الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

عرفته فأحببته.. وعايشته فأكبرته

أنا رجلٌ ضنينٌ بالكلام، بعد أن أتعبني الكلامُ في رحلة السنين والأيام، حتى أني زهدتُ بالأقلام والمحابر، والمنتديات والمؤتمرات والمنابر، وآويتُ إلى كتبي علَّها تعصمني من خطَل القول وزلل القلم.. كهذا الذي أراه ويراه غيري كثيرون، في عالم اليوم، في ساحات الأدب والثقافة، وفي أعمدة الصحافة.. حيث لا تقع العينُ، في الكثرة الكاثرة، إلا على كلمةٍ مراوغة، أو فكرةٍ مُخاتِلةٍ أو رأيٍ مُراءٍ، أو موقفٍ مُباع، خَلا مَن عصَم ربُّك.. وقليلٌ ما هم!
أسوق هذا، لأتحدث بملء الطمأنينة والأمانة والصدق عن رجل فكر وقلم ومكارم أخلاق.. رجلٍ من نسيج ليس كنسيج أولئك الذين أومأت إليهم وأفصحتُ عنهم، ودُفِعوا كما دُفِعتُ إلى الهروب، على كراهةٍ، من رفقةِ القلم الجميلة الرائقة.. بعد أربعين حولاً، وأزيد، من عذاب الكتابة الحلو.. إلى الركون مع الكتب، بعيداً بعيداً، في أطواء النسيان.
أتحدث عن رجل عاش كلمةً وفكرةً وموقفاً، حياته كلها، كأنه الأمانةُ والشجاعةُ والشرفُ والالتزام.
أتحدث عن رجل انتزع نعاله من وُحُولِ المادة اللزجةِ الدبقة وخَوَّض في عُباب الألق والعطر والضوء، يحمل قلبه وقلمه ومحبرته وقراطيسه على كفه، كما يحمل ناشدُ الشهادةِ روحه على راحته، مُتقحّماً غَمراتِ النار والشوك والأفاعي!
أتحدث عن رجلٍ عرفته فأحببته وعايشته فأكبرته. وما أكثر من عرفتُ فما أحببتُ، ولا عايشتُ، ولا أكبرت. بل ما أقلَّ ما بقيَ من أسماء وملامحَ ووجوه وظلالٍ في كتاب الذاكرة والذكريات.
أتحدث عن السفر الذي يختصرُ كل هذا. عن القلم الذي يختزن كل هذا.. أتحدث عن عبدالفتاح أبي مدين أتحدّث عنه ولا أقدمه لكم.. من منكم لا يعرف هذا الرجل العصامي الكبير، اسماً وحجماً ونجماً لا يزال يسطع ويتوهج في عوالم الأدب والفكر والثقافة والصحافة، منذ نصف قرنٍ أو يزيد؟.. من منكم لا يعرف هذا الرجل الأديب العالم الحاسم الحازم الذي قدمه قلمه وأدبه وزَكّاهُ خُلُقُه النبيل؟
عبدالفتاح أبو مدين، رجلٌ من صناعة نفسه وعصاميته. عمل جهيداً وتعب شديداً، حتى كان هذا الرجل القيمة، الكلمة، الموقف الذي نعرفه جميعاً.. رجل الصحافة الرائد صاحب «الرائد» التي أنشأها في أيام العسر وكلُّ رأسماله أدبه وفكره وحماسته، وجهاده في سبيل أن يضيء الطريق مع غيره من نظرائه من رواد التنوير، في ذلك الوقت الباكر القديم. كان في جريدته، المُموّل على شظف ، وكان المحرر والكاتب والإداري في المكتب، وكان مصحح التجارب في المطبعة. وكان يقارع على صفحاتها كل ما يراه فاسداً مفسِداً، لا يهادن في حق، ولا يسكت قلمه عن ضلال.
وقد جاءه من يعرض عليه تمويل «الرائد» بالورق وغير الورق لعل أن يكف قلمه وجريدته عن فضح عوراتهم.. لكنه اختار جانب دينه ووطنه وأمته، غير هيّاب ولا طامعٍ ولا مُرتاب.
.. ثم عرفته في «البلاد» أيام كانت الصحيفة البارزة الأولى في البلاد، تولى إدارتها فخرج بها من عُسرةٍ إلى ميسرة. حررها من ديونها وأحرز لها الأرض لبناء مقرّ يليق بصحيفة عريقة، ثم وفر لها مطبعةً حديثةً تقوم بها وتنشط في الطباعة لغيرها.. وأضاف فوق هذا كله إلى ميزانية الجريدة وفراً لم تعرف مثله منذ ولادتها! ثم حدث أن استَنْسَر بعض من بُغاث الطَّير، فما كان من أبي وديع إلا أن يحمل أوراقه، مشيحاً عن النهّازين بكل ما في الرجل العصامي من إباءٍ كريم.
وكرّت الأيام من جديد..
وعرفت أبا وديع رئيساً لتحرير العدد الأسبوعي من «عكاظ».. فإذا به يزاحم بعدده الأسبوعي من الجريدة عددها اليومي المُترَف المُدلل الذي لا تبخل عليه الإدارة بإنفاق.. جمع حشداً من أفذاذ الكُتّاب والأدباء الذين تسابقوا إليه، وكان يُشرّفهم أن يحملوا معه أعباء الرسالة التي يعرفون أنه يحملها أمانةً وشرفاً والتزاماً.
كنت أراه في مكتبه، ثم في المطبعة، ثم أنظر إليه في سيارته المتواضعة فأجده قد حوَّلها إلى مكتب صحفي متنقل! .. كنت أرى في سيارته المكتب ملفّات المقالات والرسائل، وتجارب المطبعة، ورزماً من الأعداد أعداد الجريدة.. ولم أكن أعجب لذلك. فما من جريدة يمكن أن تعيش، وتنجح وتتفوق، في ظروفٍ خانقةٍ من العُسر في النفقة والشُح في التمويل، بغير أن يُقيّض لها الله رجلاً عصامياً وصحفياً رائداً وإنساناً مجاهداً زاهداً مؤمناً بدينه وحقوق أمته ووطنه عليه كعبدالفتاح أبي مدين!
أحسب أنّي أطلتُ.. سأختصر.
عبر مسيرتي الأدبية والصحفية، منذ منتصف خمسينيات القرن الميلادي الماضي، سعدتُ وشرفتُ بالعمل والصداقة والعلاقة الأدبية مع نخبة رائدة من الرجال الأعلام الأفذاذ، من جهات عديدة وجنسيات شتى. تعلمت منهم أكثر مما علمتني المدرسة وعلمني الكتاب. فيهم الأديب السابق والمفكر السامق. وفيهم السياسي والإداري والصحفي والإعلامي. وفيهم حِذليقُ الحياة الذي يعبُّ ماءها ويحوز أشياءها، يَقْنُصُ ولا يُقْنَصُ، ويأخذ ولا يُنتقَص. ثم اختلفت بي الأيام وتفردت وتنمّرت.. حتى اسعفتني بنخبةٍ خيرةٍ كانت هي العزاء والبلسم، وكان أبو وديع في الرعيل الأول من هؤلاء الذين تجود بهم الأيام كلما احلولك الليل، وجفَّ الضَّرعُ، وشحَّ الزمن البخيل بالرجال الرجال..
أبا وديع..
إذا نحن أَثْنينا عليك بصالحٍ
فأنتَ كما نُثني.. وفوق الذي نُثني
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved