الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

عن رجل نبيل اسمه العجيلي
وليد إخلاصي*
في بداية الستينات من القرن الماضي بات انتسابي إلى عالم الثقافة والكتابة يشكل جانباً فعالاً من حياتي وكانت عيناي في ذلك العالم تقرآن وأذناي تسمعان، وكان عبد السلام العجيلي واحداً من أبرز الأسماء التي فرضت نفسها على المشهد الأدبي، فكنت أتابع أعماله بروح ابن الجيل الذي يراقب من سبقه بحثاً عن مكانةٍ له ولي.
مدققاً في كتابة العجيلي وتقصي حقيقة موقعه من الحداثة التي كانت آنذاك مقياساً سائداً. والحداثة آنذاك كان لها بعداً سياسياً يفوق أبعادها الأخرى، والعجيلي كان يلتزم الأشكال المعروفة متقيداً بالقواعد الصارمة لها، ويبدو أن ذلك الالتزام إلى جانب عوامل أخرى دفع بعدد من الكُتَّاب الشباب ومن الذين رفعوا لواء اليسار إلى تكريس هجوم لاذع على ما ينتجه هذا الطبيب الكاتب، فاتهم بأنه ابن منظومة الفكر الإقطاعي وبخاصة أنه كان نائباً سابقاً في البرلمان خلال فترة الأربعينيات وكان وزيراً في فترة الانفصال التي صنعتها الرجعية السورية، وكانت الثقافة آنذاك متمثلة بقوة في عدد من المهاجمين الذين لم يروا فضيلة واحدة في قصص العجيلي ورواياته، فكان هناك عداء ملحوظ لهذا الكاتب الذي لم يتوقف لحظة عن إثبات حضوره القوي في المشهد النقابي.
وأذكر يوماً من السنة الثالثة من الستينات، وكنت قد أنجزت روايةً باسم (شتاء البحر اليابس) فدلني واحد من الأصدقاء على رجل يجلس في مقهى (البرازيل) المعروف بحلب، ويبدو أن المقهى كان محطة للقادم من (الرقة) الذي لم يكن سوى عبد السلام العجيلي.
أذكر أني توقفت خارجاً يمنعني التردد ولكني جمعت شجاعتي لأتقدم من الداخل واقترب بحذر من الرجل وهيبته تكاد تعرقل خطواتي.
وكانت المفاجأة في ترحيب العجيلي بي وأنا أقدم له نفسي، وأذكر أنه أبدى ترحيباً بطلبي أن يقرأ روايتي المخطوطة ليقدم انطباعه عنها، وأن ما حدث بعد أسبوع كان أكثر مفاجأة فقد اتصل العجيلي بي كي أقابله، وفي ذلك اللقاء أعاد الرواية مع مقدمة كتبها لها وهو يشكر لي إتاحة الفرصة في لقاء جيلين من الكُتَّاب.
كانت المقدمة، التي ستنشر مع الرواية في العام 1964 عن دار عويدات بيروت، وثيقة أظهرت عن فهم العجيلي للروح الجديدة في الأدب وعن ثقافة واسعة، كما أن المقدمة كشفت عن تعاطف نبيل بين الأجيال.
أكان دافع العجيلي وقد كتب المقدمة أن يدفع تهمة الوقوف في وجه الحداثة، أم أنه أراد أن يبرهن على قدرته في أن يكون أيضاً كاتباً معاصراً، ولا أخفي أن من دوافعي في معرفة رأي العجيلي كان في نيل اعتراف من جيل سابق، ظننته لفترة عتيق النظرة، في ما يكتبه الشباب. إلا أنني في نهاية الأمر اعترف بأن الرجل كان معاصراً بحق ومعتقاً في إبداعه وليس عتيقاً كما يظن الخصوم آنذاك، وأنه يمثل لقاء القديم بالحديث في أبهى تجلياته، وأن العجيلي لم يكن سوى ذلك الممثل الحق للثقافة القوية في كل مراحلها.
وجاءت الصداقة، وجعلت أُعيد قراءة ما كتبه العجيلي من قبل وأتابع ما يقدمه، ويدهشني أن متابعتي له تشير إلى انه لم يكن شاهداً على الصحراء فحسب بل كان رمزاً متحضراً للمدينة، تاريخاً وكوناً شاملاً، وأن أحاسيسه الوطنية لا تختلف في قوتها عن رقة أسلوبه التي تعبر عن إنسانية فائقة.
ولم تمنعه شجاعته من الاختفاء وراء اسم مستعار من وقت لآخر وذلك لأسباب تعود إلى عوامل عدة، خجله أحياناً من الادعاء أو حب الظهور وقناعته بأن الهدف هو الموضوع وليس اسم كاتبه.
وعلمت أنه في شبابه الأول كتب فصولاً تمثيلية لفرق محلية في بلدته دون ذكر اسم له، وما زالت واقعة مسرحية قديمة تدل على ذلك التخفي في سلوك العجيلي الأدبي، فقد أعلنت مجلة (الحديث) الحلبية في الثلاثينات عن مسابقة لاختيار أفضل مسرحية، شارك فيها عدد من الكتاب وكان العجيلي قد تقدم أيضاً وكانت مسرحيته عن (أبو العلاء المعري) موقعة باسم (المقنع)، وكان العجيلي شاباً صغيراً من (الرقة) الصحراوية بتقاليدها وعاداتها، فقرر أن يختبئ وراء استعاراته تلك خوفاً من لوم يقع عليه.
وحدث أن أعلنت المجلة عن الفائز الأول واسمه المقنع ودُعي لتسلم الجائزة التي كانت آنذاك خمس ليرات ذهبية، وإذا ما تقدم العجيلي ليتسلم المكافأة فوجئ صاحب المجلة بشاب لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره ويذكر العجيلي بعد زمن انه لم يسمح للمجلة أن تشير إلى اسمه الحقيقي، كما أنه لم يحصل على الجائزة الثمينة.
واشتهر العجيلي بعد الخمسينات بأنه أبرع محدث في المحاضرات التي ألقاها في مدن كثيرة، وكان مجرد الإعلان عن حديث له في قاعة محاضرات يعني حشوداً كبيرة من المستمعين من كل الأعمار، فكان (الحكواتي) بامتياز ويسرق الجماهيرية من الشعراء الكبار، بالرغم من أنه أعطى شعراً كثيراً، وأظنه إلى جانب كتابة الشعر كان من خير الرواة للشعر القديم والذي أُعجب لذاكره في اختزانها لكم هائل من الشعر، وبظني أن كثيرا من الناس يفخر بأنه ذات يوم استمع شخصياً إلى محاضرة للعجيلي، لذا يمكن القول بأنه كان من سادة المنابر دون خطابة أو استعراض لبلاغة جوفاء. ولا يمكن لي أن أنسى محاضرته الشيقة التي تحدث فيها عن لقاء ضمّ ثلاثة من الأصحاب أمضوا أمسيتهم في الحديث عن جرائم القتل المريعة.
تحدث الأول عن طبيب معروف أرداه قاتل مجهول ليخر صريعاً تلوث دماؤه عيادته التي قضى عمراً فيها يداوي الناس فتحول من يقدم الخير للناس إلى ضحية.
جعل الثاني يتذكر وقائع جريمة وقع ضحيتها شاعر معروف اشتهرت أشعاره بأنها تجديد حقيقي وحداثة كان لها أثر في تدفق الشعر فلم يمنع ذلك من يد آثمة إلى الرجل الذي امتلأت كلماته بالأحاسيس الجميلة فانتزعت الحياة من جسده الناحل.
وكان الثالث قد ابتدأ حكايته برواية أحداث الجريمة التي لا تغتفر، فالقاتل الرخيص تجرأ على عجوز عملت الأيام على هدِّ كيانه وباغته برصاصة اخترقت القلب فكأن السنين الثقيلة التي حملها العجوز على كتفيه لم تغفر له فجاء المجرم ليقضي على شيخوخة رجل لم يؤذ أحداً في حياته، وإذا ما انتهى الرجال الثلاثة من حكاياتهم عن جرائم القتل حتى جعل العجيلي يعترف بأن حكايات الرجال كانت تدور حول شخص واحد يجمع شخصية الطبيب والشاعر والعجوز والذي لم يكن سوى (الدكتور علي الناصر) الذي وجد مقتولاً في عيادته وهو العجوز والشاعر المعروف.
كان علي الناصر صديقاً للعجيلي فجاءت محاضرته عن مرثية إلا أنها أصبحت دون قصد جنساً أدبياً جديداً يمكن تسميته بالمقالة/القصة، بل يمكن القول إن العجيلي قد وضع أساساً لظهور مثل هذا الجنس الأدبي الذي يمكن أن يحتل مكانة في الأدب، وإن كان بحاجة إلى أمثال العجيلي في حضور حكايته العذبة وهو الذي يمكن اعتباره من القلائل الذين يمتلكون القدرة على مزج النثر العادي بالقص الفني.
ولقد كشفت الأيام في مسيرة العجيلي عن قدرة كبيرة في اختزان أحداث السياسة السورية عبر عقود كثيرة، وعن حفظه الأمين للوقائع التي سجلتها السياسة والأحداث الوطنية بدءاً من أيام الجهاد في فلسطين قبل الإعلان عن دولة إسرائيل وإلى الأيام التي أشرف فيها القرن العشرين على الانتهاء.
وبالرغم من استقلال شخصه وتفكيره وعدم انتمائه إلى جهة ما، فإنه بقي إلى يومنا هذا أطال الله عمره واحداً من الذين حفظوا لسوريا ذاكرتها.


* حلب

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved