Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
نصوص
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 
خيارات المعدن
خالد المكرمي

 

 

كنتُ أدور كعقربٍ صغيرٍ في فلك هذه الحياة التي لم أختر فيها - حين سقوطي مولوداً - ساعة خارجة عن المواقيت الزمنية، ولا يوماً غير الأيام السبعة المكرورة، ولا شهراً لم يسبق تصنيفه في الروزنامات الفلكية، ولا فصلاً خرافياً يحتكم لغير طقوس الحر والبرد، ولا سنة استثنائية وغير كبيسة أوثّق بها حدثَ التخلص المتوتر من ظلمة الرحم التي مكثتُ أعوم في لُجتها ملايين الدقائق، ثم لم يكن لي الخيار الكامل - فيما بعد - كي أرضعَ كفايتي من حليب الأمومة الطبيعي ولا أتحصل على نوعية فاخرة من المصنّع منه، ولا أدري إن كانوا قد لفوني - كجبيرة - في ملاءة بيضاء أو هم أغدقوا عليَّ بغيرها من ذات الخطوط المتقاطعة والألوان الزاهية، المرسومة عليها بالونات الفرح والدببة السعيدة، ولم يكن بإمكاني - وأنا البريء - معرفة ماهية الطعام فضلاً عن تذوق ما أشتهيه منه، أو شرب ما أحبه من المشاريب..

أنا لا أعلم متى استطعت الجلوس بمفردي لأول مرة، ثم الحبو والوقوف والمشي والركض، ربما حفظتُ تاريخاً أخبروني بأني التحقت فيه بالمدرسة، وتأكدتُ فيما بعد بعميلة حسابية صغيرة من صحته هجرياً قمرياً من غير جزم.. ولأني كنت صغيراً ونحيلاً وبالكاد تبصرني الأعين التي لا تشكو عوَراً أو قِصَراً في حاسة البصر الفطرية، وحركتي كانت تسير برتمٍ سريع ودبيبي على الأرض لا جلبة له، فقد كنتُ أشبه أي عقربٍ من عقارب الثواني في أية ساعة تقليدية عتيقة لم يُكتب لها أن تدرك عصر الكوارتز الذي يرقص العقارب على نوطة (تك تك تك)، ولم تكن حتى تحلم بتقدم الإلكترون فقط - وتضع للأجزاء الصغيرة جداً أثماناً تؤخذ في الحُسبان، ولكي أقوم بتأدية مهمتي الثانوية التكميلية التي لا يتوقف على تمامها أمر مهم فإنه يجب عليَّ أن أركض أكثر من كلِّ العقارب المجاورة والمشابهة من دون تذمر.

هكذا كنتُ أتماهى مع ضآلة الحقيقة التي أدركتها مؤخراً وأنا أتفحص حقارة الأشياء التي تسربت من أجلها مئات الآلات من ساعات عمري من دون أن يكون لي حرية في تحديد وجهة المسير المنسجمة مع القناعة التي سأجد من خلالها الشعرة الدقيقة التي أفصل بها بين ضعف اليقين وتفاقم الشك المؤدي بالعقل إلى الشطح الذي لا تخلو منه هذه اللحظة، ولعلي أستطيع كبحَ تمرّد فهمي الذي يرى عبثية الركض لمليارات البشر الذين يتعاقبون منذ الأزل على تأدية الدور الوحيد الذي تلقنوه بعفوية لمشهدية الحياة التي لا يطرأ عليها تغييراً جذرياً، غير التقديم والتأخير في بعض الفصول، وأما البداية فتبقى كما هي محددة بالمولد والخاتمة تأتي بالنوم الأبدي..

استغرق بي الوقت آلاف الساعات حتى كبرتُ قليلاً ولم أسمن بالقدر الذي كان يُفترض أن أسمنه، ربما قد أصبحت أشبه أي عقرب من عقارب الدقائق.. راقتني تلك المقاربة فوجدتني أشبّ عن الطوق، وأحس عروتي تشتد، وأشعر بما يتضخمُ فيَّ سريعاً دون سابق معرفة ودون ثقافة تفسر لي حقيقة هذا التضخم المفاجئ.

أذكر تمردي بعد ذلك ورفضي فكرة أن أكون مجرد عقرب حتى وإن كنت أكبر من كلِّ العقارب! وأذكر أن هذا التمرد هو الذي ساعدني كي أكون جرماً مستقلاً ويمكنني أن أختار دائرة أقيم بها، وأضع في مركز قطرها محوري ومن ثم تدور في فلكي العقارب الصغيرة التي ستنبت في عمق الدائرة، ثم تكبر ويأتي الوقت الذي يتحوّل فيه بعضها أجراماً والبعض الآخر يستحيل إلى دوائر جميلة ومغرية..!

كان قراري وأنا أختار دائرتي الأولى والوحيدة حتى الآن موفقاً إلى حدٍّ كبير بعد القليل من التعثرات في دوائر نشأت في بيئة غير مواتية جفلتُ من ترهلات بعضها، وأوجست خيفة من انتفاخ بعضها الآخر المليئة بالتجاويف، ثمة عقارب باتت اليوم تملأ حياتي صخباً لذيذاً، وتقتل بحد صراخها الرتابة التي تجثم على صدر الساعة حين تدور بنظامها الأبكم، وبت لا أستطعم لحظتي ما لم أداعب أصغرها الذي أحب أكثر، وأراقب السير الحثيث المنغم للبقية، وأتفقد قبل النوم أمهم الدائرة التي لا تزال تحافظ على معالمها البراقة.

على الدرب المتشعب للحياة، أجبرتني دائرة هلامية التكوين وخرافية الحسن على الوقوف خارج محيطها شهوراً كانت أيامها دهراً بأكمله. استحثتني كي أكون جرماً يوتِّّد محوره في ارتكاز قطرها ويتغلغل في أعماقها ويغلف كامل محيطها وينتشر في كل مساحاتها، اكتشفت أن برجها المعدني، بطبيعته متصادم في كثير من خواصه مع برجي الناري، لكننا ورغم ذلك نعترف بانجذابنا لخاصية البحث عن المستحيل التي نشترك فيها.

في ظل رفضي لكل أشكال السلبية وعدم قبولي تعليق الخيبات على شماعة الآخر للتنصل من المسؤولية حين نشاء تبرير الفشل الذي نسمح له بافتراس إراداتنا، وجدتني أقدم الخطة وأسحب الأخرى لبناء عالم أستحق فيه صفة العيش بقوة وثقة وثبات وحرية وحب، فانتصبت أمامي المفارقة الأغرب في مولود المعدن الذي يرفض دخول آخرين معه في قلب النار.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة