من الحكم أيضاً في حين أن مبررها المعرفي هو (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب)، فلن تلبث حتى تكتشف، بعد تمعن، أنها وإن صدقت، ليست أكثر من ثقافة معلبة، معلومات وخبرات واستنتاجات جاهزة تشتريها زاداً للحياة ويمكنك الاعتماد عليها كأفضل ما يكون؛ لأنها مخاض الأجيال وخلاصة القرون.

هذا لا يعني أن تلك المعلبات الثقافية غير صحيحة: (القناعة كنز لا يفني) عبارة فيها قدر من صحة، وكذلك هي عبارات مثل: (اتق عدوك مرة وصديقك ألف مرة)، أو (من أمن العقوبة أساء الأدب)، إلى غير ذلك، ففي مثل تلك العبارات قدر من الصحة، لكن في بعضها من الخطأ ما يعدل كل الصحة التي يمكن العثور عليها فيها، بل إن بعضها يكاد يخلو من الصحة تماماً، وأخطر من ذلك أنها مدمرة للعلاقات الإنسانية، مهما قلنا إنها تصدق على بعض الحالات، خذ (اتق عدوك مرة..)، وتخيل الحياة بين أناس يشكون في بعضهم بعضاً، أو يسعون إلى اتقاء الشر المحتمل من الأصدقاء، تخيل كم ستغدو الحياة كئيبة لو أخذنا هذا الكلام على محمله وبحرفية، لا تتخيل أنك أنت الذي يتقي شر الأصدقاء وإنما أنك أنت الصديق الذي يتقي الآخرون شره وكم ستدافع عن صدقك.

سيقول البعض: لكن من الأصدقاء.. إلخ، والحق أن من الأصدقاء من لا يؤمن، لكن الكارثة ستكون في التعميم، وهنا تأتي خطورة التعليب في تلك العبارات، فهي إن جازت مرة فلن تجوز كل مرة (ولو قلت إنها خاطئة دائماً لدخلت في التعميم والتعليب مرة أخرى)، لكنها الثقافة الشعبية القائمة في الغالب على السهولة والجاهزية والكسل المعرفي، كل معرفة الإنسان موجودة في عبارات محفوظة وسهلة الاسترجاع، فلم الكد الذهني؟ لقد عرف السابقون كل شيء ولا يجوز التشكيك في معرفتهم، أو ما الحاجة إلى إرهاق الذهن بالبحث طالما توفرت المعرفة في تلك الكبسولات اللغوية.

لكن مرة أخرى ينبغي ألا نعمم، حتى على التعميم نفسه، كيلا نقع في التناقض المنطقي: فلو قلنا (كل التعميمات خطأ) لكنا ارتكبنا خطأ آخر في تعميم آخر، الاستثناءات كثيرة حتى إنها لتخلط الأمور علينا، من تلك الاستثناءات قول أحدهم: إنه على الرغم من ندرة الحقيقة فإن العرض فيها أكثر من الطلب، الكل يعرف الحقيقة، والكل يريد تأكيدها، وقليلون هم الذين يمتلكون ما يكفي من الشك والمساءلة الداخلية لما يقال ليعرضوا ما سمعوا وما يرددون دون تردد، الجميع متأكد مما يقول، مع أنه بعد قليل قد يتراجع ويعلن أن ما سمع ليس أكثر من إشاعة يحدثك عن السياسة والاقتصاد والرياضة، أو كائناً ما كان الموضوع، ليتبع كلامه بعبارة: (الموضوع أكيد، سمعته من مصدر موثوق) أو (والله صحيح).

في تقديري الشخصي أن الدافع وراء ذلك التمسك بالمعلبات الثقافية أو المعرفية، وحجم الثقة بمصادر المعلومات، هو في المقام الأول فقر المصادر من ناحية، والصراع الاجتماعي بين الأفراد على تأكيد الأهمية الشخصية، من ناحية أخرى، ففي جلسات الحوار أو الأحاديث الاجتماعية يتصارع البعض لكي يحصلوا على الانتباه، ومع أن الحرص على انتباه الآخرين نزعة إنسانية طبيعية ولا غبار عليها بحد ذاتها، كما يبدو لي، فإن المسألة تدخل حيز الإشكال والضبابية أو الفوضى، حين يحاول البعض فرض أهميته من خلال مصادر معلوماته وما ينثره في فضاء الجلسة من معلومات سواء دعمها بمعلبات ثقافية أو بإشاعات أو بادعاء الحقيقة في ما يقول، وفي الوقت نفسه، في ذلك الخضم من الادعاءات، أو العروض المجانية للحقائق، يخفت الصوت المشكك أو المتردد أو ذو المعلومة الأكثر دقة، ولكن التي يجيء صوتها ضعيفاً في الغالب ضعف الطلب عليه، ومتردداً كتردد معلوماته وحرص صاحبها على ألا يدعي امتلاك الحقيقة.

إحدى أكبر المشكلات التي تتماثل أمامنا هنا هي أن التعليب الثقافي وادعاء الحقيقة النهائية ليس حكراً على الثقافة الشعبية، بل هو أيضا منطقة تزدهر فيها الثقافة التي نسميها عادة (ثقافة)، أي الثقافة الجادة، ثقافة الكتب والكتاب والمثقفين، الثقافة التي يفترض أنها أكثر تحرياً للدقة وشكاً في التعميمات والإسقاطات والأدلجة وما إلى ذلك من مصائب معرفية، فالمثقفون ليسوا بمنأى عن التعليب والتعميم الجاهز والكسل المعرفي؛ لأن مستويات الثقافة لا تتباعد كثيراً بعضها عن بعض، والمثقفون ليسوا كائنات هبطت من المريخ بنقاء معرفي وعقول حصيفة لا يطالها الباطل، بل إن ما يقع هو أننا جميعاً مثقفين وأنصاف مثقفين وعوام، عرضة لما أسميته التعليب، ولن يستطيع أحد إثبات نقائه وتفوقه على ما يحيط به.

هنا سيتبادر إلى أذهاننا القول الشائع: (وما أنا إلا من غزية إن غزت)، فصدق ذلك القول ماثل في ما أشير إليه من تعليب يشترك فيه الجميع على أنحاء مختلفة وبأقدار مختلفة بطبيعة الحال، لكن القول الشائع، وهو بيت شعر معروف، يمثل بحد ذاته نموذجاً للتعليب وإشاعة الكسل المعرفي من خلال الاندماج الذي يؤكده وعقلية القطيع التي يقطع بوجودها، وفرق كبير بين أن نقول إن المثقفين يتأثرون بما يحيط بهم، وأن نقول إنه لا فرق بينهم وبين غيرهم، أو أن المفروض هو ألا يخرج الفرد عن عقلية الجماعة، فلولا الخروج على العقلية لما بنيت حضارة ولا نمت ثقافة ولا تغير حال الإنسان، صحيح أن التغير يكون أحياناً إلى الأسوأ بسب ذلك الخروج، لكن محاسنه واضحة أيضاً، فلنخرج ولكن بشيء من الحذر، والشك ينقذنا من المعلبات الجاهزة والمتناثرة من حولنا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة