الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

الأفق الروائي وجماليات التاريخ الشخصي «22»
عبدالله السمطي
قبل أن نتمثل بعض الأعمال الروائية التي قاربت التاريخ الشخصي لكاتبيها، يجب أن نميز بين ثلاثة أمور:
التاريخ العام.
التاريخ الشخصي.
السيرة الذاتية.
فالتاريخ العام هو هذه الوقائع التي ينهض على سردها المؤرخ، هو التاريخ العلني أو السري الذي تكشفه الوثائق وتصعد به الأحداث، وهو ينطوي على الأغلب على الحالة السياسية العامة التي يمر بها بلد من البلدان. المؤرخ هنا لا يأبه لذكر ما هو متعلق بالأناس العاديين أو بالأفراد، بل بما هو كلي، عام، ويتوجه لكتابة هذا التاريخ الذي يُبحث ويُدرس من طائفة من المهتمين أو غير المهتمين.
أما التاريخ الشخصي فيتعلق بالذات الفردية والوقائع الشخصية الحميمة، وهو تاريخ غامض على الأرجح إذا كان يتعلق بشخصية عامة، فإذا تحول التاريخ الشخصي هنا إلى أن يصبح عاماً مشاعاً، بحسب حضور هذه الشخصية وتأثيرها في صنع الأحداث التاريخية، فهو يندرج آنئذ ضمن التاريخ العام كحضور الزعماء أو الإصلاحيين أو العلماء على سبيل المثال. وهنا يصبح هذا الشخصي واقعاً ضمن مجالين، إما روايته عبر التاريخ العام، أو روايته عبر المذكرات، مثل مذكرات أحمد عرابي أو مذكرات سعد زغلول على سبيل المثال.
وإذا كان التاريخ الشخصي المتعالق هنا بالأفق الروائي، وبكاتب الرواية تحديداً، هو تاريخ ذات مراقبة للأحداث وليست صانعة لها، فهو تاريخ أكثر عرضة للاكتناز المتسائل، وللتحوير والأسطرة والتخييل، والحنين إلى الذكرى، خاصة حين يسجل الروائي تاريخه عبر عمل فني لينأى بنفسه عن المساءلة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. فهو هنا لا يقدم (سيرة ذاتية) ولا يعرض (مذكرات) إنه يقدم عملاً فنياً ممهوراً بآليات الفن الروائي، وبالتالي سيكون بمنأى من منطق الصدق أو اللاصدق، وعن منطق الحقيقة. وحدها الحقيقة الفنية هي التي تصبح مهيمنة وحاكمة، وفعالة ودالة.
4
قاب قوسين أو أدنى، يقترب الروائي إدوار الخراط من تاريخه الشخصي، إنه يضمّن رواياته الأمكنة نفسها التي عاش فيها ما بين (أخميم) والإسكندرية والقاهرة، ويؤثر اللحظات التاريخية الذاتية التي كانت متوهجة على الأخص في مرحلة الأربعينيات من القرن العشرين، هذه المرحلة الثرية بالتحولات التاريخية العامة، والشخصية والفنية أيضاً. الخراط يألف دائماً العودة إلى هذه المحلة في أغلب رواياته، خاصة في (أمواج الليالي) و(حجارة بوبيللو) و(صخور السماء). الخراط يركز على استشفاف عدة عوالم من هذه العودة تتجلى في:
تقديم الأمكنة والبقاع الصغيرة الحميمة التي خبرتها ذاكرة الطفولة والشباب.
إضاءة الشخصيات الثانوية المهمشة، وجعلها أبطالاً لرواياته.
التنقيب عن اللحظات الرومانسية التي عايشها، أو عايشها أصدقاؤه، والكشف عن تجاربهم الذاتية، ومراسلاتهم، وإبداعاتهم البسيطة البريئة.
إشاعة طقس من المفارقة بين لحظات الأربعينيات من القرن العشرين حيث الحرية التي لا تحد وبين اللحظة الراهنة بكل اغتراباتها ومنافيها.
تقديم نسق روائي له خواصه الذاتية، ووقائعه المتميزة التي تفضي إلى فرادة ما للعالم الروائي الخراطي.
بيد إن إدوار الخراط لا يقدم هذه العوالم على طريقة السرد المباشر أو حكي الوقائع مثلما هي حادثة، على الأقل إنه لا يقول لنا: إن ذلك هو الحقيقة، إنما يقوم بإعادة تحوير الحكاية، وتقديم (ربكة) زمكانية معقدة تصل بين الخيوط الزمنية المتعددة، في قران إبداعي مدهش بين لحظة الذكرى ولحظة الحضور.
والأمر الباده في روايات الخراط يتمثل في هذه اللحظة السردية المتشعرنة إلى أقصى درجاتها، بحيث تتحول الرواية عنده إلى نص شعري ممتد أحياناً، دون أن يؤثر ذلك على البنى الفنية العميقة التي ينجدل فيها عمله الروائي.
هكذا يدور التاريخ الشخصي للخراط ممزوجاً بهذه القدرة الفنية على (التحوير) و(التعفية) وإبراز (العرامة) اللغوية التي يتمتع بها الخطاب الروائي الخراطي.
إن التاريخ الشخصي يغدو لدى الخراط كخلفية ذاكرتية تتمسرح فوقها أحداث رواياته. إن الشخصيات القبطية التي يقدمها هي شخصيات من نسيج المجتمع المصري، وهي في الآن ذاته لها عالمها الخاص، ونسيجها المتشابك وتقاليدها المختلفة.
الخراط لا يقع هنا في فئوية المجتمع الكنسي، بل يقدم شخصياته كما هي بانحيازاتها وبمرئياتها العامة التي تتلاقى كثيراً مع هوية وثقافة المجتمع العربي ككل، وهذا مكمن احتفاء الخراط بالثقافة العربية الإسلامية، وإشاراته الدائمة إلى أنها تمثل مكوناً رئيسياً عنده.
إننا نستطيع أن نتلمس جزئيات هذا التاريخ الشخصي في هذا الإلحاح الدائم على ورود أمكنة معينة مثل أخميم وأحياء الإسكندرية في روايات الخراط، إنه لا يفتأ يذكر أماكن وبقاعاً تتعلق بهاتين المدينتين، كما في (رامة والتنين) و(ترابها زعفران) و(يا بنات إسكندرية) و(حجارة بوبيللو) و(أمواج الليالي) و(صخور السماء)، بل إنه قدم ما يسميه ب (الكولاج الروائي) في كتاب أسماه: (إسكندريتي) احتفاء بهذا المكان تحديدا، وإيثارا لإبراز وقائعه الشخصية فيه.
وإذا كان التاريخ الشخصي للكاتب يرتهن بمكان ما، وبزمان محدد، فإن معنى هذا انه سيحتفي على الأرجح بمشاهداته وبرؤاه التي يتيحها هذا الأفق الزمكاني، وهو إذ يقدم تاريخه الشخصي بشكل غير مباشر، إنما يقدم مشاهداته أيضاً، وجوانب من سيرته وإن بشكل يعتمد التحوير والتخييل والتعفية.
هكذا نجد ذلك في رواية (وكالة عطية) لخيري شلبي، حيث يقدم جوانب من تاريخه الشخصي، إذ يقدم عالم المهمشين والمقهورين والمطحونين وحياة الصعلكة في مدينة دمنهور القريبة من الإسكندرية، عبر سرده لوقائع ومعارف شخصية، وتقديمها باعتبارها خلفية للنسق الروائي ككل.
إن خيري شلبي يمزج في هذه الرواية بين الحدث العام وبين الحدث الشخصي بشكل فني تتخصب فيه العلاقة بين الحدثين، بحيث تتوالد عن ذلك عناصر من المفارقة والأسطورة والغرائبية والدهشة السردية. إنه يقدم أيضاً وقائع لا يخبرها إلا هو، وأحداثاً لم تسرد إلا عبر هذا التاريخ الشخصي الذي يقدمه، لكنه لا يشير بالضرورة إلى أن هذا التاريخ هو تاريخه الحقيقي، بل يومئ إلى أنه تجربته ومعرفته وخبرته، ونتبين ذلك من خلال أحاديث الكاتب الصحفية والإعلامية، وحواراته، وشهاداته حول تجربته مع الكتابة.
وعلى الرغم من فيض المعلومات التي يقدمها خيري شلبي في (وكالة عطية) عن عالم المقهورين أو الطبقة التحتية في المجتمع المصري في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن تجربة أخرى لا تستغل هذا الفيض المعلوماتي الذي يتيحه انفتاح واكتناز المجتمع المصري بالوقائع والأحداث الكثيفة الثرية، والذي قد تمنحه التجربة الشخصية الكامنة بالتاريخ الشخصي، هذه التجربة تتمثل في روايات روائي مثل إبراهيم أصلان خاصة في (مالك الحزين) و(وردية ليل)، فأصلان يردد دائماً: (إنني لا أكتب) عن (التجربة بل أكتب) ب (التجربة)، أي أنه لا يسرد تجربته وإلا لملأ (مجلدات) على حد قوله في أحد أحاديثي معه، بل يرى العالم من خلال تجربته الشخصية، وفق هذا يمكن تبرير هذه الكثافة الكبيرة التي نلمحها في رواياته التي لا تركز على استطرادية الحكي أو الوصف، بل تختزل كثيراً من هذه الآليات لتركز أكثر على آلية الرؤية، والدقة في سرد الأحداث ونقلها في حوارات قصيرة مكثفة بين شخصيات الرواية.
في (وردية ليل) ينقل أصلان هذا العالم الليلي لدى موظفي مؤسسة البريد والاتصالات، هذا العالم الصامت المهمش، إنه يرصد وقائعهم الصغيرة، أو حيواتهم البسيطة جدا في إيقاع يومي ليلي رتيب.
أصلان استفاد بشكل كبير من عمله في هذه المؤسسة، ومن تاريخه الشخصي العملي فيها، لكنه لم يقدم مسيرة بطل أو سيرة شخص ما، قدر ما كشف لنا عن هذا العالم الليلي الصامت، واطلاع العاملين به على المراسلات والتلغرافات والبرقيات، ووقوعه على النماذج الإنسانية إزاء ذلك.
الكتابة هنا ب (التجربة) لا (عن) التجربة، على تعبير أصلان، وبالتالي فإن انعكاس التاريخ الشخصي يصبح انعكاسا غير مباشر، خلفيا، متوامضا، ذكرياتيا، حنينيا، بريئا، ويتبدى من وراء ستار السرد، وحجب الآليات الروائية المتعددة.
5
خلاف ذلك، فإننا نعثر على بعض الروايات التي تقدم التاريخ الشخصي بشكل يوحي بالاقتراب الشديد من الشخصية المؤلفة، ومن كاتب النص، وهو ما يمثل مأزقا تعبيريا حقيقيا حيال الكاتب، إذ إن عدم تعفيته على الأثر الشخصي وعدم تحويره للأحداث وتقديمها في نسق مخايل، يفضي إلى ربط القارئ بشكل جمالي بالنص الروائي، هذا المأزق يجعله عرضة للمساءلة المباشرة من لدن القارئ حيال وقائع روايته وأحداثها، حتى وإن صدّر بأن شخوصها وأحداثها شخوص وأحداث متخيلة، فالقارئ سيقوم بالربط بين السيرة الذاتية للكاتب وتاريخه الشخصي من جهة، ووقائع هذه الرواية من جهة أخرى.
نرى ذلك على سبيل المثال في رواية (العدامة) للكاتب تركي الحمد. فبعد قراءة الرواية اتضح في التو أن (هشام العابر) بطل الرواية هو نفسه (تركي الحمد) في مرحلة من المراحل الزمنية، هذا الربط المباشر بين (العابر) و(الحمد) ناجم عن أن الروائي حكى تجربته هو بمباشرتها وسخونتها ولم يحور أو يبدل أو يخايل في تاريخه الشخصي ليتحول إلى تاريخ فني جمالي، وفق هذا فإن الرواية هنا على رغم أفقها الفني تظل عرضة لسؤال التجنيس: هل هي سيرة أم اعترافات أم مذكرات، بالرغم من تغيير أسماء الأشخاص بأسماء مستعارة.
الأمر نفسه ينطبق على رواية شقة الحرية (لغازي القصيبي) و(الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني، فاستثمار التاريخ الشخصي هنا لم يتم وفق شكل فني ألليجوري متخيل قدر ما تم عبر تبديل الأسماء وسرد الوقائع ربما كما هي حادثة في أفقها الزمكاني.
6
يمتاز التاريخ الشخصي للمبدع بالتعدد والاختلاف، لكلٍ تجربته وثقافته ورؤيته المختلفة للحدث الواحد، ولوقائع التاريخ العام، ذلك بسبب من نشأته وبيئته وثقافته وهويته. هنا يصبح التاريخ الشخصي عنصراً جوهرياً في قراءة الحدث العام ومكنة جمالية ودلالية كامنة لدى المبدع يقتطف من لحظاتها وبقاعها أفكاره ومواقفه الروائية عبر التخييل والتحوير والانحراف عن الخطوط الأفقية والرأسية التي يمثلها تاريخه الشخصي.
إنه يأخذ لمحات من سيرته وتجربته وحياته، بيد أنها لمحات تصبح ملكا لفن الرواية لا ملكا أو تراثا له بالضرورة. إنه يقدم للقارئ حكمته وخبرته المديدة في مقاربة الحياة ومفارقتها، مما ينعكس على حركة الأحداث وحركة الشخصيات داخل العمل الروائي.
إن تعدد فضاءات التاريخ الشخصي، وشحذه بالمعرفة المخايلة للمبدع، يعطي أرضية جمالية نوعية للخطاب الروائي، ويقف بوصفه محفزا لإنتاج خطاب روائي متميز ومؤثر وفعّال.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved