الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th June,2003 العدد : 16

الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

معركة "السيد" من أشهر المعارك الأدبية في تاريخ الأدب الفرنسي
بقلم: د.محمد أبو بكر حميد

شهدت فرنسا في القرن السابع عشر نهضة ادبية عظيمة في كافة مجالات الفنون والآداب وخاصة الفن المسرحي، وظهر فيها ادباء كبار خلدوا للبشرية روائع الاعمال مثل بيير كورنيل Pierre Corneill "16061684م" وجين راسين Jena Racine "16391699م" في التراجيديا وموليير Moliere "16221673م" في الكوميدياء وقد تميزت هذه الفترة بالعودة الى التقاليد الكلاسيكية واستيحاء التراثين الاغريقي والروماني اللذين اصبحا المثالين اللذين يقاس بهما اي ابداع فني او ادبي وسميت هذه الفترة بالكلاسيكية الجديدة Newclassicism. وترتبط هذه المرحلة الزاهرة في تاريخ فرنسا بالفترة التي استطاع فيها الكاردينل راشيليو Cardind Richelieu "1586 1642م" ان يكون القوة المؤثرة خلف العرش وان يولي عناية فائقة بالحياة الثقافية والادبية والفنية، وتأسست في عهده "الاكاديمية الفرنسية" التي تفصل في قضايا الفنون والآداب وترعى القواعد الفنية الكلاسيكية المتعارف عليها.
وهكذا ظل الانتاج الادبي المسرحي في فرنسا يخرج مراعياً التقاليد الفنية التي يعتقد الفرنسيون انهم ورثوها عن الاغريق والرومان وخاصة ارسطو وهوراس، ويأتي في مقدمتها المحافظة على الوحدات الثلاث: الحدث والزمان والمكان،إذ نوعية الحدث محتملة البدء والانتهاء في اطار 24 ساعة ومن حدود مكان واحد والتزام الصرامة في الفصل بين المأساة والملهاة.
وجاءت مسرحية "السيد" La Cid1636 لكورنيل لتتجاوز جزئياً بعض القواعد، ومن الواضح ان المسرحية تحمل الاثر العربي كما يدل على ذلك عنوانها، فقد استقى كورنيل موضوعها من مسرحية تحمل نفس الاسم للكاتب الاسباني قولن دي كاسترو Guillin de Castro ويبدو انها كتبت بعيد رحيل العرب المسلمين من اسبانيا. وفكرة مسرحية كورنيل تدور حول الموضوع التقليدي السائد وهو وقوع الصراع في داخل نفس البطل بين الولاء للحب والولاء للشرف وغالباً ما تنتهي المسرحية حتماً بالانتصار للشرف ولكن مسرحية كورنيل تجاوزت ذلك قليلاً.
تحب الفتاة شيمين ابنة دون قومس، الفتى دودريج، ولسوء الحظ يتعرض والد رودريج لاهانة بالغة من والد شيمين وينشب الصراع داخل نفس البطل رودريج بين الانتصار لشرف والده بقتل والد خطيبته او المحافظة على مشاعر حبيبته على حساب شرفه، واثناء الاعداد للزواج يدعو رودريج خصمه للمبارزة فيقتله، وهنا تجد شيمين نفسها فريسة لصراع جديد يخرج رودريج من الموقف الحرج يقرر القيام بعملية انتحارية فيقود كوكبة من الفرنسيين ويخرج لمحاربة العرب المسلمين الذين قامت لهم دولة كبيرة في الاندلس وهو يعلم انه ميت لا محالة، ثم يعود منتصراً فتدفع شيمين منافسه في خطبتها، لمبارزته ولكن رودريج ينتصر عليه ثم يعرض الامر على الحاكم فيقدره اكبر تقدير ويكافئه بالزواج من شيمين التي تعفو عنه.
وقد أثار عرض هذه المسرحية ضجة كبيرة، اثارها المتمسكون بالتقاليد الفنية الكلاسيكية واستغلها خصوم كورنيه ومنافسيه مثل جين دي ماريه Jean de Mairet الذي ادى افراطه في حملته الظالمة على كورنيه الى خسران سمعته وجمهوره كأديب مسرحي.
وقد ادت المعركة التي اثارتها مسرحية "السيد" الى تدخل ويشيليو وامره للاكاديمية الفرنسية للفصل في امرها وكانت مناقشة الاكاديمية نوعاً من المحاكمة الادبية لكورنيه انتهت بتقديم تقرير طويل كتبه رئيسها جين شابلين Jean Chapelain بعنوان حكم الاكاديمية على مسرحية السيد.
وقد امتدح التقرير الذي كتبه شابليون المواضع التي التزم فيها كورنيه بالقواعد الكلاسيكية وشدد على ما رآه موضع مأخذ وقصور في المسرحية فرغم ان المسرحية قد قسمت الى خمسة فصول وان الاحداث لم تتجاوز 24 ساعة الا انه اخذ على المسرحية ان المؤلف قد حشاها بكم من الاحداث اكثر مما تستوعبه 24 ساعة فلا يعقل ان تحدث المبارزة ويذهب رودريج للقتال ويعود ويتزوج شيمين وكل هذا خلال يوم واحد.
وبهذا فان المسرحية من وجهة نظر الاكاديمية قد تجاوزت حدود المحتمل وغير العادي من الاحداث كما اخذت ايضاً على المؤلف خلطه بين المأساة والملهاة في عمل فني واحد، فالنهاية السعيدة في نظرهم لا تتناسب مع مسرحية مأساوية وبهذا يكون كورنيه قد خرج عن القواعد التي وضعها القدماء وتجاوز حدوده.
وقد حملت الاكاديمية على المؤلف حين جعل دواعي الحب تنتصر على دواعي الشرف بدون تقديم مبررات مقبولة، فمن المخالف للمنطق ان يُقتَل والد الفتاة على يد خطيبها ثم تعفو عنه وتتزوجه في نفس اليوم قبل ان تتدمل جراحها واقترحت الاكاديمية انه سيكون ادعى للقبول لو جعل المؤلف والد الفتاة يموت بسبب آخر غير ضربة سيف خطيبها او ان يتم الكشف في النهاية ان "دون قومس" ليس والدها الحقيقي.
وتعرض تقرير الاكاديمية لما اورده ارسطو في "فن الشعر" حول المعقول Possibility والمحتمل Probablity ذلك لانه ليس كل ما يحدث في الحياة الواقعية يحدث كما يحدث في الفن المسرحي بل ان الامر كما قال ارسطو نفسه "ان كثيراً من الاحداث المحتملة الوقوع تكون اقرب للتصديق في الاعمال الفنية من الاحداث التي وقعت فعلاً " .وقد اوصت الاكاديمية ان على الشاعر ان يفضل المحتمل على المعقول.
وقد اثرت هذه المعركة على نفسية الشاعر المرهف الاحساس، فقد وجد نفسه يحارب وحيداً في ساحة احتشد فيها جيش جرار من انصار القيود الكلاسيكية، واضطر كورنيه ان يستسلم ويضع القلم ويهجر الكتابة المسرحية لعدة سنوات، وحين بدأ الكتابة من جديد سنة 1640م سلك الطريق الذي ارادته الاكاديمية وانصارها.
ومع هذا فقد اجمع النقاد على ان هذه المسرحية كانت نقطة تحول هامة من تاريخ المسرحية الفرنسية في محاولتها اشعال اول تمرد على القيود الكلاسيكية الصارمة، ذلك لان المسرح الانجليزي المجاور لم يلتزم هذه القيود الفنية التي تعسف الفرنسيون في تفسيرها فقد كتب شكسبير ومعاصروه مسرحياتهم في القرن السادس عشر دون التزام بوحدتي المكان والزمان بل كانت الاحداث تستغرق اياما أعواماً وتنتقل بحرية من مكان لآخر مادامت تحافظ على الوحدة الموضوعية للحدث الدرامي وهذا هو ما وصلت اليه التفسيرات الحديثة لما ذكره ارسطو في "فن الشعر" حيث انه لم يؤكد إلا على وحدة الحدث.
ولعلنا نجد في المآخذ التي اخذتها الاكاديمية على كورنيه ادانة للاكاديمية نفسها وكشفاً لتعسفها في تفسير ارسطو فلو لم تلزم الاكاديمية الكاتب المسرحي بهذه القيود الصارمة التي تحد من حركة ابطاله في المكان وتضيق الخناق على خياله في "الزمان" لجاءت مسرحية كورنيه اكثر معقولية واحتمالاً. المهم ان هذه المسرحية كانت رائدةً في عصرها وكانت ارهاصاً بالحركة الرومانسية التي تجاوزت كل القيود والحدود الى ان انتهت بها الى رحاب الواقعية الحديثة التي اصبحت مرآةً للحياة الانسانية تختلط فيها المأساة والملهاة، وقد
أراد هذا الاتجاه شكسبير في معظم اعماله لكن اثره للاسف لم يمتد الى فرنسا التي ظل يطرق ابوابها لمدة قرن كامل فلم يفتح له الا في غضون القرن الثامن عشر!
المصادر
1Dukore, Bernard F. Dramatic Theory and Criticism New York,1974.
2 Lancaster, H.C, AHistory of French Dramatic literature in the 17th century, 5 vlos, Baltimore, 1942.
3 Lockrnt, Lacy, Studies in French classical Tragedy Nashville, 1958.
4 Turnell, Martin. The classical Moment, New York 1948.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved