الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th June,2003 العدد : 16

الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

هؤلاء، مرَّوا.. على جسر التنهدات!!
حين عاتبني الأمير بأدب!..
بقلم/ علوي طه الصافي (*)

يعشق الأدب، وأهله.. صديق محب لكل صحافي، وحامل قلم.. يتابع ما يكتب في الصحافة وإذا لفتَ نظره شيء غامض مما قرأه.. يهاتف رئيس التحرير ليسأله عما وراء السطور.. ورغم أن مسؤوليته الكبيرة كأمير للعاصمة، قلب المملكة بيت العرب، ورغم رئاسته لأكثر من عشرين جمعية خيرية.. وحضوره الدائم في كل مناسبة مشاركاً في الاحتفالات الرسمية.. وبعض المناسبات الاجتماعية في الأفراح، والأحزان.. ورغم انه رئيس شرف لأكثر من مؤسسة ثقافية واجتماعية.. ورغم استقباله يومياً في عمله لعشرات المحتاجين من المواطنين.. غير مقابلاته الرسمية للأمراء، والوزراء، والسفراء العرب، وغير العرب.. ورغم.. ورغم، إلا انه لم يتخل عن عشقه للأدب، وأهله.. وصداقته للصحافيين، وحملة الأقلام، لهذا عُرف في الوسط الصحافي بأنه "أبو الصحافيين" الروحي.
وطني عربي مسلم محب وغيور.. والمحب لابد أن يكون غيوراً.. لهذا حين قرأتُ لأحد شعراء الاندلس عجز بيت شعري له قال فيه: "إن المحب للحبيب مُطيعُ" دون تردد قلتُ في نفسي لو قال: "إن المحبَّ للحبيب غيورُ" لكان أبلغ!!
* قلتُ، إنه مواطن عربي مسلم "غيور" لأنه جنَّد نفسه متطوعاً مع إخوة له على رأسهم "خادم الحرمين الشريفين" للقتال في صفوف الأشقاء المصريين، أثناء "الاعتداء الثلاثي" على مصر الكنانة، هذا الاعتداء الأجنبي الثلاثي قامت به كل من (فرنسا.. وبريطانيا.. وإسرائيل) عام 1956م، على اثر تأميم الرئيس المصري الراحل (جمال عبدالناصر) يرحمه الله، لقناة السويس، وجعلها مؤسسة مصرية مساهمة كما أذكر !!
* وبصفتي واحداً من أصحاب الأقلام البسيطة المتواضعة كنتُ أتابعُ نشاطاته الاجتماعية والرسمية يومياً من خلال الصحف التي لا تخلو من أخباره وصورة وجهه الأبوي الحنون الوضيء الباسم.
* حين كنتُ رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل) فوجئت في صباح أحد الأيام بمكالمة من الامارة.. قال لي مأمور "السنترال".. أو "البدَّالة" كما يسميها أشقاؤنا في الكويت.. وربما في الخليج كله.. قال لي: إن الأمير سلمان يريدك فرحَّبت.. وقلتُ في نفسي اللهم اجعله خيراً.. وجاءني صوته مشرقاً كالصباح.. وبعد ديباجة المكالمات الهاتفية.. سألني هل قرأتَ زاوية الأخ (علي محمد العمير) اليوم في جريدة "الشرق الأوسط"؟
* كان من حُسن حظي انني قرأتها على غير عادتي حيث أكتفي صباحاً بمطالعة عناوين الصحف، ثم أقرأ ما يطيب لي ليلاً "حين تصبح أحداثها تاريخاً".
وهذه العبارة قالها عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين) للدكتور الصديق (حسين مؤنس) الذي كان يكتب في (الفيصل) زاوية شهرية في صفحتين تحت عنوان (كلمة طيبة).
ولأن ذكر اسم الدكتور (حسين مؤنس) العالم الاختصاصي في (تاريخ الاندلس) يذكِّرنا بقصة "المعتمد بن عبَّاد" حاكم "أشبيلية" في الاندلس.. هذه القصة وردت في كتب التاريخ، والتراث.. مثلها كمثل غيرها من القصص التي تجسِّد في تاريخنا العربي والإسلامي ظاهرة حضارية تتمثَّل في اهتمام الخلفاء، والولاة، والأمراء، والحكَّام، بالعلماء، والأدباء، والشعراء، والمثقفين وتقريبهم اليهم، والافساح لهم في صدور مجالسهم.. ليأنسوا بهم.. ويستأنسوا بعلمهم.. وفكرهم.. وشعرهم.. وأدبهم، وتكريمهم، ومواساتهم عند اشتداد الكرب عليهم.. ومساعدتهم لحفظ ماء وجوههم من الحاجة، والفاقة.. ويسألون عن غائبهم.. بل يقيمون "المناظرات" بينهم لمعرفة المبرِّزين منهم.. وهي وسيلة تدفعهم إلى مزيد من العلم، والتحصيل المعرفي.. وقد يُكلَّف بعضهم بتأليف الكتب في حقول اهتماماتهم العلمية.. ويسخون عليهم بالعطاء المالي، كي يتفرَّغوا لتأليف الكتب التي يُكلفون بتصنيفها.. وبهذا الأسلوب الحضاري الراقي نشطت حركة العلوم، والآداب، والفنون، والثقافة.. وأُثْري تراثُنا العربي الإسلامي بالمخطوطات، قبل اختراع "الطباعة".. حتى انه لكثرة المخطوطات تحوَّلت مياه "دجلة والفرات" إلى لون الحبر، لكثرة المخطوطات التي ألقيت فيهما أثناء غزو "هولاكو" لعاصمة الخلافة "بغداد" يومذاك.. فخسر تراثنا من ذلك الغزو الهمجي غير المتحضر كنوزاً من العلم والمعرفة التي لم ولن تعوِّض!!
وهذه الظاهرة الحضارية أصبحت اليوم من سُنن أمراء بلادنا الذين لا يكتفون بذلك بل يقومون بإصلاح ذات البين، إذا اختصم عالمان، أو أديبان، أو شاعران.. ويتولون إرسال المريض منهم للعلاج في الخارج على حسابهم.
لقد تذكرت ذلك في موقف لي مع الأمير سلمان وحبه، واهتمامه بالأدباء، والشعراء والعلماء، والمثقفين مثله كمثل باقي الأسرة السعودية العربية الكريمة التي اسعدنا الله بحكمها الوارف الظلال، كفاها سبحانه وتعالى شر الكارهين والحاسدين.. والإرهاب والارهابيين.. والفساد، والمفسدين.. وكفاها وهو المهم شر (الطابور الخامس) اللهم آمين وقالت الله "الاستطراد" في الكتابة الذي ابتليتُ به من قراءاتي لبحر العلوم "الجاحظ".. وسأعود إلى حكاية المكالمة الهاتفية!!
* توصَّلنا عندما اتصل بي سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز متسائلاً عن اسم الكاتب الذي أوقفته مجلة (الفيصل) عن الكتابة فيها والذي أشار إليه الأخ (علي العمير) في زاويته بجريدة "الشرق الأوسط" دون ذكر اسمه.. فأجبته أن المجلة لم توقف أي كاتب من كتُّابها.. وإذا غاب اسم كاتب من على صفحاتها فهو أمر يرجع إلى الكاتب نفسه الذي لم يرسل لها موضوعات جديدة خاصة بها، ولم يسبق نشرها من قبل في أي مطبوعة.. وعند هذا الحد انتهت المكالمة الهاتفية.
* أما الموقف الثاني: الذي تعرَّفتُ من خلاله على الأمير سلمان شخصياً فقد جاء بعد المكالمة الهاتفية بسنوات حين حمَّلني الصديق الأمير خالد الفيصل برسالة مغلقة رغم علمي بمضمونها لأنه يخص مجلة (الفيصل) التي كنتُ أرأس تحريرها.. وكان ظرفها المغلق عليه شعار المجلة.
* وحين دخلتُ على سموه بمكتبه في امارة الرياض، كان لديه نفر من زائريه.. وحين سلمته الرسالة رأى وجه الظرف الذي به شعار المجلة، فسألني: هل أنت علوي الصافي؟ وحين أجبته بنعم، طَلَب مني الجلوس فجلستُ حتى انتهى من زائريه الذين خرجوا من مكتب سموه.. ثم التفت إليَّ متسائلاً: كم سنة لك الآن تعيش في الرياض؟ أجبتُ يومها قائلا باقتضاب: ربع قرن!!
* ردَّ عليَّ عاتباً: خمسة وعشرون سنة لم أرك خلالها؟.. وللقارىء أن يتصوَّر حالتي الشعورية المغسولة بالخجل!! تلكَّاتُ في الرد بحثاً عن إجابة تليق بكرم خلقه، وتواضع سموه النبيل.. بعدها قلت له: إنني أضن بوقت سموكم الثمين المزحوم بالمسؤوليات الكبيرة، والمشاغل المتعدِّدة لأصحاب ذوي الحاجة، وهم كثيرون كما أعرف.. لكنني شعرتُ في نهاية الرد بالحرج، إذ خفتُ أن يقول لي بأن زيارتي تعني انها مرتبطة بالحاجة.. لكن من حسن حظي لم يقلها كأنَّه أدرك حَرَجي.. بل قال بكل أريحية، وأبوة: شوف حنَّا نحب الذين يزورننا.. وبصورة خاصة العلماء، والأدباء، والمثقفين، والصحفيين.. وبيتي معروف، ومفتوح للجميع.. فتذكرت قصة "المعتمد بن عبَّاد" وغيره من السلف الصالح في تاريخنا العربي الإسلامي.. فوعدته خيراً.
* ومشكلتي الأزلية، بل عيبي الذي أكرهه في نفسي أنني ضعيف الحركة، والتنقل، لهذا يلاحقني لوم الكرام لي، ولوم نفسي لنفسي.. فالانسان بطبيعته كائن اجتماعي وله علاقاته الاجتماعية مع الناس.. وفوق ذلك فأنا ممنوع من قيادة السيارات طبياً.. وهناك أسباب أخرى ترجع لتركيبتي النفسية.. إلى جانب تفرغي للقراءة والكتابة، بعد أن تحرَّرت من ربقة "عبودية الوظيفة" حسب تعبير المفكر العربي الاسلامي العملاق "عباس محمود العقاد" صاحب "العبقريات" الذي لم يستسلم لعبودية "الوظيفة".. وأوقاتها الرتيبة المملَّة.. المهدرة للوقت والعمر.. كما أنه لم يتزوَّج حتى لا تسرق العلاقات الأسرية
والاجتماعية جزءاً من وقته.. لهذا عاش سبعين عاماً.. وألَّف سبعين كتاباً، أثرى بها مكتبتنا العربية، والإسلامية.. في مختلف العلوم.. والأجناس الأدبية المتعدِّدة.
* الموقف الثالث مع سمو الأمير الكبير في نفسي سلمان بن عبدالعزيز كان قبل أشهر قليلة.. إذ كان لولدي (طه) معاملة في الامارة، فطلب مني مرافقته حسن ظن منه انني بحكم مكانتي الأدبية، والصحافية، قادر على إنهائها في دقائق وكل فتى بأبيه معجبٌ .. فوافقت على طلبه لأنني وجدتُها فرصة مناسبة لتعزية الأمير سلمان، والأمير سطَّام بوفاة الأمير الإنسان (ماجد بن عبدالعزيز)، تغمده الله بواسع رحمته.
* مررتُ في البداية بمكتب الأخ الدكتور (ناصر الداود) فعرضتُ عليه معاملة ولدي، فَشَرَحَ عليها "إلى الجهة المختصة لاجراء اللازم".
وقد اكتفيتُ بشرح الأخ الداود لأنني لا أريد أن يشعر الأمير سلمان بأنني جئتُ من أجل معاملة.. ودخلتُ مكتب سموه للتعزية، لا لغيرها.. وقد خيَّب ولدي رغبتي الصادقة هذه حين دخل معي متأبطاً ملف المعاملة.. وبعد السلام على سموه، وتقديم واجب العزاء.. لا أدري كيف لَمَحَ سموه الملف مع ولدي.. فسأل : ما هذا الملف؟ رددتُ بسرعة: لا شيء.. لا شيء!! فأصرَّ سموه، وقد أدرك بحاسته السادسة أن الملف به قضية تتعلَّق بالامارة.. أصرَّ على رؤية الملف الذي سحبته من ولدي.. وقدَّمته لسموه.. وبعد أن قرأ الخطاب الموجَّه له قال:
يا أخ علوي كما يقول المثل: "حُجة، وقضاء حاجة"!!
رفع سموه سماعة الهاتف، وأدار قرص الأرقام متصلاً بمسؤول في الامارة لم أعرف اسمه.. وكل ما سمعته من مكالمته قوله للطرف الآخر: سيأتيك علوي الصافي.. لا يخرج من الامارة اليوم إلا بعد إنهاء "معاملة ابنه" ثم وضع السماعة.. وأَشَّرَ بيده إلى مراسل مكتبه الذي كان واقفاً أمامه، فسلَّمه ملف المعاملة متحدِّثاً معه بصوت خافت لم أسمعه.. وحين طَلَب مني المراسل مرافقته.. وقفتُ مودِّعاً سموه.. مع تقديم عظيم شكري.. وجزيل احترامي وتقديري...
وعندما خرجتُ من مكتب سموه، حرصتُ على المرور بالأمير سطَّآم ، الذي عزَّيته في وفاة أخيه الأمير ماجد يرحمه الله.
وهذا الموقف مع الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير عاصمة مملكة النور والإيمان، وبيت العرب، وصديق العلماء والأدباء والشعراء والصحافيين، ليس موقفاً فريداً.. بل هو نموذج بسيط بالقياس إلى مواقفه الكبيرة مع غيري من الزملاء في الأدب والصحافة، والمواطنين.. كما أسمع، وأقرأ.
+++++++++++++++++++++++++++
(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved