الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

زوايا نظرت منها إلى أبي مدين
لم يحظ أبو مدين في بداية حياته في السعودية بيد أبوية تعطيه أملاً يعيش به، ولم يحظ أيضاً بأشقاء يستطيعون رعايته، بل كل ما حظي به آنذاك الفقر، والعثرات المتتالية بين الفينة والأخرى، فكان كلما رأى أن بصيصاً من أمل بدأ يتسرب إلى داخل نفسه، يفاجأ بأنه يختفي وينطفىء، ولولا ثقته الواضحة في الله لربما أصبح كأي شخص تحتنكه الظروف فيستسلم لها.. درس ثم طرد، وعمل ثم طرد، وبقي الأمل معلقاً بالله، ومن أحسن من الله وكيلاً؟ وبقي كمن أُحرق قاربه عند الشاطئ فالفقر من ورائه والتعب من أمامه. فأبو مدين حين علم أن ليس له قدرة سوى أن يكون وراقا، ركز جهوده في القراءة، وحين طرد من المدرسة أوجد عملاً يأكل منه ولكنه ذهب في الوقت عينه يبحث عن معلم حتى استطاع الوقوف بداية على قدمين هزيلتين، ولكنها ازدادت رسوخاً مع الزمن.
قضيت مع عبد الفتاح أبي مدين شهوراً طويلة ما التقيت به سوى مرة واحدة، كان ذلك في الفترة التي كنت أكتب فيها موضوعي عنه «الممارسة النقدية عند عبد الفتاح أبو مدين» وهو رسالة ماجستير أعددتها في تحليل الخطاب النقدي عنده، كان لقائي اليتيم به في نادي جدة الأدبي، ولم أهاتفه إلا مرات قليلة. وقد يعجب القارىء حينما يفاجأ بأن شخصا كتب بحثاً عن شخص حي ولم يلتقه إلا بهذا الشكل، وإن كان ما تم لا يتنافى مع العمل البحثي الذي يعتمد على النص لا على كاتب النص، إلا أن السبب في عدم الالتقاء بأبي مدين قد يكون أحد أسبابه انكبابه على عمله، كما عهد عنه، بشكل قد يجعل المكث معه تعطيلاً له، فهو كما يقول عن نفسه دائماً: لا يريح ولا يستريح «وهي من مقولات طه حسين التي تأثر بها أبو مدين». وأخشى أن يدركني شيء من عدم الراحة لو بقيت معه.
كانت الفترة التي قضيتها في كتابة البحث طويلة نسبيا فعرفتني بالكاتب بشكل عميق ليس من خلال الكاتب، بل من خلال معرفتي بما كتب، كان ذلك التعرف ليس على الفترة الزمنية التي تعكس كتابة مقالاته وحسب، بل إضافة إلى ذلك تعرفت على انعكاسات حياته وظروفه الشخصية وقراءاته ومجتمعه من حوله وتفاعله مع مجتمعه انعكاس كل ذلك على كتاباته. وقد يكون من العجيب أنني كنت القى كل ذلك في كتاباته النقدية أكثر من كتاباته الاجتماعية، مع ان المفترض ان يكون العكس، ولعل ذلك يعود الى الطريقة المقالية التي كان يكتب بها ابو مدين كتاباته النقدية، وإلى المعارك النقدية التي خاضها مع المجايلين له في تلك الفترة، وإلى المقدمات والمحاور التي كانت في مقالاته، التي لم تكن تخلو من إشارات عديدة الى المواقف والأمور الشخصية أحيانا كما هو الحال في تلك المعارك والسجالات النقدية. كما أنه في كتاباته الاجتماعية عادة ما كان يولي اهتمامه بنقل وتصوير الظاهرة والحدث أكثر من نقل الموقف الذي يعطي القارىء صورة عامة، مما ساهم في تعتيم الصورة نسبيا حينما نقارنها بالكتابات النقدية.
يمكن أن نقسم المؤثرات الرئيسية في أبي مدين إلى عاملين:
العامل الأول الثقافة الشفاهية التي نمطت أبا مدين في صيغة ربما ميزته عن سواه من مجايليه، والعامل الآخر الصحافة التي بدأ بها كتاباته عموما والنقدية على وجه الخصوص فاتخذ نقده طابع النقد الصحفي. وربما يجدر بنا أن ننوه الى ان الشفاهية أو حتى الصحفية ليست عوامل قصور في الخطاب كما يظن البعض، بل هي نمط من أنماط الخطاب، وطريقة في الاتصال فعَّالة إذا أحسن استخدامها.
العامل الأول: الثقافة الشفاهية
اللغة ظاهرة شفاهية، وما يجعل اللغة أو الصوت المنطوق وسيلة الاتصال المثلى ان الفكر ذاته يرتبط بالصوت على نحو خاص، ويعبر عن الثقافات التي ليس لها معرفة بالكتابة على الاطلاق بالثقافات الشفاهية الاولية، كما ورد في كتاب والتر أونج الشفاهية والكتابية.
وبالطبع فإن أبا مدين لم يعش في ثقافة شفاهية من هذا النوع ولم يعش غيره في الحواضر مثل هذه الثقافة من بعد انتشار الكتابة ونشوء البيئات الكتابية، ولكن نوعا آخر من الثقافات الشفاهية عاشه أبو مدين كما عاشه غيره، وما زلنا نرى آثاره علينا وعلى أنماط حياتنا الاجتماعية حتى الآن، وهذا النوع اصطلح على تسميته بالثقافة الشفاهية الثانوية «الشفاهية الجديدة» فهناك شبه قائم بين الشفاهية الجديدة، وهي التي نتجت عن الحاسب والراديو والتلفزيون، والشفاهية القديمة في عدة أشياء، ولكنها تختلف عن الشفاهية القديمة بالتأكيد. ولعل السبب في تعمق أثر الشفاهية عند ابي مدين أنه في حياته الأولى في ليبيا تعلم القرآن بالتتلمذ والاخذ عن الشيوخ وهي الطريقة التقليدية التي تنوقلت في تعليم القرآن الكريم حتى عصرنا الراهن، إضافة إلى أنه كان، بحكم ظروف عمله، يعكف على المذياع يستمع الى برامج ثقافية محددة، مثل برامج كانت تبث لطه حسين، وهذا ما شكَّل لديه ما اصطلح على تسميته بالطهحسينية.
العامل الآخر: الاتجاه الإعلامي
تأثر أبو مدين بآنية الصحافة، بتلقيه المبكر للكتابات الصحفية، وبمشاركاته المبكرة ايضا في الصحافة، فخضع لمنهجيتها الفكرية المتغيرة. كان يقرأ مجلة الرسالة بشكل مدرسي، تلبية لرغبة في نفسه بالحصول على المعرفة التي بقي يبحث عنها، وانتهاجا لنصح استاذه محمود عارف. بعد ذلك ازدادت علاقته بالأجواء الصحفية عمقاً حينما صرف اهتمامه تجاه الكتابة الصحفية من خلال صحيفتيه اللتين انشأهما: الأضواء مع باعشن «1376 1378هـ» والرائد «1379 1383هـ»، ثم من خلال كتاباته في البلاد وعكاظ «1393 1404هـ».
كتب أبو مدين المقالة الاجتماعية، كما كتب المقالة النقدية، وتفاوتت نسب تلك الكتابات من فترة لأخرى متأثرة باقترابه من الجو الصحفي أو ابتعاده عنه. فكانت نسب الكتابات الاجتماعية مرتفعة جدا، في فترة وجوده في صحيفتي عكاظ والبلاد «1393 1404هـ، في حين تضاءلت نسبة هذه المقالات، وازدادت نسب المقالات النقدية، فأصبحت أكثر حضورا في فترات حياته المتأخرة، التي جاءت محصلة لوجوده في النادي الأدبي بجدة رئيسا له، وهذا يعد العامل الثالث المؤثر في كتابات أبي مدين وإن كان بشكل يسير، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن التحاقه بالنادي كان متأخراً، فكان تأثيره ضعيفاً، ومع ذلك فقد استطاع أن يستفيد من الجو البحثي والمنبري، كما هو الحال في كتاباته المتأخرة، أي التي كتبها بعد أن قضى في النادي فترة مناسبة لتشرب الأساليب الأكاديمية التي كانت تمارس في أروقة النادي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved