الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 15th May,2006 العدد : 153

الأثنين 17 ,ربيع الثاني 1427

مساقات
شِعْرِيَّةُ القِيَم (قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجًا)«4»

*د. عبد الله الفَيْفي :
في هذه المساقات - التي كان أصلها ورقة بحث أُلقيت ضمن ملتقى قراءة النص السادس بنادي جدة الأدبي الثقافي (1427هـ= 2006)- لا نحاكم خطاب (حمزة شحاتة، رحمه الله) إلاّ بمنهاج مجرّد، وبعيدًا عن أي حساسيات قد تنشأ على هامش ذلك، عائليةً، أو اجتماعيةً، وذلك بما أننا أمام معطى ثقافيّ، وتراث فكريّ، من حق النقد تحليله وتناوله بالدرس والتمحيص.
وقد تطرّق المساق الماضي إلى القول إن البخل، بمعناه الحقيقي- لا المبالغ في تأوّل معناه كالمبالغة في تأوّل معنى الكَرَم-، شرٌّ على صاحبه وعلى سواه من الناس- على خلاف ما ذهب إليه شحاتة- بل هو مرضٌ يُؤذي صاحبه قبل غيره، ويحرمه قبل حرمان الآخرين. فكيف يُجرّد عن حقيقته النفسية والاجتماعية، إلاّ في رؤية مجرّدة، لا تربط القِيَم بجذورها في البنية النفسية والاجتماعية، وفق نبرة شعريّة، تشاؤميّة في تقييمها للمجتمع، تتردّد أصداؤها أيضًا في ديوان شحاتة(1)، في نحو قوله:
والمروءاتُ تقتضي بمساعي ال
جُودِِ صيتًا- على الرِّياءِ- ونَفْعا
والعِباداتُ ترتَديْ مَظْهَرَ الخَي
رِ على أَفْظَعِ المناكرِ دِرْعا
على أنه كان يلزم التفريق في مناقشة القِيَم، في محاضرة شحاتة الرجولة عماد الخُلق الفاضل، بين نوعين منها: المُثُل العُليا، والأخلاق الاجتماعية، فالأولى قِيَم داخلية غائية، منشودة لذاتها، مستقلة عن أي غاية نفعية مباشرة متغيّرة، وإن تحقّقتْ بها غايات اجتماعية، وذلك (كالحرّية، والحكمة، والسلم، والعدل، والكرامة، والوحدة)، في حين أن قِيَمًا (كالكَرَم، والشجاعة) هي قِيَم خارجية وسيليّة متغيّرة، مُتَّخَذَة إلى غايات(2).
وبمثل حديث المؤلّف عن الكَرَم جاء تعميمه القول حول قيمة (الإيثار)- اللصيقة ب(الكَرَم)، أو هي بالأحرى خصلة من خصاله- حينما قال: إن الإيثار نَظَر حاذق إلى ضمان فائدة الحبّ والإعجاب في الحاضر، وما يفيد بهما في المستقبل. والأَثَرَة نَظَر ضيق إلى ضمان فائدة الحاضر، تقتصر على المادة.(3) وكذا قوله حول (العِفّة):
لم تكن رياضة عسيرة للنفس، وجهادًا مستمرًّا لغرائزها، وقمع شهواتها الملحّة. إنما كانت مطلبًا من مطالب الحياة الاكتفائية الحريصة على أن تبقى لها ذخيرتها من النشاط والقوة، حيث كانا سلاح الحياة، وأداة صيانتها، وإنما كانت دليل الزهد في مناورة الجماعة، لضرورة الحاجة إلى حمايتها، والاستقرار فيها.
فهي في هذا القياس صفة لا أثر فيها للترفّع الأدبي المختار عن انتهاك الحرمات. على أنها قد تكون عجزًا وفتور حيوية!
صحيح أن للقيم وظائفها الاجتماعية والماديّة، وأنها ليست بمجّانية بإطلاق، لكنّ تجريدها هذا عن دوافعها الروحية في الطبيعة الإنسانية، مبالغةٌ وشكٌّ مسرف. ولقد تبدّى الأَثَر الماديّ أيضًا في تفسير شحاتة قيمةَ (القناعة)، حيث قال: ولو قلنا إنها في الغني والفقير دليل سموّ النفس وترفّعها، لم نقل حقًّا. (4) مستدلاًّ ببيت المتنبي(5):
كُلُّ عَفْوٍ أَتَى بغَيْرِ اقتدارٍ
حُجَّةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ
وبتجاوز ملحوظتين على استشهاده هذا - تتعلق الأولى بأن البيت في ديوان الشاعر عن الحِلْم، لا العفو، والأخرى أن الشعر نفثات انفعالية لا تصحّ براهين علميّة في دراسة الظواهر الاجتماعية- فإن شحاتة كان يتجاهل هنا الدور النفسي للقناعة، الكامن وراء نعتها بأنها فضيلة إنسانية، ذلك الدور المتمثّل في إحساس الفقير بالرضا وشعور الغنيّ بالاكتفاء، وليست الوظيفة النفسية وراء وجود القِيَم بمنفصلة عن الوظيفة المادية. فإذا انتقل القارئ إلى مقاربة المؤلِّف قيمةَ (الشجاعة)، وجده كذلك يذهب إلى أن الشجاعة ليست خُلُقًا طبيعيًّا في الإنسان، فما يتّصف بها الناس إلا اضطرارًا، أو فرارًا من عارٍ، أو طمعًا في تحقيق غايةٍ، أو منافسة لندّ، أو دفعًا لسُبَّة، أو خطأً في تقدير نتائج المخاطر؛ فبماذا من هذه الأسباب تستحقّ أن تُدعَى فَضيلة؟! وكأن هذا منطوق قوله شعرًا:
صبرتُ، وما صبرُ امرئٍ لم يعُدْ لهُعلى يأسِهِ فيما يُحاولُ مذهبُ
أيُقدِمُ؟ والإقدامُ خُطَّةُ يائسٍ
رأى أنّ ضِيْق المَوْتِ للنفسِ أَرْحَبُ
أيُحجِمُ؟ والإحجامُ فُسحَةُ ساعةٍ
سيعقُبُها عُمرٌ كريهٌ معذّبُ
وما هو بالمختار في ذَيْنِ، إنما
ضرورتُهُ تُمْلِيْ عليهِ، وتَغلِبُ(6)
يقول ذلك عن قيمة الشجاعة، مع أن شعره حافل بالتعبير عن تلك القيمة بوصفها خُلُقًا طبيعيًّا في الإنسان، يستحقّ أن يُدعَى فَضيلة، بل يستحق أن تُلبس ثيابه بديل الألقاب والأسماء- لا يختلف في ذلك كله عن (عنترة) أو (عمرو بن كلثوم). فمن قصيدته أبيس(7)، على سبيل المثال:
حيثُ لا يجبن الشُّجاع لما يَخ
شَاهُ من سامعٍ يَشِيْ أو رائي
رُبَّ حَرْفٍ دعا، فلَبَّتْهُ أَعرا
قُ المروءاتِ لَظَى الهيجاءِ
يا خيامَ الصحراءِ! قد بَلَغَ الصَّم
تُ مداهُ على أَذى الغَوغاءِ
فاركبي، واضربي، على طولِ مَسرا
كِ، فلولَ الخَيالِ والخُيَلاءِ
قَلَمِي! لم تَزَل لمجدِكَ أهلاً
في دواعي النُّهوضِ بالأعباءِ
لم تزل في مآزقِ الضَّنْكِ سيفًا
صارمَ الحَدِّ يَعْرُبِيَّ المضاءِ
وصَبَرْنا.. وقد صَبرنا طويلاً
لتحدِّي السَّفاهِ والبَغضاءِ
فانطلقنا إلى الحفيظةِ لا نَل
وي على العاذِلين والنُّصَحاءِ
لا نهابُ الرّدَى فما زالَ مَسرا
نا ومسرَى أجدادِنا القُدَماءِ
فلتَهُبَّ الرِّياحُ من كلِّ صوبٍ
فَهْيَ مِنْ تَحتِنا ثُغاءُ الشَّاءِ
ولْتَدُفَّ الأخطارُ شرقًا وغربًا
فَهْيَ مِنّا ليستْ مِنَ الدُّخلاءِ
نحنُ خُطَّابُها على السَّهلِ والوَع
رِ، وركّابُها على الدَّأماءِ
وبأثوابِنا غُبارُ مَرامي
ها، بَدِيلَ الألقابِ والأسماءِ
والواقع أن ما يصفه في محاضرته (شجاعة) شبيه بما يصفه في نصّه الشعريّ السابق؛ من حيث هو متأرجحٌ بين نوازع التوحّش والطيش، وليس بقيمة الشجاعة بمعناها العقليّ والروحيّ، الباعثة على طمأنينة النفس الواثقة بمقدّراتها، لا عن جهل ولا اندفاع، وتلك خصلة نفسية تكون في الأسوياء من بني الإنسان. ونواصل في المساق الآتي الحديث، بإذن الله.


aalfaify@hotmail.com


إحالات
(1) (1988)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى: ؟)، 38.
(2) يُنظر مثلاً: كلاّب، إلهام، (1994)، نسق القِيَم في لبنان، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع 183، 92.
(3) شحاتة، حمزة، (1981)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 75.
(4) م.ن.، 74.
(5) (د.ت.)، شرح ديوان المتنبي، وضَعه: عبد الرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 217.
وفيه: كل حِلْمٍ.
(6) ديوان حمزة شحاتة، 143.
(7) م.ن.، 190، 192، 197- 199. وقارن: ديوانه أيضًا: إلى أبولون 251- 253؛ الليل والشاعر 286.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved