الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 15th May,2006 العدد : 153

الأثنين 17 ,ربيع الثاني 1427

شموخ الذكرى
*نورة العقيل:
زُجت الأبواب وقفلت.. دُفنت الساعات وانهال الحزن.. تمخضت الآلام لتلد حزناً يقطر له الفؤاد.. ويدمي العين.. آه جسدي النحيل.. تأوه وانطوى بين أردية الفراش.. غطست فيه بحر من الدموع نزحت.. ورحل يستجمع نفسه يبحث عنها في دائرة الذكرى الأليمة.. أخذ يعد السنين والأيام التي خلا البيت من أبويه بعد حادث أليم قضى عليهما.. ووجد نفسه وحيداً.. في ظلال بقايا أمل وآثار.. لتطلعات الذكرى المهيمنة في داخله.. فنظر إلى النخيل المصطف في بهو البيت الذي امتد بهدوء وشموخ.. ما يزال واقفاً منذُ كان أجداده القدامى على قيد الحياة.. كل زاوية من زوايا منزله تحاكيه.. وتناجيه يسمع من خلالها ضحكات وهمسات والديه.. اللذين رحلا ولفهما الموت بردائه.. فتراكم الحزن عليه.. والضجر أخذ يأكل منه.. وحيداً يقضي زماناً مرتحلاً في جلد.. وتوجس.. فتتلون أيامه بالحزن الممزوج بالذكرى والهاجس.. ويطويه الألم تحت عباءته المنسوجة بالغيوم الداكنة.. كغيوم شتوية ملبدة بالسواد.. والمطر تأوه متذكراً في مثل هذا الوقت ظننت أن الفرح سيلملم ثيابه ويرحل مشيراً إليّ.. فتزف الخيبة أجواء قلبي وتلفه وتضعه في جورب قطني وتخبئه بين أطلال الذكرى وحدس الماضي الأليم.. في الصباح أستيقظ على همسات أمي تدغدغ سمعي هيا.. أنهض قاربت الشمس على الإشراق اقترب الصبح يا بني.. هيا.. رائحة القهوة وتصاعد أبخرتها مع الصبح الوليد.. تتسابق إلى أنفي فتدخله دون استئذان فتنتعش النفس.. فانهض مسرعاً.. آه.. الذكرى تحاصرني في كل أرجاء البيت.. أكاد أسمع صوت أبي الذي يتردد صداه.. آمراً.. وناهياً.. وأمي بعباراتها المعتادة تصافحه بابتسامة عريضة.. وعبارات الثناء والدعاء تتراكض تهرول إليه.. مجيبة طلبه.. آه أبتاه كم تاقت النفس.. وصمت!!
إن الثواني والسويعات تزمجر بوحشية في خبايا منزلي تهتف بصدى ذكرى أيامها الخوالي.. وبينما هو غاطس في بحر الهواجس.. إذ بصوت جرس الباب يصدع بقوة.. ركض.. فتح الباب وإذ بصوت جهوري له رنّه مميزة يلقي السلام بسرعة..
ثم يبادره بالحديث قائلاً:
- هذا منزل الشيخ محمد..
- نعم..
- أين هو؟
توسده الصمت وكأنما ألجم فاه.. أين هو؟ وأخذ الدمع يتساقط من عينيه!.. آه.. الشيخ محمد تحت ظل رحمة خالق الأكوان.
- أمتوفى؟
- نعم
- من تكون أنت؟
- أنا.. ابنه سالم.
- إذاً بصفتك ابنه.. فوقع هنا وأشار بيده إلى وريقة منفردة على يده.. على استلام هذه الورقة!
- ما هذه؟
- إنها إنذار بمغادرة البيت حالاً فقد دخل ضمن مخطط شارع عشرين في هذا الحي.
آه.. صرخ من هول المفاجأة.. أ.. أتقصد إخلاء المنزل.. أتقصد أن أغدو فاقد القلب.. أتقصد أن أفارق بيتي.. إن أنفاس والداي ما تزال تعبق في أرجائه.. إن رائحتهما ماتزال تملأ زواياه.. هل أفارق كل هذا.. إن وحشة الساعات بعدهما قضمت على نفسي، أتريد أن أفارق ذكراهما .. أتريد أن تفارق روحي الجسد.. أأغدو وحيداً بلا قلب ألا يكفي وحدتي مع بقايا الأمل.. وهرولت أسئلته السقيمة كذئب في أوج قوته يركض وراء فريسته.. فضم يديه وغطى بهما دموعه التي هطلت بحرارة.. أرجوكم أتركوا لي هذه الحجرات.. هذا الطين.. كل شيء هنا يذكرني بهما عندها.. جاءه صوت رخيم.. مليء بعبرات الحنان..
- هوّن عليك يابني.. هذه حال الدنيا.. كلنا راحلون.. كلنا عابرو سبيل نركض في هذه الدار.. لنتزود منها.. وهنيئاً لمن كان زاده التقوى هون عليك وادعُ لهما بالرحمة والمغفرة.. اقترب منه ووضع يده على كتفه وهزه بحنان وأكمل:
- إن الناس يبكون لمن تموت أجسادهم ويغادرون الدنيا لكن لم أرَ أحداً يبكي على من يموت قلبه.. والجسد خواء ينمو ويكبر.
لا تبكيهما.. بل ادعُ لهما.. وإلى لقاء قريب يجمعك الله بهما في دار خير من هذه.. مرقت كلماته العذبة الناصحة بهدوء إلى نفسه فكانت كبلسم.. عطر أُريق في داخل قلبه فرطبه ومسح معه شيئاً من ألمه.. فحاول جمع شتات نفسه.. رفع رأسه وهتف بصوت مخنوق.
- صحيح يا أخي جزاك الله عني كل خير.. صافحه بحرارة وأعطاه الورقة.. ورحل.. فرحلت نظرته تلاحق سير الرجل ولسانه يتمتم بالدعاء لهما.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved