الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 15th September,2003 العدد : 28

الأثنين 18 ,رجب 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
فجر أنت لا تغيب
إبراهيم بن محمد العواجي
سعد البواردي

رحلتي مع الشاعر الموهوب العواجي طويلة طويلة. قبل.. وبعد.. قرابة خمسين عاماً وهو عمر لا يستهان به.. كان رفيق درب.. فتحت له بوابة «الاشعاع» صدرها.. ولمَّا يكتمل نموها.. كان أحد الطاقات الحيوية والحية التي تضخ الدم في عروقها.. وتنشط خلاياها النامية.. اذاً لا غرابة ان تكون تجربتي معه شاقة.. ورحلتي مع فجره الجديد المتجدد شيقة، ولا غرابة ايضاً ان يستبق فجره موكب شعره في اطلالة جميلة تؤذن بميلاد يوم جديد لعله الأكثر أشراقاً.. والأكبر اشواقاً:
«صباح مشرق الثغر
يحاكي بسمة الزهر..
ويرسم فوق اخيلتي
أفانينا من الشعر»
لعله كذلك.. وقبل الحكم عليه أولا لابد وان نتعرف على تلك الأفانين من خلال المضامين التي تجسدها وترسمها على حائط الزمن.. مذيلة باسمه.. انه يحددلنا ادبيات فكره وشعره من واقع ثوابت وجده المتألق الذي جدد له تباشيره.. وحدد له مساحة وحجم معطياته كي يبدد الشجن في دواخله ويعرف ان الحب عمر وزهر وصباح دائم الاشراق والاشواق. لا ليل يبدده. ولا ظل يراوده. ولا عبث يهدده.. هذه بعض جوانب ابجدياته التي بنى عليها خطابه الشعري من واقع اعترافاته.. وطموحاته.. إلى أين نصل معه في وصل هادئ نستشف من خلاله اثبات شواهده ومشاهده المطروحة بين يدينا؟! هذا هو السؤال.. والاجابة في يقيني ليست بعيدة بل وموجودة:
«حديث القلب يأسرني
فأمرح في مراتعه
طليقا دونما قيد
احلق في مرابعه
مساحته شموس الأرض
تشرق من أصابعه»
لقد اختار شاعرنا مساحة واسعة للحب اخشى عليه فيها من التوهان.. والضياع.. ان طاقتنا لا تملك القدرة على احتواء ما لا نقدر السيطرة عليه حتى لو حاولنا.. ان احلامنا تتكسر امام رياح ايامنا على غير رغبة.. من هنا فإن اختيارنا للمساحة مجرد خيال افلاطوني يكذبه الواقع. وتهزمه الحقيقة. ثم ألا يرى صديقي الشاعر ان الاشراق من الاصابع يحتاج إلى اعادة نظر.. حسناً لو جاء الإشراق من المواقع لكان أفضل جرسا.. واقرب رقة إلى السماع..
ولأن الشاعر خاض معركته من بدايتها اعانه الله.. فإن للمعركة أدوات لابد من استخدامها لكسب حرب الحب.. وهل توجد أدوات افضل من الغزل التي تذيب الحاجز النفسي والحسي بين العاشق والحبيب.. سيما وقد اقتربت منه.. وأنست إلى جواره وحواره:
«ترافقني.. وتؤنسني
ككل متيم مشتاق
اداعبها بلا كلل
واطبق حولها الاحداق»
صورة الحب في وجدانه مرسومة.. وموسوعة تنتظر اطارها.. فهل تكتمل الصورة والإطار.. من الصعب التسليم بنجاح مغامرة شاسعة الابعاد مهما كانت الجياد الموصلة إلى الهدف مستعدة للمقامرة.
«صباح قبله شعري
يغط بنومه يحلم
ولا يدري بما يجري
ويحلم انه يعلم
فلا الإشراق يوقظه
ولا من نومه يسأم
يظن العمر مقبرة
وطعم الوجد كالعلقم»
هكذا باعترافه.. وبلسان قلمه ادرك الحقيقة فتنازل عن شيء من كبريائه.. وصحا إلى واقع مختلف لا تستغرق كل شموس الأرض مساحته.. ادرك شاعرنا انه يركض لاهثا خلف اطياف يجهلها ويستعصي عليه فهمها.. ومع هذا فإن سطوة الحب تزداد اشتعالا واحتراقا واختراقاً للأبعاد الممكنة متى كان هناك أمل ورغبة.. لقد اختار لها من جديد رحلة سفر عبر شرايينه دون قطع تذكرة. ولا جواز.. ولا جمرك.. واصبحت في دمه نجما ينادمه كل مساء.. اما روحها هي كما اصطفى شاعرنا لنفسه فإنها المجداف الذي يحرك به زورق حب كي يعبر النهر أو البحر إلى شاطىء الأمان..
يا شاعرنا الغالي هلا اخترت لها وظيفة ارق من المجداف.. انها تستحق مادام حبك لها جارفا إلى هذا الحد؟!
المهم في الرحلة انه اجتاز عالي الموج دون خشية قهر من نهر أو بحر.. والنورس يشنف اسماعه ويوحي إليه بسره الأكبر.. رحلة العواجي الشعرية والشاعرية ما بين شط وآخر ذكرتني بمدينة فينيسيا (البندقية) أو مدينة «امستردام» بجداولها المائية المتقاطعة.. فما أن يعبر شطا إلى شط دون شطط حتى يتهيأ لعبور جديد قد يتفق معه وقد يختلف في محصلة التجربة.. وان كانت في الغالب لقاء.. ورحيل.. ثم رحيل.. ولقاء.. اما الحب فمزيج من بقاء وشقاء.. هكذا يدور شعر الشعراء في فلك هواهم انهم لا يشبعون من الحب حتى ولو غرقوا في بحر عدله.. او عذله.. وشاعرنا كغيره لا يشذ عن القاعدة فما ان يرتشف قطرة حب ويظمأ حتى يبحث عن رشفة أخرى يبل بها ظمأ قلبه:
«وكم يا صبح يملكني
حنين كم اداعبه
بزوغ ضيائك الدافي
يغازلني فألهبه
حنين مثلما لو كنت
أنأى عنه. ارقبه
أسير. غير ان الأسر
في عينيك اعذبه
طليق غير أن الحر
صوت الحب يسلبه»
إلى هذه الدرجة من العشق يمكن للعاشق اختيار الأسر اللذيذ على الحرية التي لا حرية فيها.. ولا اختيار لها لأنها محكومة باليأس.. أو الفشل.. أو الهجر.. إلا انه احيانا يقع بين خيارين ايهما يختار الضياع أم «نداء الأرض»؟ هذا الاختبار الذي طرحته عليه هواجسه لم يطل به الانتظار..
«وان سألتْ فلول الشك
يوما.. أيها اهوى؟
ضياؤك؟ ام نداء الأرض
ايهما غدا.. اقوى؟
اجبت هما معا حبي
وسر الصبر.. والتقوى»
هنا تمازج حبان في حب واحد.. حب يستوطن القلب.. وآخر يستوطن التراب.. والتراث.. والتاريخ.. ولهذا كان صوته مجلجلا.. وقويا وهو يتحدث عن حبه الكبير
«ارد البأس.. اقهره
على اعقابه السفلى
واعشق سيف ايماني
وابتر رأس من ضلَّ»
لماذا قطع رأس من يضل؟ أليس الاجدى يا صديقي اخذه بالحكمة والموعظة الحسنة لعله يثوب إلى رشده قبل الاجهاز على رقبته..؟ حبذا لو أحللت مفردة «اهدي» من الهداية.. أو «انصح» من النصيحة.. الا حين يصر على ضلاله فإن لكل حادث حديثا «ومن سيفه الصارم إلى ارقه الذي يغالبه لأن ارق اناس لا يبصرون النور رغم توهجه.. وفي صحوتهم يرتجلون بين الشك والشكوى.. اما وهم نيام فإن اعراسهم احلامهم التي تذيبها شمس النهار.. انهم على حد قوله:
«هلاميون.. يختصمون
لا يدرون ما الدعوى!
الا ان شاعرنا العواجي ابدع وابدع وهو يتحدث عن ادعياء الحرف والكلمة الذين يطعمون بأفواههم ويقتاتون بأقلامهم في بورصة الاتجار بالكلمة:
«ثقافيون للايجار
من يشري على السكين
ومندسون في لغتي
وفي شكلي. وفي حطين
لسان يمدح التغريب
ثان يستبيح الدين
ضحايا عقدة الأقوى
مرايا تعشق التأبين
فهل يافجر من أمل
بصحو يرفض التدجين؟»
سؤالك وصل.. الشواهد عليه أكثر من الهم على القلب.. اما الجواب فأمره أمر.. العالم مع الأقوى لأنه الأقدر على المنح.. والمنع.. بل والحصار.. والنفي لمن يقف في وجهه ويقول له.. لا.. اذ لا صوت يعلو على صوته وسوطه وصوت ابواقه المنتفعين.. المزروعين في أكثر من مكان.. وأكثر من زمان.. وأكثر من انسان:
والرمز في الاشياء هو عنوانها:
«لانك رمز احلامي
وأسرار أخبئها..
خيوط سناكِ ملحمة
تغالبني لأكتبها
تعيد إلى ثانية
بهاءك حين أرقبها»
إغراق في التوصيف والتوظيف يعمد إليه الشاعر الجائع حين يقف أمام منهل حبه يتغزل فيه قبل ان يتقدم خطوات نحو ورده الذي قد يُسمح له بالوصول إليه وقد لا يسمح.. وهي ادوات غير كافية لانتزاع ما قبل النهاية وما بعدها من مواقف تحدد مصير العلاقة بين القبول والرفض.. وهي إشكالية ما زلنا نحن الذين يمتطون مطية الشعر.. وأنا احدهم عاجزين عن «تجاوز» عقباتها.. ذلك ان الحب أكبر من هجر. واكبر من لقاء، واكبر من احتضان.. انه انساني. اجتماعي.. واقتصادي شمولي المضامين. بل وفلسفي المرامي والابعاد التي بدونها لا يمكن امتزاج اسبابه السالبة والموجبة.. وهذا ما يجب ادراكه من زواياه المختلفة والمؤتلفة كي نصل إلى فهم مشترك قادر على رسم صورة الحب على لوحة الحياة بوجهيها المتباينين..
«أيها الحب الموشى
فوق اوتار ربابي
تارة يعزف لحنا
شامخا مثل شبابي
تارة موال حزن
باهت يفضح بابي»
هكذا طعمنا الحب وارتضيناه زاداً بحلوه ومُره.. بوصله وهجره.. ولولا مرارته ما استمتعنا بحلاوته.. ولولا هجره لما تفجرت في دواخلنا شآبيب الشوق إلى وصله.. لا طعم لشبع دون جوع.. ولا لذة لماء دون ظمأ.. المهم ان نأخذ من المعاناة ما يوصلنا الى شاطئ السلامة ان استطعنا.. ألا نكسر مجاديف الحب في قلوبنا لحظة غضب أو يأس فنغرق.. أو نشرق بين اثباجه وامواجه..
شدني إلى شاعرنا العواجي كبرياء شعره الذي يرفض الخنوع.. ويأبى الهزيمة والهوان:
«كلما هبت الرياح بوجهي
رفع الحب قامتي عن مداه
واذا الليل جاء يحبو الهوينى
أشرق الفجر داخلي فجلاه
واذا فاح منتن في فضائي
عطره هبَّ فوحه.. ونفاه
واذا دس لي جبان سموما
غسل الصحو من دمائي أذاه»
عملية عزل بين الكرامة والمهانة.. ولكن ليس بالشعر وحده يحيا الإنسان.. انها ارادة حياة تسبق افعالها اقوالها.. وإلا فإنها مجرد احلام باهتة تضيع امام سطوة القوة. وجبروت الظلم.. والإظلام: ولأن الأحداث المطبقة من حولنا تستفز شاعرنا.. وتملي عليه فهمه لما حدث وما سوف يحدث فإنه يرفع عقيرته في محاولة اللحاق بها على الأقل دون ان يكون مجرد رد فعل لا يقدم ولا يؤخر:
«أرى الاحداث تربكني
وتسبق عقلي الواعي
أحاول أن ألاحقها
لأكشف سر اوضاعي
فيأتي الرد منتكسا
خواء دون ايقاع!
يعمِّق فيَّ صوتُ الشك
أوهامي.. وأوجاعي
فهل يا فجر تسعفني؟
وتوقظ فيَّ ابداعي!»
ابدا الفجر نحن الذي نصنعه بصحونا ويقظتنا.. ان انتظارنا مستسلمين لفجر آت يزيد من تراكم الأحداث ومخاطر المستقبل.. الوعي الذاتي هو الإرادة التي تمد الحياة بالحرية.. والكرامة.. والبقاء.. لا شيء أعز وأغلى من الوطن.. هكذا تغنى له في صدق محبب إلى النفس:
«وطني شموسُ المجد ترضع
ثديه حتى الثمالة..
من رحمه وُلد النبي
وأشرقت منه الرسالة
في ارضه نبت الهوى!
والحب في دمه اصاله
من عقله عُرف النهى
من نوره للبدر هاله»...
جميلة تلك المقاطع.. بقيت ملاحظة على كلمة «الهوى» التي نبتت على أرضه.. ان «الهدى» الأمثل والأجمل..
أحب ابياته تلك.. لما ترمز اليه. وما توحي به في عالم متغيرات تحكمه المادة.. وتتحكم فيه الأهواء والمطامع:
«تضاءل في عقول الناس
وزن الفضل والإحسان
وحلّ محلها «الدولار»
والأطماع.. والأضغان
وعاث منافق في سا
حة تكتظ بالألوان
وصار الكذب عنوانا
لكل مدلس فتان
فلا تعجب أيا فجري
اذا ما ضاعت الأوطان»
أخلاقيات عصر العولمة التي اعلنت الحرب المتوحشة على ثوابتنا.. ومعتقداتنا.. وخصائصنا كي تسلخنا من تاريخنا وتحولنا إلى مجرد ببغاوات تُقلِّد وتُحاكي.. وأدوات طيعة تتحرك بجهاز الاستشعار عن بُعد دون تفكير..
وعن القدس الذبيحة.. بل وعن كل فلسطين المحتلة له عنوان:
«وهذي القدس يا فجري
تئن.. تذوب.. باللهب
يكاد عويلها يدمي..
جبال الألب. لا العربي
ولو كانت شهامتنا..
كما في الذكر.. في الكتب
لما كنا رموز الشجب
خلف اللص. والذئب
ولكن! ما لها لكن؟!
سؤال العقل.. والأرب»
حتى الشهامة نالت الشهادة.. وحتى الشجب استكثرناه واستأثرناه لأنفسنا خشية ان تلحق بنا شبهة الإرهاب أليس المحتل في عقيدة المختل «رجل سلام!! انه عالم لا ضمير له يحكي منطق القوة. لا قوة المنطق.. إشارة عابرة إلى الشطر الذي يقول:«كما في الذكر.. في الكتب» اتصور ان حرف واو الاضافة انسب من الغاء.. وكلاهما صحيح.. وتنتهي الجولة الممتعة الشيقة مع اخي الشاعر الموهوب إبراهيم بن محمد العواجي.. في ديوانه الذي اختار له عنوانا واحدا هو «فجر أنت لا تغيب».. الفجر بالنسبة لكل ابياته قاسمه المشترك الاعظم.. وهل كالفجر في عالم محكوم بالظلم والظلام القاضي الذي نحتكم إليه.. وتبثه شكاوانا.. ونترافع امام منصته.. يبقى ان الفجر اضاءة في دواخلنا نحن وحدنا القادرون على تفجيرها.. أو تهجيرها.. وبين الخيارين تتحدد معالم المستقبل.. وعوالم التاريخ ومصائراهم الأمم والأوطان.

الرياض: ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved