الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 15th March,2004 العدد : 50

الأثنين 24 ,محرم 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
وتنتحر النقوش أحياناً
سعد الحميدين
سعد البواردي

الانتحار اختيار إرادية للموت.. في مواجهة الحياة..
أشياء كثيرة تنتحر.. وتندحر.. وتظل الأسباب والمسببات قائمة.. منها هروب لا يشفع له غياب.. ومنها يأس لا تنتصر له حياة.. ومنها تمرد موغل في رفضه لا يشفع له تفسير.. ولا تبرير.. فهل إن النقوش تنتحر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وبأية أداة تموت طواعية دون أن تكره؟
شاعرنا سعد الحميدين اختار لنقوشه الانتحار.. ونقوشه المطرزة ليست أكثر من أشعار ضمنها ديوان «وتنتحر النقوش أحياناً».. ولكي نستشرف طبيعة تكوينها.. والريشة التي صبغتها.. والأطر التي حددتها لا بد لنا من الغوص في ديباجتها.. والأقتراب من حائطها الذي علق عليه نقوشه.. أو بمعنى أصح أجساد نقوشه بعد أن لفظت أنفاسها.. وتركت للآخرين قراءتها.. أي قراءة ذكريات ما بعد انتحارها وموتها..
أشعر أنني وقد ألقيت نظرة تأمل على نقوشه المنتحرة بسكين الحداثة والغموض لم أفهم شيئاً.. ربما لجهلي في كائنات أو كيانات من عالم آخر غير الذي نستنطقه بلغتنا المفهومة فيعطي لنا المعلومة دون إطراقة تفكير.. أو هرش شعيرات رأس.. أو حتى الاستعانة بمن يفك لنا عقدة تفاهم أو فهم لا نقدر على استيعابه. الديوان دون عناوين.. في يمينه النقوش على ما أحسب. وفي يساره النقوش كما أتصور.. ومع صفحته الأولى نقشته الأولى:
(وتعثرت خطوات رمش العين في كل السحاب
وتشك في طرقاتها حفرا من الآهات
يتبعها زفير موجع الأضلاع.
يركز فوق عرجون قديم/
طاب المكان/
واللامكان تمددت أطرافه.
وتشابكت أوصاله.
تجتر خلف لعاب فكيها مكاييل الزمان على الزمان. وفي الزمان
توحدت أصوات أصهار السنين)
اعترفت أنني خرجت من قراءتها ببلادة حس.. لا أدري عماذا تتحدث.. أعرف رمش العيون إلا أنني لا استوعب كيف وصلت إلى السحاب وتعثرت بين ركامه.. ثم كيف شكت المطرقات.. وهل الشك غير الشق.. ثم الزفير الموجع الأضلاع وصلته بالعرجون القديم أو الجديد حتى.. والمكان اللامكان كيف تمددت أطرافه.. وهو الذي يستغرق كل المساحات من حوله بحيث لا مجال لأطرافه بالتمدد. وإلى أين؟ ثم هذا الفك الذي يسيل لعابه خلف مكاييل الزمان على الزمان. وفي الزمان.. هل أنه فك مفترس لمخلوق لم تتحدث عنه الأساطير بعد لأنها عاجزة عن أن ترسم له نقشا في ذاكراتها..؟
هل مثل هذا يا عزيزي سعد الحميدين يمكن لشاعر أن يخاطب قراءها دون أن يمنحهم مفتاح السر للوصول إلى الفهم؟
في صفحته المقابلة لهذه المقطوعة اللغز
(ما عاد بالقادر
يمشي على الستائر
أو يرتجي الآخر
أن يرتدي زين)
أدركنا للوهلة الأولى عجزه.. بأي وسيلة مشى على الستائر.. هل هو في حجم الحشرة؟ ومن هو الآخر الذي يرتجيه كي يرتدي مثل ما يرتديه؟ وبأي مقاس.. ومن أي متجر يحصل على زي في حجم من يمشي على الستارة؟
(المشتكون من الأنا/ خفوا يخضون الأماني الرائبات
لتفرز الزبد المصفى/ لذة للشاربين.
والباركون على ضفاف شوارع النزوات تلتهم الرياح لقاحها..
من خلفهم تتورم الأنات بالأخرى التي شاخت مفاصلها..
كما أبيضت شعيرات المثاني. والمرابع في كؤوس البائسين)
لم أكن أسعد حظاً هذه المرة.. لقد تعطلت لدي لغة الفهم إلى درجة الانغلاق.. الآن نعرفها أي الذاتية والنرجسية وحب الذات. والمشتكون منها نعرفهم أولئك الذين يجلدون الذات ويروضونها لصالح غيرهم.. كيف خفوا إلى قربة روب الأماني يخضونها كما تخض أمهاتنا اللبن الرائب.. وحتى في صحة هذا التصور فإن لغز المباركين على ضفاف شوارع النزوات كما لو كانت بحراً أو نهراً محيرة وهم على مشهد رياح خلفية تلتهم لقاحها وتضخم أناتها المتورمة بالأخرى بعد أن شاخت مفاصلها بعد أن أبيضت شعيرات المثاني. والمرابع في كؤوس البائسين)
قل لي يا صديقي.. من تخاطب بشعرك.. أو بنفسك؟ أجزم أن لا أحد يملك مفتاح مغارة سعد الحميدين كي يكتشف الكنوز المخبأة فيها.. وقد تكون كنوزاً.. ولكنها ليست للإنسان العادي.. ولا حتى للطبقة المثقفة التي تتلمس ما بين السطور دون تعميمه..
في الصفحة المقابلة أربعة أسطر سعدت بفهمها لأنها خارج جاذبية الاستعصاء:
(تاهت أمانيهم
من خلف حاديهم
وليس من فيهم
يقوى على العصيان)
هل انها الترجمة لفك اللغز المحير ولكن بأسلوب آخر.. ربما.. ومع مقطوعة من النوع الثقيل!
(واللابسون ثياب من قد فصلت تلك الثياب
بدون إشارة. أو رغبة يتربصون ليملأوا الحجرات
والأحواش بالبهم المسخرة المحببة للحداء..
مطأطيء الهامات.. تعلك. ثم تلفظه في زفير من فئات الصمت
آلاف المطاعن والطعين)
حسناً يا عزيزي.. لقد أوسعت دائرة الحيرة في فهمي العاجز على الأقل.. مجرد سؤال هل لتفصيل الثياب هنا علاقة بذلك الذي يمشي على الستائر؟ كي أعرف أنني ما زلت في مرحلة البداية؟ في مقابل مقطوعة اللابسين وثيابهم المفصلة داخل الحجرات التي ضاقت بهم والأحواش المليئة بالهم. والحذاء. والزفير. والمطاعن والطعين في مقابل هذا التراكم من الغموض تواجهنا سطور أربعة كما هي العادة أكثر وضوحاً ودلالة.
(قد كان من يجري
من بعدهم يدري
بالدرب من فجر
لكنه يخفيه)..
وجه شعري شاعري آخر لشاعرنا الحميدين يعطيه لنا كجرعة دواء بعد تلبك فكري يساعدنا على مواصلة الرحلة.. عجباً.. اكتشف أن بعض ديوان شعره سمح لإدراكي قراءته دون معاناة وقصور منهم أو هضم. كهذه الأبيات الرائعة:
(يا ريح. قال أتشعرين بما على أكتاف ماض سالف
تتحدث الجدات عن أوصافه. ألوانه. أشكاله في كل منعطف وحين
بالله قولي.. قولي.. ولا تتحرجين)
أخالها لن تقول لأنها تحتفظ بسر مأمونه على ألا تفشيه لأحد.. حين تبوح به لا يعد سراً.. ورغم رمزيته فإن دلالته يمكن استلهامها من واقع من يعيش لماضيه دون أن يعمل لحاضره.. أو يفكر في مستقبله.. جميل هذا الحوار مع الريح.. أجدني مشوقاً إلى مقطوعاته القصيرة أكثر لأنها الوجه الآخر للشاعر الأكثر وضوحاً وإدراكا.
(حامت حواليها
أوهام ماضيها
ما زال يؤذيها
بالقيل والأقوال)
نقشة لم تنتحر لأن فيها نبض الشاعر وعقله لم يتخل عنها وقد تخلى عن شقيقاتها اللواتي يكبرنها حجماً.. ويصغرنها فهماً. وأخرى:
(تهوي غمائمهم
صرعى مساوئهم
حبلى مفاصلهم
بالزيف والتدليس)
شريحة من بشر تعطلت لديهم ملكة الإبصار.. كغاية بالبصر.. والبصر وحده لا يكفي.
(العين ترخي هدبها خجلاً.. وينفرج الفم المحمر
عن لفظ تهتك. باحثاً عن مقود..
أو ساعد يقوى على إمساكه..
كي يطلق الكلمات
والكلمات بعضها تمنع بعضها من أن يجاهر أو يبين)
الأقرب إلى الوضوح من أخواتها.. فالعين لها إشارة الهدب.. والهدب له عبارة الخجل.. أما الفم فإن احمراره دلالة تهتك.. لأنه افتقد لسانه.. أي حصانه الذي ينقله من ربقة الصمت إلى مساحة الصوت.. وحين تموت الكلمات وسط ركامها يتساوى المعقول واللامعقول.. المقبول واللامقبول.. وأخرى لا تقل عنها شفافية:
(تتلاحق الأنفاس
والهفي على الأنفاس
في جريانها خببا
تحس بوقعها الظلمات.
في ليل بهيم تومض النجمات خلف تلاله
وتحدث النظرات صوت نصاله
فيعود يلهث نفسه متلهفاً
عجباً!!
أنأكل في حشاشه بعضنا مستسهلين؟!)
لا عجب يا شاعرنا وقد اجتذبتنا معك إدراك أنفاسك المتلاحقة وإحساسك الموجع بهروب نجماتك إلى ما وراء التلال دون أن تراها كي تدلك على الدرب.. النظرات حين تتكسر معها النصال ولا تجدي معها اللهفة ولا التعجب في عالم مليء بالمستسلمين المستسهلين مخاطر يومهم وغدهم.. ألست الذي تقول في مواجهة هذه الأبيات كما لو أنك تفسرها.
( يتحدث الركبان
عن شيء كالشيطان
يشطر الإنسان
لا خوف لا رحمة)
ما أحلى الرحلة دون مفازات.. ودون عثرات.. ودون علامات تزيد من الإرباك والحيرة.. هكذا انتشلتنا من قاع لا ناقة لنا فيه ولا جمل.. إلى جمل نقرؤها.. وتلامس شغاف حسنا لو أنها كشفت وجه النهار.. دون ضبابية:
(أهوى.. وما زال الهوى خلفي
يعد.. ويحسب.. ثم يحسب..
وأنا أعد.. كلانا هائم
يحتار في حلبات ما يدنو اليه.. يحسه
ويكاد يمسك منه لو.. ما يشبه الشعرات
ثم يفلت كالسهام الطائشات
تئز من قرب الجبين)
كلنا نمتهن الهوى.. ونرتهن الحب.. نعد ونعد.. نضرب أخماساً لأسداس حين تسلمنا الحيرة إلى متاهاتها.. وحين توصلنا إلى مرحلة التمني نهرع إلى لغة العجز.. لو.. ومن تحوطه دائرة لو لن يجد السهم الذي يسدده وإنما السهم الذي يقيده..
في مقابل مقطوعته الممتعة نقرأ هذه الكلمات
(أحبتي كنا
أيضا.. وما زلنا
نهوى مرابعنا
فهل لنا عودة؟)
لعلها كانت بلسان اللاجئين المشردين عن ديارهم على مساحة كوكبنا الأرضي المريض بسلطان قوته وجبروته.. نعم.. لا بد من عودة ملونة بدماء الاستشهاد والفداء والإصرار على ثبات المواجهة دون سلام مزيف هو في حقيقته مجرد استسلام..
( ما بال قومي كلما حدقت في دربي
تفتقت العيون لديهموا
أخذوا يجوسون المفازة
يرفعون حواجز الأوهام
يتنسمون رحيق أزهار الطريق
يلوثون صبا الأماسي بالسعال
والداء الدفين)
الإجابة على التساؤلات جاهزة.. وجائزة.. لأنهم مرضى تتملكهم غشاوة البصر.. وضبابية البصيرة.. لأنهم راقدون حتى وعيونهم مفتوحة الأحداق لا تحس.. لا ترى.. لا تسمع..
(وتجوب في الساحة
للغبن مرتاحة
بالجور ملحاحة
شمطاء ملعونة)
كلنا نعرفها.. ذهبت وحل غيرها مكانها.. الوجوه مختلفة.. والأهداف واحدة.. مصادرة حق الشعوب المغلوبة على أمرها في حريتها وحقها في الحياة.. القادم أعظم..
(يا مستجير بآخر.. يكفيك مثلي انني
لما استجرت بصاحبي. أصغى اليَّ
بكى.. فأبكاني.. فكان بكاؤنا
يرخي عليَّ غلالة ملتفة
لما تكشف وجهها زاد الأنين)
نقشة من نقوشه بألوانها القزحية الموحية بجمالات الصورة والمعنى.. تتشابه في دلالاتها ومضامينها تلك المقولة التي يرددها المصريون حين يلجأون إلى الشكوى ويجدون من لجأوا إليهم في بلوى..
(جيتك يا عبد المعين تعين.. لقيتك يا عبد المعين تنعان).. نعم وبشكل آخر يأتي بيت الشعر:
(المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار)
ولأن اليد الواحدة لا تصفق.. أدرك شاعرنا هذه الإشكالية ورسمها نقشاً بديعاً أنسانا ذكريات البدايات المضنية
( ما بالي لم أسأل
عن صاحبي الأول
أصبحت كالأشول
يُسرى.. بلا يمنى)
وها هو يسأل عن وجه حبيبته هذه المرة.. فهل يرسمها لنا لوحة واضحة المعالم والسمات؟!
(ممهورة قسمات وجه حبيبتي في كل رفة جفن أنثى
غير أن توحد النظرات يفردها ويجعلها بلا شبه ولا ند
مهما يكن فيهن من خفر أو استحياء فلا.. لا يرتقين)
هكذا جاء رسمها من خلال قسمات وجهها التي يتمثّلها في وجه الحسناوات.. عيناها بنظراتهما الساحرة يمكن فرزها دون جميع النظرات لو أنها توحدت.. حتى حياء حوريات الحب ودلالهن دون خفرها واستحيائها.. لأنها الصورة الأصل.. هكذا أيضاً أكد نظرته ولكن بشكل أوسع مساحة وساحة..
(ما مثلها حلت
في الأرض ما مرت
وبعد ما وُلدت
تلك التي ترقى)
إلى حسنها وجمالها.. هكذا رآها بإصرار أكثر لا جدلية فيه ولا شك.. والحب أحيانا يجتاز الواقع في تصوره ويذهب إلى البعيد ثم يرتد إلى ما هو أقرب للصواب والصدق دون إغراق في الوصف. هذه المرة يخاطبها مباشرة:
(أحبيبتي.. أحبيبتي..
قلنا معاً انا نحب
فأوغرت كلماتنا كل الصدور
قلنا نحب فأوغرت كلماتنا
قلنا نحب..قلنا ببوح لا يلين)
لا أجد تعليقاً على مقطوعة حبه.. وعذل الآخرين عليه أصدق من أغنية محمد عبدالمطلب التي يقول مقطعها:
( يا حاسدين الناس ما لكم وما للناس).
هكذا طباع البشر.. إنهم يتدخلون أحيانا في خصوصيات غيرهم.. ويستشيطون غضباً وغيظاً لو أن غيرهم تدخل في خصوصياتهم.. جحا.. وولده.. وحماره.. عجزوا عن إرضاء المتطفلين. ركبا معاً الحمار. وتركا الحمار لوحده.. ركب جحا الحمار لوحده.. ركب الابن لوحده.. ولم يسلما من التعليق.. رضا الناس غاية لن تدرك.. يسترسل شاعرنا الحميدين الذي أخذنا معه دون مشاكل إلى حكاية حبه:
(طفنا نردد حالمين وكان يحدونا اليقين
وخطى رموش العين
تكبو في طريق السادرين
ويقطع الوقت المسجى بالمناشير المريبة
تعصف الريح السليطة
بالنشاز على الوجوه وعلى الجبين)
قطعته أقل رومانسية مما سبق.. والسبب المنشار.. الذي قطع أوصالها إرباً إرباً.. واستبقى لنا منها الفتات بعد أن أخذ نبض الحياة.. ومع هذا فهي وفق فهمي أوفر نصيباً وأقرب إلى الحس والنفس من شقيقات سلفن.. وسلبن كل تصور أمام عدسة التصوير التي تحاول قراءة النقوش قبل انتحارها.. وبُعيد انتحارها.
أشعر في صدق أن صديقي الشاعر سعد الحميدين عوضني عما جهلت.. وأسعدني بما شقيت به من سوء فهم.. وأشبعني بطبق لذيذ وممتع سهل الهضم..
ما أتمناه لكل شاعر.. ولكل ناثر أن يرأف قليلاً بمداركنا.. أن يعطي لها ما تنتزع منه معلومة مفهومة تثريه.. وتدغدغ حواسه.. وترضي ميوله بل وفضوله.. الفكر مخاطبة عقل.. الفكر حين يستعصي على الفهم يحتاج إلى قارئة فنجان.. ونحن كقراء لسنا في حاجة إلى من يحل لنا الألغاز أو حتى الكلمات المتقاطعة.. أفكارنا لا تتحمل المزيد من الغوص في متاهات الكلمات.. ألست معي يا أخي وصديقي الشاعر الحميدين؟!
أرجو أن تكون الإجابة نعم ودون مجاملة أو مجادلة لأنني معك أنشد الصواب لي ولك.. لا أحد معصوماً من خطئه.. كلنا نخطئ.


الرياض ص.ب 231185
الرمز 111321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
منابر
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved