الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 15th May,2006 العدد : 153

الأثنين 17 ,ربيع الثاني 1427

ديون براند.. مفارقة الثبات

*د.سعد البازعي:
تنتمي ديون براند إلى جزيرة ترينيداد الواقعة في البحر الكاريبي، ولكنها واحدة من مثقفي تلك البلاد الذين آثروا العيش بعيداً عن بلادهم. وهؤلاء عددهم كبير وفيهم من حقق شهرة كبيرة في ميدان الكتابة. ولعل أشهرهم في إس نيبول، البريطاني الجنسية الذي فاز بجائزة نوبل عام 2001م.
هذا مع أن منطقة الكاريبي أنتجت أيضاً كتّاباً كباراً آخرين منهم الشاعر ديريك والكوت الذي فاز بنوبل عام 1992م. ومع أن براند لم تحقق بعد مكانة تقارب مكانة نيبول أو والكوت فإن في أعمالها الشعرية ما يشي بموهبة كبيرة قد تحقق لها الكثير من الشهرة.
ولدت براند في ترينيداد عام 1953م وتعيش في كندا منذ 1970م، حيث تعمل في التدريس الجامعي بالإضافة إلى نشاطها في الإخراج السينمائي والكتابة. ما يلفت النظر هو التجربة التي عبّرت عنها سواء في نتاجها السينمائي أو الشعري بوصفها من العالم الثالث وتقيم في الغرب.
وقد اخترت في هذه المقالة أن أقدم نصاً شعرياً لها كتب من الزاوية التي تصطدم فيها تجربتها الثقافية والاجتماعية الغربية بما حملته من موطنها الأصلي، ترينيداد. غير أن النص له مبرراته الجمالية أيضاً، كما أرجو أن يتضح.
لقد سبق لي أن استشهدت بالنص الذي أتحدث عنه هنا ضمن مقالة حول شعر الفلسطيني وليد خازندار نشرت في (الجزيرة) قبل سنوات ثم جمعتها ضمن مقالات أخرى حول الشعر في كتاب (أبواب القصيدة) (2005م).
وكان مبرر الاستشهاد بقصيدة براند هو اتفاقها مع قصيدة لخازندار في مسألة ثبات الأشياء دون تغيير وتحويل ذلك إلى قيمة إنسانية وجمالية وشحنه بدلالات مفاجئة للقارئ.
ففي قصيدة براند، كما في قصيدة خازندار، يكتشف الشاعر عند عودته إلى الأماكن التي يألفها أنها لم تتغير على عكس ما يحدث عادة، فتغير الأشياء والناس هو ما نتوقعه من الزمن وهو ما ينسجم مع طبيعة الحياة.
غير أن ذلك لا يحدث، لكن المهم هو أن عدم حدوثه يصير مصدر الإزعاج أو الخيبة، فالتغيير يصير مطلوباً في هذه الحالة، وهو ما يجعل الشاعر في كلتا الحالتين يستثمر ذلك جمالياً لاحداث المفاجأة في نهاية القصيدة.
عنوان قصيدة براند هو (عودة) وتبدأها بمشهد يتكرر طوال القصيدة مع تنويع داخلي يمس التفاصيل، فالتكرار سمة أساسية للنص على المستويين الدلالي العام والجمالي. ما يتكرر هو اكتشاف الشاعرة أن الأشياء لم تتغير:
إذا ما زال الشارع، حيث هو، ما يزال يذوب تحت الشمس
ما تزال أمواج الحرارة المشعة عند الواحدة
الرموش المحروقة...
اللعبة الفنية هنا تعتمد على (ما يزال) و(ما تزال)، على هذا الثبات المتلاحق الذي يغمر الأشياء لتتساوى الشمس بالإنسان، ما تصنعه الطبيعة وما يصوغه البشر في عالم لا يعرف التغير أو لا يكاد. غير أن السؤال هنا هو لم يكن الثبات مشكلة؟ هل لأنه يقف ضد تغير مطلوب؟ أم لأنه يقف ضد التغير وكفى؟ الثبات بالطبع مسألة نسبية، والمقصود على كل حال ليس الثبات الكامل فهو مستحيل، وإنما هو الثبات النسبي، أي الثبات الذي لا نريد، أو بطء التغير حين يكون التغير مطلوباً.
فالقصيدة في حقيقة الأمر ليست ضد الثبات بهذا المعنى، وإنما هي ضد بقاء الأشياء على حالها المؤلمة، حالها المنفرة أو حتى المقززة: (ما يزال العرق المتسرب والاندفاق المفاجئ للحرارة يرفعان حرارة القطن والأجساد... ما يزال دم الجزار يلطخ جدران السوق) إلى غير ذلك من صور تجعل الثبات كارثة إنسانية وبيئية.
لكن إذا كان الثبات غير مطلوب فمن أين تأتي القيمة الفنية أو الجمالية إلى النص؟ أين هو المدهش؟ إنها تأتي، كما ذكرت قبل قليل، من أن العائد إلى الأماكن القديمة يبحث عادة عن الثبات وليس التغير، فالمفارقة الجمالية التي يعتمد عليها شعر الأطلال والحنين إلى الأماكن والأزمنة القديمة هو رحيل الأحبة وغياب الثبات عن المكان والزمان.
إنه الفزع من التغير وليس من بقاء الأشياء كما هي، فالبقاء هو المطلوب لو كان ممكناً. وعلى هذا يستغرب القارئ حين يُرى عائداً إلى معاهد طفولته أو شبابه ليعبر عن استيائه لعدم تغير الأشياء. إنه عائد يبحث عن التغيير ويستغرب بل يستنكر عدم حدوثه.
إننا أمام مفارقة التحديث، وسخريات العلاقة بين عالم يتغير أو (يتقدم) وآخر ثابت على ما هو عليه. فصاحب التحديث والمطالب به مستاء بالطبع لعدم حدوثه وعدوه الأول هو بقاء الأشياء وثباتها، وهي المأساة التي تجدها الشاعرة الترينيدادية حين تعود إلى وطنها الأصلي فتجد أن الثبات يجمده، حيث كان، وهي التي تريد لوطنها أن يلحق بركب الحضارة التي وجدتها في كندا وغير كندا من دول العالم الغربي. ومن هنا فهي لا تترك مجالاً لتفسير غير الذي تريد: الثبات شر واقع، ودليله أنه يعني، ضمن أشياء أخرى، استمرار الفقر والذل. ففي نهاية القصيدة يفاجئنا الثبات في أكثر صوره قبحاً ومأساوية:
... ما تزال الأعين
دامعة، وهرمة، ما تزال الرائحة القاسية، الحادة، للعبودية.
إنها المفارقة التي تعبر عن مأساة تلك الجزر إذ تستعبدها عوامل كثيرة: عجز السكان وفقرهم، من ناحية، وهيمنة السائح الغربي الذي يريد تلك الأماكن كما كانت ليتفرج عليها، من ناحية أخرى.
إنها المأساة التي تعمر قصائد شاعر الكاريبي الكبير ديريد والكوت وغيره من مبدعي تلك المنطقة الذين تنظم إليهم ديون براند.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved