الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

أعراف
نقد أخف من الريش.. أثقل من الهم«2»
محمد جبر الحربي

صدَّرت صحيفة الوطن السعودية ثقافتها لعدد الخميس 23/11/1424هـ بحديث قصير للناقد الدكتور عبدالله الغذامي، ولم يتكرم مشرفوها بتبيان اسم من اجرى الحوار، حتى يتمكن المتابع من معرفة مصداقيته، ونزاهته، ولماذا حرص على أن يثير غباراً حول أسماء بعينها.
وإذا لم اكن مخطئا، فالذي طبخ الحوار وانتجه بهذا الشكل هو متعدد المواهب احمد زين، الخلوق والمؤدب، ويا ليته أضاف صفة الشجاعة والوضوح إلى صفاته لنكون واثقين ممن نخاطب، وكيف نخاطب.
يقول ناقدنا أموراً كثيرة وخطيرة جداً في حوار قصير جداً، وإذا كان معد الحوار، والواقفون خلفه، قد اختاروا هذا الكلام تحديداً عنواناً رئيساً:« الغذامي: الحربي والصيخان والثبيتي لم يتجاوزوا جيلهم ولم يسموا فوق انفسهم» فإن ذلك بالتأكيد ما يبرره.
ويحيلنا هذا العنوان الى امرين: اما أن يكون القائمون على الملحق قد ارتأوا ان هذا عنوان مثير جاذب، او ان يكون واضع العنوان، هو من اجرى الحوار وقد وجد في هذا الكلام انتصاراً للجيل التالي، الذي ينتمي إليه، انتصاراً كانوا ولازالوا يبحثون عنه، ويسعون اليه حثيثاً، بدلاً من ان ينتصروا عبر كتاباتهم وابداعهم، سردهم وشعرهم، او «نصوصهم» كما يفضلون تسميتها لتأخذ احتمالات التأويل المتعددة كونها نصوصاً غائمة عائمة لا رأس لها ولا اطراف.
عموماً يذكر لنا المحاور ان الغذامي يقول:« ان نصوص لاحظوا نصوص كما قلت لكم «اي قصائد» محمد جبر الحربي وعبدالله الصيخان ومحمد الثبيتي ترسخت في ذاكرة الثقافة وفي الدرس النقدي وفي الابداع ومازلنا ندرس نصوصهم في الجامعة، مثلهم مثل غيرهم».
الا ان المحاور يذكر لنا أن الغذامي يستدرك فيقول:
«لكن أن يكونوا على المستوى الذي يجب ان يصلوا إليه، فهذا لم يحدث.. ثم يعرج على تجربة درويش الى ان يقول: فالانتاج الذي قدمه الثلاثة هو الوهج الذي صار في تلك الفترة لم يتجاوزوا ولم يسموا فوق انفسهم، وهذه مسألة واضحة للعيان، فالنصوص التي تأتي الآن من الثبيتي او الحربي هي في الواقع امتداد مباشر لنصوصهم القديمة وليست تجاوزاً، ليس في مرحلة اخرى..».
ثم يعرج على تجارب حجازي والفيتوري ويصفها بالقدم، ثم يرمي بقنبلة من النوع الذي تستخدمه امريكا «القصيدة ليس هذا زمنها» لتكون ختاماً تراجيدياً قاتلاً.
والمشكلة التي اجد نفسي حائراً امامها هي انني رجل طيب ومحب، وأحب الدكتور عبدالله الغذامي، وهو احد رموزنا الثقافية، واحب احمد زين لخلقه الرفيع، ولا احب الحديث عن نفسي، ولا احب الدخول في جدل يجرح الآخرين، ولكن ليعذرني القارئ الكريم هذه المرة، وليعذرني الحبيبان، الثبيتي والصيخان.
فمثل هذا الحديث يدور في الساحة منذ زمن ليس بقصير، ومثيرو الرماد في الغالب هم من الجيل التالي الذي لم يستطع معظمه أن يصنع لنفسه اسماً او مكاناً او ان يلفت الانتباه لمحاولاته المغلوطة في كتابة « اكثر تجاوزاً» كما يصفون.
ولهذا الجيل نقاده، وهم على شاكلته، وقد اشرت في العدد الماضي الى نماذج للاثنين.
ومن العيوب الكبيرة لهؤلاء انهم لا يراكمون، وانما ينفون، وهم على غرار اساتذة لهم عربا، يرون بتواضع جم ان القصيدة تبدأ وتنتهي بهم، وكذلك سمعنا نوري الجراح وغيره يصرحون، اي ان الشعر هو قصيدة النثر وما عداه «قديم».
ولكنك بحضور أمسية شعرية او قصصية واحدة لاصحاب هذه المقولات الناقصة، ستجد أن الشعر والقصة بالفعل تنتهي بهم، وان اللغة التي يتجاوزون، تذبح من الوريد الى الوريد، ان هناك خللاً كبيراً في الحضور وفي الكتابة، وفي الالقاء، وفي الذائقة.
ستجد نفسك امام خراب كامل، إنه الخراب الكامل: Total Anarchy.
وإذا ما حاول احدهم ان يقول لك انه تعمد ذلك فقل له: إذهب إلى الجحيم.. ولربما كنت تقصد جحيم الكتابة، او انت تقصد جحيم الكتابة دون ادنى شك.. او لعلك؟!
على كل حال هذه مجموعة من الملاحظات غرضها الأول والاخير الإيضاح ليس الا، وهي ليست موجهة لاحد بعينه.
للتاريخ والحقيقة أن الشاعرين الكبيرين عبدالله الصيخان ومحمد الثبيتي سابقان في الشعر، اي انهما من جيل السبعينيات، حسب التقسيمات الخاطئة. فقد كنت اكتب في صفحة الخميس «صفحة المبتدئين» في بداية الثمانينيات في جريدة الجزيرة، وللثبيتي ديوان مطبوع، والصيخان قد انجز قصيدته المعروفة «فضة تتعلم الرسم»، و «هلا يا ربيع القلب»، ومجموعة جميلة من القصائد، وكان سكرتيراً لتحرير اليمامة ومديراً وصحفياً لامعاً ومتمكناً، وقد احببته واثر في، وعرفني على تجربة سعدي يوسف الشعرية، وله فضل في تشكلي الشعري والصحفي الأول، كنت مفتوناً به أيما افتتان.
لا يمكن تقسيم الشعراء ووضعهم في جداول زمنية، وتفريخهم سنوياً او كل بضع سنوات «كموديلات السيارات»، ولا ضير من ان نضحك هنا لدى استعادتنا لشاعر رديء كان يصر على أنه من جيل 85، او موديل 85.
ولقد «سموت فوق نفسي» فلم أخض في الموضات، التي عرضت امام اعيننا والنزوات النقدية الخاطئة، وسموت فوقها احتراماً للأسماء التي تمثلها.
ولقد سموت فوق نفسي عندما اكتشفت فآمنت ان الابداع شعراً ونقداً، الإبداع ككل، يصدر عن عقول متناغمة مع ذواتها، قادرة على، وقابلة للتجاوز، محافظة على جوهر الروح، ومحافظة على طعم وملح ومذاق وسمة تميزها، على حبل سري لا ينقطع، فنقول هذا محمد، وهذا عبدالله.. هذا الحضور النابع من الروح والشخصية، والجينات لا يتجاوز، لانه انا وانت.
اما التجاوز، الذي يترجم لدى مبدعينا ونقادنا بالشطحات، والموضات، فهو ما نتجرع مرارته، ويتجرع مرارته الابرياء من المتلقين.
وللتجاوز شروطه وادواته، وهو ليس بلعبة، ولا موضة، ولا اضواء، ولا استمراء للتغيير السريع، كما في الاستهلاك السريع الذي تعيشه عواصمنا.. ويعيشه العجلون الراكضون دون جهات، او بوصلة.
ولقد سموت فوق نفسي فلم اقف يوماً ما ضد الاصوات الجديدة او الاجيال اللاحقة، ولم استغل المساحة لتلميع صورتي واسمي بل فتحت لها المساحات التي اشرفت عليها، ومنها صفحات اليمامة الام الثقافية، واصوات، والجزيرة. كما فتحت لها بيتي ومكتبتي، ومجلسي، وحديثي، ومحبتي.. وهم موجودون معروفون اليوم ومنهم من ظل وفيا، ومنهم من انقلب على عقبيه.
ولكنني احتفظت دائماً بحقي في الرأي، واعطيت ذائقتي حقها في الاختيار ولذلك لا يجوز ان يقول احدهم انني وقفت ضدهم، او ان «الجيل» السابق قد اضطهدهم، فهذا كلام مردود عليه، تثبته الشواهد والشهود.
ولقد سموت فوق نفسي فخدمت الثقافة المحلية، محلياً وعربياً بكل ما استطعت وبكل ما اوتيت من قوة وصبر وتحمل: انتاجاً ادبياً، وعملاً صحفياً، وتمثيلاً، ودفعاً معنوياً ومادياً، سهراً وتعباً، وكثيراً مما لا يذكر.
ولقد سموت فوق نفسي، فصمتُّ حينما كان الصمت حكمة، وتحدثت عندما كان الحديث حكمة، ولم اكن يوما ما منقاداً خلف الاضواء، ولا راكضاً نحو المجالس، ولا خلف المادة، ولا مكبلاً عقلي وروحي بما لا يحتملان، وبما لا يتواءم مع قيم الحق والخير والجمال، ولا مع نعم الطيران الحر.
ولقد سموت فوق نفسي فكنت محباً لوطني، ولعروبتي، ولأمتي ولحضارتي العربية الإسلامية، ومن ذلك الحب انني لم اتنازل عن قضاياها، فلم اتأمرك، ولم اتفبرك، لم يعجبني اليمين، ولا وثقت باليسار، وسعيت دوماً أن اكون نسيجاً وحدي، فلم تستملني اطياف الساحة ولم تبهرني الموضات، والوجبات السريعة، لا نقداً ولا ابداعاً ولا فكراً.
ولقد سموت فوق نفسي عندما لم ادخل سوق الخضار متأخراً لاملأ سلتي من كل ثمر فج وفاسد، لاقدمه للناس على انه ابداع متجاوز!
ولقد سموت فوق نفسي عندما قلت أكثر من مرة «لست شاعراً عظيماً ولكنني محب عظيم» ولكن سوف يأتي اليوم الذي يأخذ فيه كل ذي حق حقه.
ولقد سموت فوق نفسي عندما حرصت على ألا احضر الا حضور المقتدر نثراً او شعراً او عملاً كريماً نجيباً مثمراً.
ولقد سموت فوق نفسي عندما بقيت شاعراً وناثراً، حاضراً ونظيفاً، مستمراً ومتجاوزاً، رغم كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وحجارة الطريق وشوكه، بفضل من رب العالمين.
ولقد سموت فوق نفسي حين لم اترك الشعر بناء على نصيحة من صديقي صالح العزاز رحمه الله، واطرق ابواب الحياة الغنية، مما كان سبباً في انقطاعنا عن بعضنا رغم الحب.
ولقد سموت فوق نفسي حين لم ادخل في متاهات البيانات والأصوات، والتعارضات، وحمى الصالونات التي يطبخها كبار البرجوازيين من اليسار نعم اليسار واليمين ويقع فيها صغارهم.
اما ما يتعلق بنهاية الغذامي التراجيدية:« القصيدة، ليس هذا زمنها» فسيكون لنا ضوء عليها في الحلقة المقبلة ان شاء الله من سلسلة النقد الذي هو اخف من الريش واثقل من الغم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved