الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 15th December,2003 العدد : 39

الأثنين 21 ,شوال 1424

شقيقات قريش
الأنساب، الزواج والطعام في الموروث العربي

تأليف: فاضل الربيعي
بيروت: رياض الريس، 2002
بغض النظر عن قبولك أو عدم قبولك، ارتياحك أو عدم ارتياحك، للتحليل الذي يتناول به فاضل الربيعي موضوعه في هذا الكتاب فانه لايمكن الا ان نعبر عن تقديرنا لهذا الجهد الذي يعد اضافة متميزة لمكتبتنا العربية.
لقد راح الربيعي يغوص في اعماق موضوعه حتى استطاع ان يجسد لنا بحق ما اصبح معروفا باسم «حفريات المعرفة» وهو عنوان كتاب للفيلسوف الفرنسي فوكو فقد اخذ الربيعي ينقب في اللغة والتاريخ والتراث حتى استطاع ان يصل إلى رؤى مغايرة تنزع الاسطرة عن الكثير مما كنا نعتقده حقائق تاريخية لا مراء فيها.
وحسبما يشير المؤلف في عنوانه للكتاب الذي يحدد الرؤية العامة لموضوعه فهو يتناول الانساب والزواج والطعام في الموروث العربي.. وان كنا نضيف هنا الموروث التوراتي ان صح التعبير الذي يرافق الموروث العربي في سياق تحليل المؤلف لموضوعه شبرا بشبر وذراعا بذراع، والفكرة الاساسية للمؤلف حسبما يشير هي ان نقد قوائم الانساب العربية والاسلامية يمهد السبيل امام قراءة جديدة لاساطير العرب ويتلازم معها لاجل فهم أعمق للروايات التي تعرض علينا بوصفها هي التاريخ. كنا نتمنى ان نعرض هنا بشكل اوسع للتطبيقات والامثلة التي ساقها الكتاب وهي عديدة ويمثل بعضها رؤى جديدة، وهو ما تضيق معه المساحة ولذا سنعرض قدر الامكان للرؤى العامة التي تمثل جوهر التحليل، مع تقديم بعض الامثلة ما امكن ذلك.
يقسم المؤلف كتابه إلى قسمين الاول تحت عنوان نفي اسماعيل ويتفرق نصف الكتاب ويشمل ثلاثة فصول تحت عناوين البحث عن لسان جماعة مكة، حق يعقوب، اما الثاني فتحت عنوان الانساب ويشمل فصلين الاول بعنوان النسب الامومي والثاني بعنوان عصبيات الانساب.
وينطلق الكاتب من اهمية دراسة تاريخ الكلمة أو اللفظ منتقدا بعض الباحثين المعاصرين الذين لايقيمون وزنا كبيرا لذلك؛ معتبرين ذلك ضربا من اللامعنى. ويشير إلى انه بالنسبة لحالة القبائل العربية فان ما نملكه في حوزتنا بالفعل من تاريخ حقيقي يكاد يكون ضئيل القيمة قياسا إلى التاريخ الافتراضي أو حتى عديم القيمة، لذا لابد من استخدام وسائل أخرى متقنة ومبتكرة من بينها تحليل الاساطير والمرويات الاخبارية لكي تتحدد المسألة برمتها في المجال المفهومي للتاريخ.
وفي تحديده لاطار موضوعه يشير إلى ان فهما اعمق لما يسميه عصور المجاعة الكبرى وسلسلة ضرباتها المتتالية من عصر ابراهيم حتى داود التوراة ومن عصر العماليق حتى عصر هاشم الاخباريات العربية سيكون ممكنا فقط في ظل فهم اعمق لتاريخ الكلمات التي دخل بعضها كأسماء لالهة أو اباء، وهذا التدقيق في مجال اللغة الرحب له وظائف محددة إذ يمكنه ان يقودنا إلى تفتيش مائدة طعام القبائل وهذه بدورها تقودنا إلى معرفة ثقافة الطعام السائدة وهو ما يعني مباشرة ان نطل على التاريخ غير المكتوب في حلقات أو وثائق.
وبعيدا عن التقيد بتقسيم الكاتب لموضوعه وتسهيلا لتقديم رؤية اشمل للكتاب نشير إلى ما يمكن اعتباره خلاصة رؤيته وهي ان الانساب لا تعبر عن صلة دموية حقيقية بقدر ما تعبر عما يمكن اعتباره ذكريات مشتركة عن الطفولة البعيدة. وعلى اساس هذه الرؤية ينتهي إلى نتائج يفترض انها جديدة يجب اخذها في الاعتبار دون التسليم بها تماما. وفي هذا الصدد يقول الربيعي ان انتساب العبرانيين والعرب العاربة قديما بحسب شجرة الانساب إلى جد مشترك اعلى هو فالغ.. ليس دليلا كافيا بحد ذاته لافتراض وجود تاريخي حقيقي لبطل بهذا الاسم.. بقدر ماهو دليل على وجود وحدة في نمط العيش بينهما.
ويقدم هنا تحليلا دقيقا وهذه هي السمة العامة للكتاب بغض النظر عن النتيجة التي ينتهي إليها عابر الذي جعله النسابون جدا اعلى فهو يرى ان جماعة بهذا الاسم لا وجود لها في التاريخ حيث لاتوجد بحوزتنا اية دلائل كتابية أو ثقافية تشير إلى جماعة بدوية بعينها عرفت ب «بني عابر» أو «عابر» ويشير في قراءة معاصرة لدلالة استخدام هذا الاسم إلى انه محاولة متكلفة من قبل علماء الاثار في الغرب للتدليل على ان العبرانيين هم الاصل وانهم (اليهود) القدماء وذلك بتبرير مخز لاغتصاب فلسطين واختلاق معطى تاريخي يدعم الاستيلاء بالقوة على ارض فلسطين وتشريد شعبها.
وعلى هذا الاساس ايضا يعمم استنتاجه بان الاسماء الواردة في قوائم الاسماء العربية والتوراتية ليست اسماء علم أو جنس بل هي توصيفات لنحلة المعاش اي نمط حياة الجماعات البشرية القديمة.
ويشير إلى ان ما يسميه طرد أو نفي اسماعيل إلى مكة يعد بداية العرب المستعربة الذين انفصلوا مرة عن العبرانيين وعن العرب العاربة (بطلاقه لزوجته المصرية) وعلى عكس القبائل القحطانية التي تعاظمت ظروف تبديها فاستمرت في الترحال والتنقل كان عرب الشمال يباشرون نمطا من الاستقرار وينتسبون إلى جد اعلى هو عدنان مكرسين نمط تمايزهم. وهنا يشير إلى ان اسم قحطان انما جاء من القحط وان عدنان من عدن التي تحمل معنى الخير الوفير (ورد ذكرها في القرآن «جنات عدن»). وفي ربط للاسماء والالقاب بمائدة طعام عصور المجاعة التي يفترض المؤلف حدوثها يعرض الربيعي لحالة قبيلة جديس من العرب العاربة التي انقرضت مشيرا إلى ان الاسم يعني ما ليس من الارض. وهي قبيلة تحدرت من اليمن في تاريخ المجاعة وحملت اسم الموضع الذي نزلت فيه اما «قريش» فيوضح ان اصل الاسم يعود في بعض التفسيرات إلى السمكة العظيمة التي كانت معبودة عربيا ذات يوم أو التقرش بمعنى النقود والتجارة أو بمعنى التجمع. ويخلص إلى ان المهم ان الاسم في صيغته التي وصلت إلينا حفظ لنا جزءا من التاريخ المنسي عن دلالة كلمة، استخدمت في نطاق العبادة مرة، كما استخدمت للدلالة على الشدائد في عصر المجاعة.
ومواصلة لمنهجه ذاك يشير الربيعي إلى ان اسم عوض الذي يتم تنسيب العرب إليه باعتباره جدهم الاعلى انما يعبر عن معاناة الجدب والشدة والقحط غير ان دلالة اللفظ تطورت إلى شكل ايجابي فاصبحت بمثابة تعبير عن النبت الاصيل القادر على مجابهة الشدائد في الحياة.
ويرى في اسطورة آكل المرار الملك الاسطوري الذي ارتبط اسمه بأكل ثمرة المر الوحشية وكذلك اسم قبيلته بنو المرار ما يهيئ الارضية الملائمة لتفهم اعمق للآليات التي تحكمت في دخول اسماء وفي ظهور ابطال وشخصيات قد لا يكون لها اي وجود حقيقي في التاريخ، مضيفا ان هذا الخروج الجماعي المأساوي نحو عالم لا عضوى وتناول ثمار الارض المجدبة في الاساطير والمرويات لايمكن فهمه خارج اطار كارثة المجاعة، الغريب ان الكثير من الالقاب حدث لها تحول في مفهومها أو دلالتها ومنها هذا اللقب «المرار» حيث تحول المر من حيز المذاق والطعام إلى حيز القدرة على التحمل واصبح يطلق على نوع من الحجر «المرمر» كناية عن شدة الحجر وصلابته. وفي الاطار ذاته يقدم لنا المؤلف اسطورة امرؤ القيس التي تعكس الصراع بين الطعام الرديء والطعام الجيد، فالبطل المزيف في الاسطورة (العبد) يقبل على تناول الطعام الرديء والتهامه فيما يرفض امرؤ القيس تناوله طالبا بديلا جيدا وطيبا.
وفي سياق تناوله يسوق المؤلف ما نراه اجتهادا يستحق التوقف عنده يرد في سياق حديثه عن عادة غذائية قديمة تتمثل في طهي الدم وشربه.. فالمهاجرون كانوا عند نفاد الماء وانقطاع السبل بهم لدى انتقالهم من مكان إلى اخر يلجأون إلى صيد الحيوانات لعضد دمها وشربه، وانطلاقا من هذه العادة يفسر المؤلف الاية القرآنية التي تقول: {حٍرٌَمّتً عّلّيًكٍمٍ پًمّيًتّةٍ $ّالدَّمٍ} مضيفا ان المقصود ليس كما هو شائع وجود بقايا الدم في الذبائح.
وفي تناوله للانساب يعرض الكاتب لما يسميه النسب الامومي موضحا انه نجم عن «طرد» هاجر مباشرة وظهور جيل جديد من القبائل عرف باسم الأم مضيفا ان قبائل العرب انتسبت في طور من اطوار تشكلها إلى الأم وقد ظلت بعض مشكلات الانتساب إلى الأم عالقة حتى ظهور الاسلام وهنا يوضح الربيعي ان ظهور الانساب ارتبط بزوال النظام الأمومي وصعود النظام الأبوي لصالح فك القرابات المباشرة والداخلية أو تعميمها وعلى هذا فانه مع ظهور الاسلام وجد الدين الجديد نفسه في مواجهة تراث جنسي تطلب معالجة راديكالية ولكن اكثر واقعية، فعلى سبيل المثال فان نظرة العرب إلى الزنا كانت تتمثل في انه نوع من تعدد الازواج وافرزت هذه التصورات انماط زواج حرمها الاسلام ونجح في القضاء عليها رغم المشاكل التي واجهته في البداية منها زواج الضيزن (الاستيلاء على زوجة الاب من قبل الابن) كما ان بعض القبائل اشترطت على الرسول لدخولها في الاسلام اقراره بالزنا باعتباره امرا مقبولا لديها وهو ما قوبل بالرفض الحاسم من قبل موفد النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب.
وحسبما يشير المؤلف لقد كانت عهود الترحال والقحط يغيب عنها نظام الحرام وكان هناك مجتمع فضفاض القيود تتاح فيه اشكال متعددة من الزواج فضلا عن اشكال متعددة لسلوكيات جنسية شائنة تنتهك فيه الاخت وتغتصب وتصبح فيه امراة الابن زوجة للأب وكذلك امرأة الاب زوجة للابن.
ويوضح الكاتب حتى لا يحدث التباس في الفهم ان التشابه الذي نجده في الاخباريات العربية مع النص التوراتي، وهو امر يمكن ان تلمسه بوضوح من مادة الكتاب، لايعني ان هذه الاخباريات بما فيها نصوص الطبري والواقدي وابن الاثير سارت على خطى النص التوراتي أو قامت بمحاكاته وانما المادة الاصلية واحدة في كل الحالات ووجودها في التوراة أو في كتب الاخباريين يدلل على انها مرويات اقدم عهدا من هذين المصدرين.
ويشير الربيعي إلى ان مائدة الطعام دخلت في قلب الصراع حول الانساب فما من قبيلة إلا وراحت تستخدم عار سنوات الجوع والشدة ضد منافسيها كسلاح تشهير، وهو هنا يحيل صراع العدنانيين والقحطانيين وانشطار شجرة انساب العرب إلى شجرتين إلى ثقافة صراع اسطوري له طابع شديد الرمزية بين الراعي والفلاح بين البداوة والاستقرار بين مجتمعات الابل (القحطانيين) ومجتمعات الخراف (العدنانيين) ويذهب المؤلف هنا إلى ان انحياز القحطانيين عرب الجنوب إلى بني العباس في صراعهم ضد الدولة الأموية والذي لعب دورا حاسما في سقوطها ما كان ليحدث بهذا القدر من الوضوح إلا على خلفية صراع الانساب الذي رعاه البلاط الأموي منذ حادثة استلحاق زياد بن ابيه.
وهنا يذهب المؤلف إلى ان تاريخ اليمن القديم يضم شخصيات وابطالا وملوكا لم يوجدوا قط ومع ذلك وضع النسابون لهم انسابا وشجرات وفجروا حولهم نقاشات حتى بات انكارها أو التشكيك فيها امرا متعذرا وربما يعد ماسا بمقدسات ثقافية.
*)
يقع الكتاب في ( 509) صفحة من القطع العادي.


*) 2002/issue225/reviews/2.htm
*) 2002/issue225/hosein/1.htm

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved