الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 15th August,2005 العدد : 118

الأثنين 10 ,رجب 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
الظلإلى أعلى هدى الدغفق
سعد البواردي

ظلت شاعرتنا صعوداً إلى الأعلى شبيهة بوصف الشاعر الذي يتحدث عن عمل مرتد إلى الأسفل كلاهما يرسمان صورة كاريكاتورية معكوسة.. منكوسة.. الأفضل منها أن لا عمل لها.. ولا ظل لها.. ولكن هذا لا يعني ألا تسلط على انهزاميتها أضواء الكشف كي تعريها.. وتهز أمنها..
لعلى استبقت دون وجه حق ما كانت تعنيه شاعرتنا بظلها الذي تخلى عن مكانه وطبيعته ليفقد بذلك مكانته وطبيعته.. فالظل وجه آخر ميت يتحرك بحركة الشيء لا يبتعد عنه، وإنما يلازمه يمنة ويسرة، أمامه، وخلفه.. ويتلاشى أحياناً ساعة أن تحتل الشمس كبد سمائها في مواجهة الجسد.. وساعة أن يطبق الظلام فلا يستبين للشيء وظله مكان.. (هدى الدغفق) الصوت الشاعري الناعم هدتنا إلى جناحها الأرضي لنراه لا لنسكن فيه.. فقد لا يعجبها، ولا يعجبنا أن يكون مقراً ومستقراً شاعرياً ترتاح له النفس
الآن تحضر القصيدة
ألفي ارتباطات الزمان كلها
حتى الذهاب إلى الحمام أجلُّه
توارت القصيدة
فلا زمانا حاضرا قضى
ولا زمانها ابتدأ
بهذا المعنى جاءت الحركة ميتة بلا حركة.. ودون بركة.. لقد أغلق الفهم إلى درجة الإلغاء القاتل.. وإلى درجة من التمني الموجع:
يا ليته دم القصيدة
ينحلُّ من دوائري وينفجر
كي أستقر أو أقر
لم لا تمر قصيدتي؟!
تلك التي قالت:
سأصبح مستحيلة
ما هكذا يا هدى تكون الإرادة رهن التمني.. ابنة القصيدة.. والحياة وعاء نغترف من مخزونه طاقتنا.. القوي لا يستأذن ولا يستجدي جرعة ماء، ناهيكِ عن شحنة فكر ضاق بها الصدر.. أبداً ليكن صوتك أقوى من رهبة الصمت..
الصوت قصيدتها الثانية:
في بيتي شباكان
شباك لعصافير البيت
وآخر للأنين من الغربة
آخرهم. أصغرهم..
إذا كان الضمير عائداً إليهما هو مثنى.. فهما آخرها، أصغرهما، وربما لقاطني البيت وهم كثر:
ما وصل الشباك إلى الساعة
اسمعهم لما اكتمل الرعد
حَكَوا.. غنُّوا.. وعدُوا.
مرت طائرة حجبت صوتين
عدت.. لكنَّ بكاء ما زال..
لعله بكاء اغتراب.. وخوف من رعد السحاب أصابت من أصابت بالذعر.. كلنا نخاف غائلة الزمن.. وغول الزمن.. وإحباطات الزمن ما ظهر منها وما بطن.. لا جديد في ذلك.. البكاء ظاهرة احتجاج أيضا على شيء غير مرغوب فيه.. أو على شيء عز الحصول عليه، والوصول إليه..
ومن الصوت إلى الندم يأخذنا درب المتابعة لشعر شاعرتنا هدى:
واجفة.. كفاتي مطفأتان
ليل هذا، أم ذا سواد الوجه؟!
أم فزع النهاية؟..
كيف.. أو ماذا سيفزع في النهاية..
يا أختي الأكف مطبعة.. أو مشدودة.. أو مغلولة إنهما لا تبصران.. العينان وحدهما بإبصارهما وإحداقهما ذلك الذي يُطفأ.. نعم الأكف تنام.. وهذا ما أوحيت به آنفا:
كفاي لما نامتا.. شيء غفا.!
ماذا رأيت؟!
ماذا يرى الأعمى؟
ومرة أخرى حين تنام الأكف يأخذهما الاجهاد لحظة تعب.. حسنا لو أن شطرك الأخير هكذا.. (ماذا يعمل المجهد؟).. هذا ما أكده بيت شعرك التالي:
لهب يشد الجمر من عينيه كي لا ينطفئ زيته
وأغصان الزيتون تشعل سره
لا تخافي على نفسك.. وعلى طفلك فأنت أم، وأخت موهوبة شاعرة لسوف يرسمك في قلبه ما حييت لأنك شاعرة بحلمه ووجه..
النهر في مدارك له مجرى.. وفي دموع حبك له أخدود.. حتى لو أفرغت كل ما في حقيبتك.. القصيدة مطبوعة في الذهن قبل الورق.. يغرق الورق بماء النسيان أو التجاهل، وتظل القصيدة حين تصارع تآكل الذاكرة.. هذا ما استشرفته من مقطوعتك النهرية الشعرية.. أبقي عليها عنوان حب.. وحدها تكفي..
(الصباح يغرق) عنوان لمقطوعة أخرى..
يتدفق نهر الشمس
يصبح وجنة فلاح
يطرق بابا..
يقف طويلا
يمضي لباب آخر
يتمهل حتى سابع باب
يغفو النهر
والاجساد مغلقة
بين غفوته وصحوته تبدو ملامح الأشياء غريبة، رصيف، جدران، أبواب.. نسيت الأمل يا هدى إنه الشمس بما تعنيه من معنى.. ارتكي أشعتها تخترق الأجساد الراعشة تمنحها الدفء.. بها يتدفق النهر في صحوة لا في غفلته.. الحياة إشراق يطرد الوهم.. (الوهم) عنوان جديد:
الطريق طويل
قال ذلك، لم يحتسب
كان يصغر
والوهم يكبر..
والطريق يطول
الألف ميل تبدأ بخطوة.. لا يجوز لنا أن نثبط عزائمنا، وأن نسلمها للوهم حتى ولو جاءت الصور من حولنا معتمة. إذا لطالبنا سبات الحياة، وموت الإرادة.. أعطى لنا صوراً أكثر أملاً كي نعيش..
رذاذ المطر.. أم رذاذ الفِكر ما تعنيه شاعرتنا الدغفق؟ أخاله الثاني:
في الصفحة الأولى أرمي الفراغ لأرتمي في قلبها
للصفحة الأولى ألوذ برعشة هي احرفي
أخشى على فراغها المغري..
أي فراغ يمكن الخشية عليه ولفه..؟ أبكي منه وعليه إنه لا يصح أن يكون نافذة إلا إذا كان مشبعاً بروح اليقظة.. والإيقاظ.. انثري من رذاذه الحي قطرات تبل صدأ النفوس الظامئة.. امطري شعراً.. ومشاعر تستطيب لها الأرض.. دعي الرعشة.. (حركة) وفي الحركة بركة.. إنها مؤشر حياة حتى ولو أخطأت
والعصافير تنطلق الآن من عينيها
رمشها رفَّ
وانحبست صورة العصافير راحلة
وعصافير قد أوشكت
وعلى الهدب حطه عاشقان..
عصافير الطير كعصافير الحب.. إنها تهوى السماء، وتعشق الأشجار.. وتطعم الثمار.. وتصطفي الحرية خيارا لحياتها.. حسنا إن حطه العاشقان على أهداب العشق كعصافير الحب.. الوكر الآمن ملاذ حياة.. والعش الآمن فراش وجد.. وتواجد..
شاعرتنا هدى أهدتنا شعراً تغلب عليه الرمزية.. مضامينه يمكن تلمسها بحس داخلي.. واستبطانها من خلال أخيلة يغلفها غموض الفكرة.. (تنفرط الوجهة) واحدة من نقاطها السابقة واللاحقة.. إنها شاعرة تتمتم في همس وبشفاه متحركة لا تكاد تبصرها.. شخوص أبياتها يلفها عمق الفكرة الخاطفة التي ما إن تبدأ حتى تنتهي مخلفة خلفها الكثير من التفكير.. والقليل القليل من الوضوح..
مساء الموت بالغة من الأوهام تكبرنا
مساء الموت يا أشياءنا الحمراء
تنسبنا الحياة إلى مراجعنا
وتنسبها إلى أيامنا الأولى..
تصغر في ذاتي أشياء
أكبر من ذات الاشياء
وأكون، أكون كباقي الأشياء
تلك هي طبيعة الأشياء.. بقدر ما نعرف نزداد معرفة بجهلنا فيما لا نعرف.. آفة المعرفة الأدعياء.. إننا أشياء صغيرة ولو كبرنا..
شاعرتنا هدى هداها الله ووفقها تطلب من شخص شعرها الا يبحث الأسباب لأن معظمها وأصعبها.. نحن كمتلقين تهمنا الأسباب كي نعرف أسباب التمرد كي يرتكب ونرتكب معه فرح البداية.. ونرأف بالبراعم التي لا نعرف شيئا عنها.. وعن فارسها المنقعر المتطاول الذي لن يطول حتى لا يمزق قصيدته الأخيرة.. عفواً لعدم الفهم..
(التوحد) مطلب إنساني أخلاقي وديني منه، وبه، وله جاء التوحيد داعياً ومنادياً:
طيران يقتربان كي لا يقعا
جناح يمين، واحدها رماد
لا ضير.. فالاثنان كف في اليسار..
طيران يبتعدان كي لا ينحرا بعضيهما
سقطا.. وخانهما قفص
فتجمعا في سجنه..
وبلا اختصار لم يصبحا طيرين
لكن.. سقطتين على قمر
هما سعيدان بهذه السقطة الشفافة حتى ولو كانا سجينين لا نعرف كُنه ذنبهما.. شاعرتنا ربما تعرف ولا تريد لنا أن نعرف.. هي حرة في سرها وفي شعرها.. ولكن..!
ومن التوحد إلى أوتار الملح في نقلة أرجو أن تكون مليحة غير مالحة..
في ركن من الأركان
من بيت له عشر من السنوات
أشبك لهفتي، والخوف، والباقين في أعصار أوردتي
واهتز ابتداء من شروق دمي شروقا مطفأ
بالليل باللاشمس فوق ضبابه قلبي
لماذا هذا الاختيار الصعب يا شاعرتي الغامضة بأفكارها.. اتركي قلمك يفصح عما في دواخلك.. أسئلة فتوتها تلاشت فيك، كما ذكرت وتلاشت فينا ضبابا يحتاج إلى أشعة شمس تبدده أمام فهمنا كي نقرأ ما نعرف.. ونعرف ما نقرأ.. إننا حيارى..
من لا شيء سميت الحياة هنا
ومن الأشياء للأشياء قلت: أنا
أنا في النور
أو في بقعة أخرى ملفعة برائحة الدموع
الملح، والأوتار تُلهبها..
من قال يا شاعرتنا أن الحياة يجوز تسميها من لا شيء.. لا شيء هو العدم.. والحياة وجود متحرك نلمسه في تكويننا وحركتنا وسكناتنا..
أنبت في النور شيء جميل نباركه.. أما بقعة الدموع فجزء من حياتنا يتساوى مع الفرح.. كلاهما كفتان لميزان واحد.
الدم الآخر في مجموعة نثرها الفني يتحدث عن الريح بروح متمردة:
الريح تصنع قلبا.. سيضيع
وأنا سأفيء الى قفصي
لن أترك أجنحي نافرة
لن أقرب هذا الغصن
أما لو نفت الريح نضارته
لن اهجر هذا الغصن
في محتواها ألمس جانحة من التحدي.. إصرار على الالتصاق بجذور الحياة حتى ولو جاءت عارية.. إرادة حياة لابد وأن تكون.. التحول في طبيعة الأشياء حتمية.. الليل يعقبه نهار.. والنار تؤول في نهايتها إلى دخان ورماد.. لا شيء واحد ثابت إنه يتغير.
يصَّاعد للأفق دخان
وبلون اللحظة ابدو
وكموجة بحر اشتد
اختلط بكل الامواج..
جميل هذا المعنى.. انه التعلق بأهداب الحياة أيا كانت رياحها غاضبة..
الحياة دوائر تدور حول نفسها ندور حولها مشدوهين مشدودين إلى حركتها.. دائرة بطلتنا ماذا تغني وعلام تشير؟!
وردة قاسمتها خوفى
ألوانها اختلطت عليَّ
وكنت قبل قد اختلطت
لم استقم..
آن عليِّ وعليه..
آن.. واستلف الكلام
أقيم منه قصيدة لتماسكي
الكلام يا أختي لا يحوجنا إلى استلاف.. إنه مبثوث كالهواء.. وكالماء نغترف من محيطه دون عناء ودون استئذان.. حسنا لو استرجعتيه بدلا من استلافه.. وفي قفلتها الجميلة لدائرتها تقول وعلى شفتيها عبارة حائرة ملؤها التساؤل:
أين تتجه الآن؟ كبرت
يحيرك الورد أكثر، أكثر
ما زلت تشكو لغربتك الأهل
تعودت، فاحتججت..
انت لن تنتهي.
لِمَ النهاية وحياتنا باغترابها واقترابها قائمة..؟ دعيه يدور في فلكها متشحا بإرادته ومقاومته.. الريح أحيانا تأخذنا إلى مسارها دون رغبة.. للخيال في حياة جفاف وخصب يتلون.. ويتكون نسيجه من هواجسنا الحياتية المفاجئة حتى مع فرحة أعيادنا الجافة..
العيد يخرج للشوارع
ادخل البيت الخلي
غريبة هذه المداخلة.. عيدها يخرج وهي تدخل.. علها في مخاصمة مع عيد تنقصه فرحة العيد:
أول الأعياد بُعد
اشرب الازهار.. ترفضي
انتقي ظلي.. فيجهل انني من لحمه
ملاحظتان (عابرتان) الازهار تشم لا تشرب.. اللحم هو الأصل لا الظل.. حسنا لو أعدت صياغته كالتالي
انتقي ظلي.. فيجهل انه من لحمي..
وهنا أتوقف مع الاخت الحبيبة هدى الدغفق عبر رحلتها النثرية الفنية الممتعة والمشبعة بظلال يكثف بعضها الخموض الرمزي.. وبعضها يسيل في شرايين دم الوضوح والإفصاح الجميل الممتع والمشبع بروح التأمل الجاد الجيد.. لها الشكر، وقد كنت معها رفيق سفر ألهث خلف سطورها كالظامئ الذي أبصر الماء واغترف منه ما يبل ظمأه دون أن يروى.. لأن في ظلها إلى الأعلى الكثير مما لا أقدر على ملاحقته لأن المساحة المتاحة لا تتسع لذلك.


ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved