الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

رجل كأنه مدينة
راشد عيسى
لا يصدّق المرء أن عبد السلام العجيلي يعيش معنا هنا، في الزمن ذاته الذي نعيش فيه، لا لأن الرجل عاش عمراً مديداً كأنما هو عمر سوريا المعاصرة، بل لأن سيرته تبدو من زمن آخر، دونكيشوتي ربما.
لم نعد نسمع منذ زمن بعيد عن أولئك الشعراء والمثقفين الذين يغادرون حياة الرغد؛ يحملون بنادقهم، ويرتدون البزة المموهة، للالتحاق بساحات المعارك، في تطبيق هو الأرقى لثنائية السيف والقلم. المرة الأولى كانت في صيف العام 1937، وكانت ثورات الفلسطينيين مشتعلة ضد الاحتلال الانكليزي، فما كان من الشاب، الذي لا يلوي على شيء سوى شهادة ثانوية حصل عليها للتو، إلا أن قصد دمشق باحثاً عمّن يأخذه إلى الجهاد، وحينما وصل قيل له: (يا بني، أرجع إلى بلدك وتابع تعلمك.. الثورة أكثر حاجة إلى بواريد وخرطوش منها إلى رجال). وبعد أحد عشر عاماً، وكان الشاب قد أصبح نائباً في البرلمان السوري عن مدينته الرقة، كان الحنق العربي على أشده بعد صدور قرار تقسيم فلسطين، ولكن الحنق لم يترجم إلا إلى مواجهة محزنة بين عشرين ألف مجاهد عربي وأكثر من ستين ألفاً من اليهود المجهزين بأحسن العتاد.
إنه الحنق ذاته الذي تُرجم بتسجيل أسماء ثلاثين نائباً متطوعاً للجهاد ليصلوا في النهاية إلى ثلاثة: أكرم الحوراني، غالب عياشي، والطبيب الشاب عبد السلام العجيلي. لم يكن العجيلي لينظر إلى تلك التجربة كنوع من مغامرة مترفة، ومع ذلك ظل حس الفكاهة والسخرية ملازماً له في تلك التجربة كما تشي اليوميات التي كان يسجلها آنذاك، وهو ما نحسب أنه ظل ملازماً له إلى الآن. عبر النائب الشاب الحدود مخترقاً الكثير من قرى سوريا ولبنان وفلسطين. وإلى جانب زملائه من مجاهدي جيش الإنقاذ، الذي وحّد بين أصناف شتى من البشر، من نائب وطبيب ومعلم وعسكري وأميّ، ولم يمنع سمو الهدف من اقتتالهم على كسرة خبز، التقى العجيلي أصنافاً أخرى من سكان تلك القرى، من متحمسين للجهاد استقبلوهم بأجمل ما لديهم، إلى آخرين استقبلوهم بما لا يليق. إن هؤلاء جميعاً كانوا بلا شك نوعاً من معين مبكر لأديب همّه كتابة الحياة، ورسم طبائع الناس وشخصياتهم بعميق مكنوناتها.
وسنظل نحن، أبناء المخيمات الفلسطينية في سوريا، وخاصة أولئك الذين يتحدرون من تلك المناطق التي تموضع فيها الفوج الثاني من جيش الإنقاذ، الفوج الذي ضم بين مجاهديه الأديب العجيلي، ننظر إليه بامتنان مضاعف؛ نحيي فيه روحاً جهادية، ونشكر له هدية ليست في الحسبان، حين قدم بورتريهات لشخصيات إنسانية من أبناء قرانا تلك، من دون أن يتوقع أحد أن يسجلها تاريخ، أو يحتفي بها أدب، وحتى لو حدث أن سجّلنا نحن لهؤلاء، فإن روعة الهدية تأتي لكونها نوعاً من المباغتة، مثل كاميرا مراقبة اكتشفت مؤخراً وقد سجّلت الحدث بتفاصيله. لا أدري إن كانت الآن عشيرة القديرية، إحدى العشائر الفلسطينية الغارقة في بؤس المخيمات، تعرف أن العجيلي سجل لها جانباً من نضال أبنائها، ونعني به والد الشهداء الأربعة خالد المعجل، وكان العجيلي قد سجل صحبته النضالية في تلك الأيام.
وإذا كانت مدينة العجيلي، مدينة الرقة الواقعة في منتصف المسافة بين حلب ودير الزور في الشمال السوري، واحدة من المدن المنسية والمهملة، بعكس موقعها البارز في التاريخ، فقد صار العجيلي واحداً من مواقعها البارزة، بل نكاد نقول إنه الموقع الوحيد في تلك المدينة البعيدة، وهو قد ظل مصّراً أن يعيش هناك متشبثاً بمهنته طبيباً إلى جانب ما يكتبه من قصص وروايات، بل وأكثر من ذلك؛ حين كنا نقابل أحداً من سكان تلك المدينة المجهولة بالنسبة لنا، كنا نتشدق بأننا نعرف معْلماً كبيراً من معالمها.
هكذا كنا نتودد ونحاول أن نفتح حديثاً مع القادمين من هناك: (وماذا عن العجيلي؟)، وكأن الرجل بديل عن مدينة، كأن الرجل هو المدينة كلها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved