الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

هذا الصّرْح..عبد السلام العجيلي
نبيل سليمان *
في تشرين الثاني نوفمبر الماضي نظّم المعهد الفرنسي بدمشق ندوة حولَ النقد الأدبي في المشرق العربي.
وقد ترأس عبد السلام العجيلي الجلسة التي شاركتُ فيها ببحث في الفعالية النقدية في سوريا خلال العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، وهي الفترة التي كان عبد السلام العجيلي من نجومها. ولقد أسعدني أن يحرض البحث ذاكرة العجيلي فيما عقّب به.
وفي الجلسة، كما في أيام الندوة، بل وكما في لقاءاتنا المتباعدة خلال السنوات الأخيرة، تأملت هذا الذي ليس من المؤكد أنه ولد عام 1918 أم عام 1919 ونيّف على السبعين ذات لقاء بعيد، بل على الثمانين ذات لقاء قريب، بل على الخامسة والثمانين في تلك الندوة، وبالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه: دقّوا على الخشب! ربما لذلك لا أذكر كيف كان هذا الصوت المميز وهذه القامة الرشيقة وهذا الحضور البهيّ قبل سبعة وثلاثين سنة، حين رأيت عبد السلام العجيلي أول مرة: هو يقترب من الخمسين، وأنا قد تخرجت في الجامعة للتوّ، ويمّمت إلى مدينته (الرقة) مدرّساً للعربية، أتدافر بسنواتي الاثنتين والعشرين.
في حارة العجيلي هذا هو اسم الحارة في الرقة أقمت مع صديق سنتي الأولى في غرفة من بيت متواضع تفصله أمتار عن بيت الدكتور.
كنت أتهيب ذلك البيت في الرواح والغدوّ، ليس فقط لأنه كاتب كبير أو للشخصية المرموقة في المدينة، بل لأنه بيت حجري كبير وجميل تتصاغر أمامه بيوت الحارة، ويحرك فيّ ما زرقتني به في غفلة طويلة نشأتي وقراءاتي من الحذر من بيوت (قصور) الأثرياء بعامة، ومن الحذر بخاصة من هذا الذي كان قبل خمس سنوات فقط وزيراً للثقافة والخارجية والإعلام في الحكومة الانفصالية التي انقلبت على الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر، وشاركتُ في المظاهرات ضدها في الثانوية الصناعية في اللاذقية، وامتلأت شماتة بها عندما انقلب عليها الناصريون والبعثيون عام 1963م.
وهأنذا إذن جارٌ للانفصالي (والإقطاعي والرجعي) بحسب المنظومة السحرية التي كانت تدوّخني مثل كثيرين من جيلي.. ولكنني أيضاً جارٌ لمن يقال إنه كان نائباً شاباً في البرلمان عندما اندفع يلبي نداء فلسطين، وانخرط في جيش الإنقاذ.
أما ما كان أكبر إرباكاً لي فقد كان أنّ الرجل نفسه هو من قرأت له خلال السنوات القليلة المنصرمة بين الثانوية والجامعة قصة (كفن حمود) وقصة (سالي) اللتين لن أنساهما فيما قرأت من قصص (بنت الساحرة) أو (ساعة الملازم) أو (الخائن)، كما لن أنسى (رصيف العذراء السوداء) و(باسمة بين الدموع)، وكل هذه الأعمال هي في مكتبتي بطبعاتها الأولى التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
على الرغم من قرب المزار لم أقترب من عبد السلام العجيلي إلا بعد سنتين. كنت أعبر بعيادته المتواضعة القريبة من البيت، وأتهيّبها. وخلال تينك السنتين اللتين أنجزتا إيقاع هزيمة 1967 عجني بين القومية (الناصرية البعثية) والوجودية والماركسية، وكتبت فيهما روايتي الأولى (ينداح الطوفان).. خلال ذلك كنت قد قرأت للعجيلي مجموعة (الحب والنفس) ومن أدب الرحلات (حكايات من الرحلات) و(دعوة إلى السفر)، وكنت أحسد هذا الذي كلما غاب عن الحارة قيل إنه في دمشق أو بيروت أو إسبانيا أو فرنسا أو.. إلى أن حلّ مساء 21 10 1969، ومضيت بصحبة عدد من زملائي المدرسين في ثانوية الرشيد إلى بيت الدكتور. من ذلك اللقاء عدت مسحوراً بظرف الرجل وتواضعه وسعة اطلاعه، كما عدت بهديته: نسخة موقعة من كتابه (المقامات).
وعلى الرغم من أنني كنت عريساً، لم أنم حتى قرأت الكتاب، فرأيتني أقرب إلى هذا الذي استمالته الكتابة الساخرة فيما قرأ في الكتب المدرسية من المويلحي والهمذاني والحريري، وكان يغافل أساتذته ويكتب على جلد دفتر زميل في تجهيز (ثانوية) حلب أو في معهد الطب العربي الذي صار كلية الطب في جامعة دمشق، وإذا بعبد السلام بن محبّ يحدثنا في المقامة الطبية بدلاً من عيسى بن هشام. وإذا بعبد السلام العجيلي يوقّع المقامة التي نشرت عام 1942 باسم بديع الزمان، ثم يكتب المقامة الحقوقية ليفعل في معهد الحقوق الذي صار كلية الحقوق ما فعله بمعهد الطب.
وها هو ذا هذا الشاب الثلاثيني وقد غدا نائباً في البرلمان يطلق سخريته من البرلمان في المقامة البرلمانية.. ولأن المقامة القنصلية تتصل بنزار قباني فلن أنساها، وهي التي ردّ بها العجيلي على (المقامة النهدية) للشاعر الذي كان آنئذٍ سفيراً لسورية في تركيا، وأرسل صورة من مقامته إلى العجيلي موقّعةً عن أبي فرج الأصفهاني باسم (أبو النهد الأشقراني).
إذا كان العجيلي قد تخفّى في البداية باسم بديع الزمان أو باسم أوس أو سواهما من الأسماء المستعارة، فقد أسفر أخيراً عن ذلك الطبيب والسياسي والثري والمثقف الشاب القادم من بلدة منسية إلى عقر العاصمة التي كانت تزخر بظرفائها من الشعراء والكتاب والساسة والمحامين والصحافيين.
وقد كان أولاء الظرفاء صحبة العجيلي الذين سخروا منه وسخر منهم كما سخروا جميعاً من كل شيء.. وهنا، قد تصدق في العجيلي أكثر من سواه قولة الجاحظ فيمن لا يحسن السخرية من نفسه قبل السخرية من سواه، فمثل هذا لن يحسن السخرية، دعك من نفجته الصريحة أو المواربة.. بعد سنة من هدية (المقامات) أهديته روايتي الأولى.
وسرعان ما شاع في الرقة أن زيداً وعمرواً (ما جمعهما؟) قد أساءتهما بذاءة الرواية وشخصية الشيخ جوهر فيها، لذلك ستنصبّ اللعنة على الكاتب الذي كان غادر حارة العجيلي إلى حارة البكري المجاورة، وله في هذه سند، لكن من صدَّ عنه الأذى هو ذو الكلمة المسموعة الذي انتصر للكتابة، والذي سأظلّ مديناً له بذلك: عبد السلام العجيلي.
في ذلك الشتاء كان الكاتب المرحوم أنور قصيباتي قد جاء إلى الرقة مدرساً للفلسفة، ومدرّعاً بروايته (نرسيس). وفي زيارة بصحبته للعجيلي، حدثنا مضيفنا عن رواية كان قد ابتدأ بها منذ حين، ثم استعصت فتوقف.
وإذا كنت لا أذكر الآن من منا نحن الثلاثة كان البادئ بعرض متابعة الرواية في مشروع ثلاثي مشترك، فلن أنسى أن تلك الزيارة قد أورثتني السّهد.. لقد كانت الغواية كبرى: أن يشارك مثلي ومثل زميلي هذا الكاتب الكبير في رواية!!
وماذا إذن عن الرواية التي كنت قد شرعت في كتابتها (السجن)؟ تراني خفت من الشراكة فيما لا سابقة له في العربية، وفيما ندر في غير العربية؟ أم خفت على رواية (السجن)؟. مهما يكن، فقد اعتذرت من الشريكين اللذين تابعا المشروع، فكانت رواية (ألوان الحب الثلاثة) التي صدرت عام 1975، وكنت قد غادرت الرقة قبل ذلك بثلاث سنوات إلى حلب، ممتلئاً بالمودة والإكبار لعبد السلام العجيلي، ومتخففاً من الحذر الذي لاقيته به قبل خمس سنوات. وسرعان ما أنجزت مع الصديق الراحل بوعلي ياسين كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سورية)، ودرسنا فيه مجموعة العجيلي (فارس مدينة القنيطرة).
وفي حمأة الهجوم الذي شنّه من أساءهم أن يُدرس لواحدهم نصٌّ من زاوية أيديولوجية، تناهى إلينا غضب عبد السلام العجيلي أيضاً. لكن الرجل لم (يمسح الأرض بنا) كما فعل بخاصة زكريا تامر وممدوح عدوان وهاني الراهب ومحيي الدين صبحي.
منذ ذلك الحين باتت لقاءاتي بعبد السلام العجيلي هي قراءاتي لما يكتب. وإذا كنت قد درست من ذلك فقط روايتيه (قلوب على الأسلاك) و(أزاهير تشرين المدماة)، فقد تأكد لي، فيهما كما فيما تلاهما من رواية (المغمورون) فرواية (أرض السيّاد) أن السياسي لم يغادر هذا الفنان الذي عرّت روايته (باسمة بين الدموع) الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، كما ستعري روايته (قلوب على الأسلاك) سنوات الوحدة السورية المصرية (1958 1961)، سوى أن الهجاء سينتأ في الثانية، كما سينتأ التبسيط في تمجيد حرب 1973 في رواية (أزاهير تشرين المدماة)، بينما يصير ما هو سياسي في الروايتين التاليتين طوع الفنان الذي ظل طوال سبعين سنة نشرت مجلة الرسالة قصته الأولى عام 1936 يبحر في الكتابة، مخلصاً للكلاسيكي في القصة والرواية بقدر ما كانت له بصمته الخاصة فيهما، كما هو شأنه فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة.
ولأنه ذلك الذي بالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه ثانية وثالثة: دقوا على الخشب ولأنه عوّدنا على أن تظل مشروعاته الإبداعية سراً حتى النشر، ولأننا نحبه، فسنظلّ ننتظر جديده، وسنظل نعود إلى قديمه، وسنظل نختلف معه.
ومن يدري، فقد يمنّ علينا بواحدة من سخرياته، فيعوّض الأول والآخر.


* ناقد سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved