الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

الحداثة والذاكرة.. عبد السلام العجيلي
د. إيريك غوتيه *

يُعدّ عبد السلام العجيلي من الكتاب الملتزمين السوريين المهمين. بالإضافة إلى القصص القصيرة والروايات، صدرت عنه عدة مؤلفات لا تعتبر روايات ولا قصصاً قصيرة وإنما تميل إلى الترجمة الذاتية أو الذكريات.
اخترتُ دخول إنتاجه الأدبي من باب رواية (أرض السِّيَّاد)، دار الريّس للكتب والنشر، بيروت، 1998 (351صفحة)، لأنها تقدّم في رأيي صورة نموذجية عن عالمه الروائي.
* أولاً: لها طابع واقعي وتتّجه نحو قضية أوقضايا اجتماعية سياسية، سورية أوعربية معاصرة : (أرض السِّيَّاد) قصة أنور عرفان، شاب دمشقي تخرّج حديثاً من كلية الزراعة وعُيِّنَ موظفاً في أحد المراكز التي تدير عملية استصلاح الأراضي في الشمال الشرقي السوري. من خلال هذه الشخصية، نكتشف هذه المنطقة والمشاكل التي يعاني منها سكانها، منها الفساد ووجوهه المختلفة. أمير غزلان رجل جشِع يستعين بالرشوة وبطرق ملتوية للاستيلاء على ما ليس له. اشترى مئات الدونمات من أرض السِّيَّاد بسعر بخس وبعد فترة قصيرة باعها للدولة بأسعار خيالية. الآن يريد أن يحتكر طريقاً عاماً دون سند قانوني وأن يحرم السِّيَّاد من حقوقهم مرة أخرى. العنصر الشغاَّب هوأنور، البطل، الذي يرفض أمر الواقع ويحاول الكشف عن جرائم أمير غزلان. وفي نهاية الرواية، يصدر من مكتب الوزير أمر ترقية أنور إلى وظيفة أعلى ونقله إلى مركز آخر، ثم إحالة التقرير الذي قام به إلى الحفظ بلا تحقيق.
* ثانياً: تتناول أحيانا بطريقة مضمرة مسألة الصراع أوالتناقض بين العلم والحداثة من جهة والعادات والتقاليد المحلية ما سميناه الذاكرة من جهة أخرى: فتدور الأحداث حول شخصية أنور، المهندس الشاب الذي يمضي بالتجربة بعد التجربة إلى إدراك طبيعة البيئة التي يعمل فيها وخصوصياتها. وكثيراً ما يشعر القارئ أن هذه البيئة ترفض التغييرات التي تُفرَض عليها. وكأنّ أرض السِّيَّاد التي بُني عليها مركز الاستصلاح تقاوم التحديث. خصّص الكاتب عدة صفحات (50 53) في الحديث عن شجيرات الزينة التي اُجْتُلِبَتْ من الغابة السوداء في ألمانيا ومن اليابان وغُرِسَتْ حول المركز ولكنها ذبلت واصفرّت أوراقها برغم من جهود اختصاصي هندسة الحدائق وبرغم من تغيير التربة بكاملها وبأكبر التكاليف. كما يذكر أيضاً تهدُّم جُرف نهر الفرات مقابل أبنية المركز برغم من أعمال الدعم المستمرة وتحطُّم أنابيب السِقاية بسبب تهدُّم هذا الجُرف.
* وتأخذ الذاكرة أشكالاً مختلفة في الرواية:
* هناك السِّيَّاد وهم سكان المنطقة الأصليين، أصحاب الأرض التي أخذتها الدولة منهم غصباً. إنهم ينتمون إلى طريقة صوفية يقدّمها العجيلي، في مقطع من مقاطع الرواية (154162)، وهو يصف كراماتها. فنتعرَّف على مشايخ عشيرة السِّيَّاد ثم ندخل إلى جو غريب: هناك الدفوف التي تثير المريدين، توصلهم إلى (الحال) وتدفعهم إلى فعل أشياء لا تُصَدَّق: يشير الكاتب هنا إلى أعمال بعض الطرق الصوفية مثل الرفاعية التي حافظت على هذه العادات المدهشة منذ قرون طويلة. ولقد تكلم العجيلي في كتاب آخر تحت عنوان (عيادة في الريف) (دار الشرق العربي، بيروت)، عن معجزات هذه الطرق واعترف بعجزالطب في أن يشرحها. فأكثر من مرة يتساءل بطل الرواية ماذا بقي للسِّيَّاد من مجدهم اليوم، مبرزاً الانقطاع بين الماضي والحاضر.
* كما أن الروائي لا يهمل الجانب البدوي من جذوره، بل يؤكد عليه عندما يصف السهرات عند الحجيات. فعلى سبيل المثال، بين الصفحة 139 والصفحة 146، نرى بطل الرواية يزور خيام هؤلاء الراقصات النوريات اللواتي ينتمين إلى قبائل تتنقّل في البادية. فيحضر إحدى هذه السهرات ويكتشف مع القارئ الصحراء والليل والخيام والموسيقى والراقصات بأثوابهن الزاهية وأصواتهن الحادة والشوبش وهو عبارة عن ورقة نقدية يدسها كل حاضر الحفلة في عُبّ الراقصة التي تقف أمامه... هنا، نلاحظ أن العجيلي يصف هؤلاء الحجيات بدقة ودون أن يقع في الرومانسية أو الغرائبية، مبتعدا عن جو ألف ليلة وليلة. ص149150 مثلاَ، يرسم صورة زينة وهي إحدى الراقصات كما يلي:
عندما جلست تلك البنت التي اسمها زينة إلى جانبي، بعد أن أنهت وصلتها من الرقص، أحسست بأن رأسي يكاد يتصدع من رائحة العطر الثقيل الذي كان يفوح منها. ما أحسبها أكثرت عليها من هذه الرائحة الباعثة للدُوار إلا لتُخفي بها رائحة جسدها الذي ما أظن الماء مسه منذ زمن بعيد. تأكدت من ذلك لما رأيته من سواد تحت أظافرها لم تفلح حُمرة الحناء في كفيها في إخفائه عن نظراتي المتفرسة... (بهذه الكلمات ينزع الكاتب نظرة القارئ إلى هذه العناصر وكأنه يريد إخراجه من جو السهرة ثم إعادته إلى ما يعتبره واقع البادية السورية. هذه البادية التي يقول عنها أيضاَ وبشيء من الحنين، إنها ليست للشعراء (ص 69)، أو إنها لم تعد للشعراء منذ أن أصبحت لأمثال أمير غزلان الذي يمثل هؤلاء الانتهازيين المغامرين الذين يحولونها إلى عالم جديد مقطوع من جذوره.
* ونلاحظ نفس تعلية قيمة الماضي الذاكرة في وصفه مدينة حلب. فيكرِّس العجيلي صفحات عديدة لمدينة حلب وخاصة الأماكن التاريخية والأثرية، منها الحارات القديمة بجانب قلعة حلب المعروفة. ولا يكتفي الكاتب بوصف الأماكن إذ اهتم أيضاً بالنشاط الثقافي. في سراي إسماعيل باشا مثلاً، يحضر القارئ بجانب شخصيات الرواية سهرة موسيقية أصيلة. وهذه السهرة هي فرصة لإدخاله إلى زمن آخر. هناك نفر من الناس من هواة الطرب والموسيقى، الحريصين على الرقي الفني، يجتمعون من حين إلى آخر في إيوان سراي إسماعيل باشا ليغنوا أويستمعوا إلى الأغاني والقصائد التقليدية. فيتأثر بطل الرواية من هذا الجو الأصيل الذي يذكّره بقراءاته في الحضارة العربية الكلاسيكية. ولكن في نفس الوقت، يروي لنا العجيلي في مقطع آخر من الرواية (ص 102) كيف جاء تاجر بيروتي ثري، مشهور بحبه للآثار، ونهب الخشب المزخرف الذي كان يزين سقف إحدى قاعات القصر المهجورة. كذلك (ص 99100)، يقول لنا بنوع من الحنين إنّ معالف الخيول الأصيلة تحولت إلى أكوام من ألواح صابون الغار وإنّ مقر حرس الباشا أصبح مكاناً توضع فيه أكياس مليئة بالفحم.
* فبالنسبة إلى العناصر التراثية المذكورة، يمكننا القول إنها ترمز إلى شيئين رئيسيين: من جهة إلى تجذّر الشخصية العربية الأصيلة ومن جهة أخرى إلى هجوم عالم الحداثة الذي يهدّد هذه الشخصية. فنرى أن وظيفة هذه العناصر لا تنحصر في رسم الواقع أوفي التزيين التكميلي الذي يعطي النص طابعه التصويري الضروري لإكمال الديكور. وإن وجدنا في وصف العجيلي لهذه العناصر هيئات واقعية، إلا أنه يهدف في رأيي وبشكل أساسي إلى إظهار فكرة مهمة وهي أن ذاكرة شعوب المنطقة وجذورها الثقافية سائرة إلى التضاؤل أوأنها على الأقل تعيش ظروفاً صعبة بفعل التحولات والتغييرات التي أصابتها على كل المستويات. في مسرح هذه الرواية يبدو أن الإنسان العربي شارد بين الحاضر والماضي، بين الحلم بعصر جديد جميل ترمز إليه الشخصية الرئيسية للرواية والاصطدام بواقع أشد قسوة وجفاء. فأنور، بطل الرواية، على غرار الأماكن الأثرية أوالعادات المذكورة سابقاً، يبدو وكأنه غير متكيّف مع عصره ومع البيئة التي يعيش فيها. إن هذه الفكرة الأخيرة تظهر بوضوح أيضاً عندما يصف العجيلي العلاقة بين أنور وشاهناز: امرأة جميلة في منتصَف العمر، تنتمي إلى الطبقة الاجتماعية الراقية وتعاني من غياب زوجها المتكرر بسبب أعماله فتعيش حرماناً عاطفياً وجسدياً واضحاً وتحاول تسكينه أو إشباعه وهي تثور ضد ظروفها. حين تلتقي هذه المرأة بأنور، تتجرأ على البوح بشعورها فتأخذ المبادرة في محاولة إنشاء علاقة معه. أما هو، فيستهجن سلوكها ويعتبرها من الفساد الخلقي والانحراف: كيف تنادي امرأة في مثل عمرها ومكانتها الاجتماعية إلى الحب وخاصة حب رجل في عمر بنتها.
* فلدينا صراع واضح بين رجل يمثّل العقلية والقيم العربية التقليدية وامرأة لها قيمُها الخاصة وتخالف في مظهرها وفي تصرفاتها قوانين المجتمع. وهذا الصراع بين هاتين الشخصيتين يرمز إلى الصراع بل الانشقاق بين قيم المجتمع القديم والقيم التي ينقلها المجتمع الحديث.
* كخاتمة، أود أن أقول إنّ عبد السلام العجيلي يحلل في هذه الرواية طبيعة الحواجز التي على البطل أن يجاوزها في مجتمع يعاني في الحقيقة من غياب القيم الثابتة، فيتيه بين الحاضر والماضي. ومن خلال وصفه للأماكن وللعادات، ومن خلال الشخصيات التي خلقها، نستطيع أن ندرك أيضاً العلاقة القائمة بين الكاتب وماضيه، بينه وبين جذوره. ففي هذه الرواية وفي الكثير من مؤلفاته الأخرى، يقدّم لنا نظرته إلى ثقافة أومجتمع يتغيّر ويحاول أن يجد علامات طريقه بانتظار مستقبل أحسن...


*باحث فرنسي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved