الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th June,2003 العدد : 16

الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

الثقافة والحضارة والتقدم
ما بين خلطٍ للمفاهيم وربطٍ بالتصادم!..
يوسف بن عبدالرحمن الذكير

كثيراً ما تختلط مفاهيم الثقافة والحضارة ومدى ارتباطهما بالتقدم من جهة، وبالتصادم من جهة أخرى، لا في أذهان الكثير من الناس بل وحتى ضمن مفاهيم بعض ممن يعتبرهم البعض من أشهر المفكرين! ففي كتاب (وليس المقال الشهير) صامويل هنتجتون (صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي) على سبيل المثال، نراه يدعي وجود حضارات متعددة في العالم اليوم، أشدها خطراً على ما يسميه الحضارة الغربية هما الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيه!.. وفي ذلك خلط لا يغتفر ما بين مفاهيم الثقافة والحضارة، فالمنطق والواقع والتاريخ كلها يفند ذلك الادعاء، إذ أن الحضارات على مر التاريخ ومهما اكتسبت من أسماء هي حضارة بشرية واحدة، تطورت اعتماداً على ما سبقها من معارف ومنجزات واكتشافات، بدءاً باكتشاف الزراعة في سومر، ومروراً بفنون النحت والعمارة الفرعونية، واختراع الحروف الأبجدية الفينيقية، وتأسيس الفلسفة الاغريقية، واكتشاف البوصلة وصناعة الورق الصينية، وعلوم الفلك الهندية، والجبر والبصريات والطب في العالم الاسلامي، وصولاً لاختراع الطباعة في ألمانيا، وإنتهاء باكتشاف الكهرباء وما تلاها في القرن الأخير من تقدم هائل في علوم الذرة والفضاء والمورثات "الجينوم" للكائنات الحية، بل وحتى الحضارة المعاصرة لا يمكن لبلد منفرد، حتى وإن انفرد كقوة عظمى وحيدة في العالم، الادعاء بحق امتلاكها والدفاع عنها لوحده، فهي نتاج بلدان وأمم عديدة متناثرة ما بين قارات آسيا وأوروبا وأمريكا، إذ لا يمكن انكار مساهمات اليابان في علوم وصناعة الالكترونيات أو تفوقها على بلدان العالم أجمع في تقنية مواصلات القطارات، ولا ما سبق وأن حققه الاتحاد السوفيتي المطل على أوروبا فيما معظم جسده يسترخي في آسيا، من سبق في علوم الفضاء والفيزياء، أو ما حققته دول أوروبية عديدة في تطوير صناعات أو أبحاث طبية كسبق فرنسا على سبيل المثال في اكتشاف تأثير الجراثيم والفيروسات التي كان آخرها سبقها في تحديد فيروس الايدز!.. كما وأن العديد مما حققته أمريكا ذاتها ما كان ليتم لولا استعانتها واجتذابها لعلماء في مختلف التخصصات بدءاً من مخترع الهاتف الاسكتلندي "جراهام بل"، مروراً بعالم الذرة الألماني "البرت إينشتاين" وأخيراً وليس آخراً العالم الكيميائي العربي "أحمد زويل"! ذلك ما يثبت أن الحضارة المعاصرة هي في جوهرها حضارة بشرية واحدة، لا يمكنها التصادم مع ذاتها تلك حقيقة قال بها مفكرون عظام من أمثال أرنولدتوينبي في كتابه "تاريخ البشرية" والباحث المبدع "ويل ديوانت" في مؤلفه الرائع الذي أمضى ما يزيد على العشرين عاماً في تأليف أجزائه الاثنين والأربعين "قصة الحضارة"، فهو أولاً لم يعنونه "قصة الحضارات" وثانيا لم يضمنه كل ما تم من تقدم هائل في القرنين الأخيرين، رغم أنه قد كتبه في القرن العشرين وكأنما أراد بذلك الفصل التام ما بين مفهومي الحضارة والتقدم!!
***
فالتقدم لا يعني بالضرورة التحضر، وليس كل دولة متقدمة هي بالضرورة دولة متحضرة، وإلا فكيف نفسر أن دولة تتقدم على جميع دول العالم في أبحاث الفضاء سواء بانفرادها بارسال مسبار فضائي يسبر أغوار الكون، وريادتها لتقنية المركبات الفضائية المأهولة والأقمار الصناعية، أو بناء المحطات المدارية، فيما هي الأكثر معاناة بين أمم الأرض من تفشي الجريمة وانتشار عصابات الاجرام وقتل الأبرياء في تفجير مبانٍ حكومية أو هوس مرضي بارتكاب سلسلة جرائم، حتى استشرى داء الجريمة إلى المدارس الاعدادية في قتل طلبة لطلبة نتيجة عقد نفسية؟ وكيف نبرر ظاهرة تحلل أخلاقي الى درجة السماح لجمعيات اللواط والسحاق وإقامة علاقات جنسية يحرمها ذات الدين الذي تتعصب له، مما نجم عن زيادة أعداد أبناء الزنا، حتى وصل الى 25 بالمائة من جملة من يولد بها من أطفال بكل ما سينجم عن تلك الظاهرة من عواقب ونتائج إجرامية مستقبلا، فيما تتصدر تلك الدولة، دول العالم أجمع علوم وصناعة وتطوير الحاسوب؟!.. وكيف نتفهم أن تتقدم تلك الدولة جميع الدول في علوم وأبحاث الهندسة الوراثية والتوصل لرسم خريطة المورثات البشرية "الجينوم" بكل امكاناتها الواعدة من ثورة علمية لا تقف عند حد تحسين نوعية وزيادة كمية المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية بل وحتى في التحكم في الصفات الجسدية والسلوكية البشرية، فيما هي أكثر دول العالم معاناة من تفشي المخدرات بين جميع شرائح مجتمعها بلا استثناء؟! وأخيراً ما جرى ويجري من انتهاك لكل الأعراف وخرق لكل القوانين الدولية سواء في قيام أكثر الدول تقدماً في العالم باحتلال بلد عربي بحجج واهية، لم تستطع تقديم برهان واحد على صحتها!.. أو في قيام أكثر الدول تقدماً في الشرق الأوسط بقتل وتشريد شعب بأكمله من خلال تهديم منازله، وتجريف مزارعه، بحجج توراتية مزورة.. فهل يصح بأن تسمى تلك الدول المتقدمة دولاً متحضرة؟! أم أن السبب في كل ما دار ويدور هو أن العقلية المتحكمة في صنع قرارات تلك الدول (المتقدمة) رازحة تحت نير ثقافات متحجرة متعصبة، تؤمن بأنها شعب مختار يتمتع بحق رباني زائف لاستعباد بقية شعوب الأرض، مدعومة بقوة عظمى تهيمن على مقدراتها فئة لا تقل ثقافتها تطرفا وتعصبا، تعتقد بأنها الوحيدة الصانعة والمالكة للحضارة البشرية ومن حقها اجتثاث كل ثقافات وقيم ومعتقدات بقية الأمم، حتى ولو سلكت بذلك طريق ارهاب الدول والشعوب تحت شعار محاربة الارهاب!!.. وذلك ما سيقود الى محاولة فهم معنى الثقافة، ومدى تأثيرها على مسير ومصير الأمم والشعوب، بل وربما تقرير ما سيؤول اليه العالم أجمع!!..
***
إن كنات الثقافة على مستوى الأفراد تعني ما يكتنزه الشخص من معارف ومعلومات، وما يتمتع به من رحابة ذهن وفكر وانفتاح، فالثقافة على صعيد الأمم تعني كل ما يميزها من تراث وعادات وسلوك ومعتقدات، فإن كان للبشرية حضارة واحدة وان كان للتقدم اتجاه تنتهجه كل الأمم دونما تمييز، فللشعوب والأمم ثقافات متميزة ومختلفة الواحدة عن الأخرى سواء في إرثها الحضاري من خلال الاختلافات الواضحة ما بين فنون عمارة المعابد البوذية والمساجد الاسلامية والكنائس القوطية على سبيل المثال أو في اختلاف الازياء ما بين رداء عربي وساري هندي وقبعة مكسيكية وبدلة أوروبية، أو في مآكل مختلفة الاذواق ما بين شعوب تأكل الافاعي والكلاب والفئران، وأخرى تصنع من الضفادع حساء، وثالثة تطبخ الجراد وتشوي الضبان، إلا أن كل تلك الاختلافات ما بين تقاليد وعادات الأمم، ومهما تفاوتت إليها نظرات الاستحسان أو الاستهجان ما بين شعب وآخر، لم تكن سببا في يوم من الايام على مر التاريخ في اثارة النزاعات والصراعات بقدر ما كان التعصب المقيت للمذاهب والمعتقدات الدينية أو الايديولوجيات السياسية والفكرية هي السبب الأعم والأغلب في معظم ما شهدته البشرية عبر تاريخها المدون من صراعات وحروب دموية.
فمنذ أن اجتاح الاسكندر المقدوني معظم بلدان المشرق، واحدى اهدافه المعروفة كانت إلى جانب القضاء على الامبراطورية الفارسية هو هدف نشر الثقافة الهيلينية.. تلاها استيلاء الرومان على كامل البلدان المحيطة بالبحر الابيض المتوسط الى جانب توسعات أخرى وصلت إلى الجزر البريطانية غربا وما بين النهرين شرقا تحت شعار نشر الحضارة الرومانية، أعقبتها حملات صليبية توالت حتى بلغت تسع حملات متتالية، امتدت على مدى ما يقرب من قرنين، وطالت مصر الى جانب معظم بلدان الشام، تحت شعار (تحرير) بيت المقدس من هيمنة الكفار المسلمين!.. أما إذا ما نظرنا إلى العالم الاسلامي، نظرة حياد وموضوعية، فسنجد تاريخه حافلاً بالصراعات الدموية، الناجمة عن تعصب لفكر أو لمذهب منذ أن رفع قميص عثمان (رضي الله عنه) إبان وفي أعقاب الفتنة الكبرى وما تشعب عنها من مذاهب حتى حاضرنا المعاصر، والتي لم تكن في حقيقتها سوى ستاراً وسلماً لتسلم السلطة، بل ان معظم الثورات التي شهدها العالم الاسلامي في وقتنا الحاضر، كانت إما تحت شعارات دينية أو نظريات وإيديولوجيات سياسية، تكفّر أو تخوّن كل من لا يتفق مع معتقداتها أو مبادئها!.. تلك حالة مرت بها الشعوب الأوروبية إبان القرون الوسطى حين استعرت حروب دموية استمرت لعقود ما بين أنصار المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية... بل أن كل الحروب الأوروبية الاستعمارية التي تلتها كانت تحت شعار تمدين الشعوب الاخرى الهمجية، رغم ما اكتنفها من همجية اجتثاث لشعوب وأمم عن بكرة أبيها واغتصاب واستيطان قارات بأكملها!.. ولم تقل الصراعات والحروب بين الشعوب الاوروبية ذاتها دموية ودماراً، حين شهد القرن العشرين أعظم حربين في تاريخ البشرية نتيجة ثقافات متطرفة، احداها نازيةتؤمن بتفوق الجنس الآري على غيره من الاجناس البشرية وحقه في استعبادها، وأخرى فاشية تحلم باعادة احياء أمجاد امبراطورية رومانية، تماماً مثلما يحدث ونرى الآن من كوارث نتيجة إيمان شعب يهودي بأنه شعب مختار يحق له استعباد غيره من الشعوب، وثقافة متطرفة لحكام يحلمون باقامة امبراطورية أمريكية، مما تسبب في تبرعم وتبلور جماعات من الطرف المقابل، لا تقل عنها تطرفا وتعصبا لثقافات تهدر دماً، وتكفر كل من لا يتبع فكرها، فقابلت قتل الابرياء بقتل الابرياء، ولم تتورع عن القيام بعمليات ارهاب حتى في أوطانها!!..
ذلك ما يجعل الحاجة الى نشر ثقافة عالمية جديدة ضرورة قصوى، إذا ما أريد الخروج من دوامات الحروب والقتل والتدمير وتيارات التكفير والتفجير.. ثقافة ترتكز على معطيين.. أولهما احترام ثقافات وأديان ومعتقدات الآخر، وثانيهما الانفتاح على أفكار وعلوم توحد ولا تشطر الشعوب وتعزز الانتماء الى حضارة بشرية واحدة، لا إلى حضارات متعددة تتصف بالشقاق والعداء.. لعل ذلك هو ما دعا المملكة العربية السعودية لانشاء وزارة للثقافة مؤخراً، لابد وأن يكون من أولى مهامها السعي لتحقيق تلك الاهداف باتباع منهج ذي شقين. الأول، هو ترسيخ مفاهيم تدعو لاحترام معتقدات وأديان الآخرين مهما اختلفت عن معتقداتنا، فإن كان ديننا يحرم لحوم الخنزير فللآخرين أديان تحرم لحوم البقر، وكما نرفض أن يسخر منا أحد لكوننا نبجّل ونقبّل حجراً أسود فلا يجب أن نهزأ ممن يقدس نهراً أو صخر مثلما فعلت "طالبان" بأصنام لا تنفع ولا تضر فألبت أمم العالم على المسلمين!..
الشق الثاني هو الانفتاح على فكر وعلوم العصر والخروج من الخندقة الفكرية الأحادية الوجه، فلا يصح نبذ علوم الفضاء لأن المسبار "هابل" لم يكتشف حداً للكون أو سماء، ولا يجب تحريم اعمال العقل والمنطق لمجرد اجتهاد مضى عليه مئات السنين قال "من تمنطق فقد تزنذق"، فالعصر لم يعد يرحم أمة تحرم العمل بالعقل والمنطق!!..
ولكن كل تلك الجهود لن تجدي نفعاً وتؤتي ثماراً إذا ما اقتصر تطبيقها على طرف واحد دون الطرف الآخر فمثلما علينا الانفتاح ومحاربة التعصب والتقوقع، فعلى الطرف الآخر اجتثاث فكر متعصب يؤمن بتفوق شعبه على بقية الشعوب أو بأنه شعب الله المختار، ونبذ شعار متطرف يقول بأن "من ليس معنا فهو عدونا" فلكل شعب تقاليد وقيم وعادات لا بد من احترامها في ظل حضارة بشرية واحدة تسعى للتقدم والمساواة بين كل شعوب الأرض دون تسلط أو صغطيان ليتحقق التعايش والتعاون والسلام.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved