الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th June,2003 العدد : 16

الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

قصة قصيرة
غربة!
هند بنت سعد
تمنى لو أن طيراً استراح على حاجز نافذته يوما من الأيام ليهمس في أذنه: انتبه! أو ان حلما يحمل نبوءة ما كان سيحدث مر عليه ذات ليلة ليعطيه ولو اشارات مبهمة عما خبأه له القدر. حتما كان سيغير أشياء كثيرة. حتما كان سيفعل أشياء كثيرة. آه لو كان يعلم قبلها بساعات معدودة فقط. لهرع الى أمه يقبل رأسها المتقد شيباً، ولارتمى في صدرها وتمرغ بين ثنيات وعطفات ثوبها القاتم الذي يعبق دوماً بريح العود كجرو صغير جائع.. آهٍ لو علم، لهرول الى زوجته، وأسند كفيها على ركبتيه وتلمس ظاهرهما بحنان وحرارة.. لنظر في عينيها لأول مرة بعمق سحيق ليقول: أنت حبيبتي الوحيدة.. آسف إن أغظتك يوما بمزاحي الثقيل.. صدقيني حديثي عن الزواج بضرة كان فقط للاستمتاع بأنفاسك التي تزفر غضبا وغيرة حينها.. آسف على كل ما سببته لك من ألم. وهاهو ذا يعزف شجنه الحزين.. عزفاً يرجف بروحه الساكنة داخله.. عزفا يثير نشيج ترانيمه هو.. وهو فقط:
آآآه يارب الأرباب.. كيف كان الذهاب للمسجد يثقل كاهلي؟ أيا إلهي كيف ينهار جبروت الانسان الظالم لنفسه هكذا فجأة ويسقط كنملة صغيرة سحيقة.. بلحظة ألم.. ياه كم اشتاق لقناديل المساجد وصوت الأذان وترتيل الإمام!! بي حسرة وجفوة وألم سحيق في صدري وقلبي لن يندمل إلا بالسجود في جوف الليل بين يديك والناس نيام.. ربي ربي خوف ورهبة وفزع ووحشة.. ربي إني غريب بين البشر فاختر لي الأفضل وانر ظلمتي.
ومضى في تمتماته: لو كتبت لي الحياة سأعفي لحيتي وسأحجز مقعداً على أول طائرة متجهة الى مكة.. سأعتكف في بيت الله الحرم و..و
استوقفه مرور طاقم الأطباء بينما كان يردد أمانيه الموءودة في خلجاته. قاسوا حرارته ونبضه وضغطه. سلطوا مصباحاً صغيراً على بؤرتي عينيه. ترددت بينهم ذات الكلمات التي ظل يسمعها من أفواههم منذ أن دخل المشفى بين حين وآخر حينما تعاوده اليقظة: coma.....coma حاول أن ينطق ويعبر ويترجم لهم الألم: أحس بارتخاء في عضلاتي ومفاصلي.. رأسي بثقل الجبال جسدي بارد. لكن شفته لم تقدر حتى على الارتعاش. تفاقمت الرغبة داخله بالصراخ والعويل وود أن يمسك بتلابيب الطبيب ليسأله: دكتور متى أستفيق؟
غيبوبة.. هذه الكلمة التي عندما سمعها لأول مرة منذ شهر ونصف لم يصدق أذنيه وحاول أن يقنع نفسه أنهم يتحدثون عن مريض آخر.. وليس هو!.
احساس فظيع بالملل.. عالم آخر لا يعيش فيه غير روحه السائمة في جسد ممد على لحف قطنية مكبوتة بالأنين ومسكونة بالوجع. حجرة مليئة بالبرودة والجمود.. والبياض.. ذاك اللون الذي استشفه بصره لقوته وسطوعه رغما عن عينيه المقفلتين.
أحس بعد خروجهم وهم يجرون معهم أذيال التبلد بحنين عظيم واشتياق جامح لرؤية الألوان فأخذ يرددها كطفل في روضة مدرسية:
أبيض كثوب أبي.. أسود كعباءة أمي.. أخضر كعلم بلادي.. أزرق كحبر قلمي.. أصفر ك؟؟ك اهتزت أعصابه بشدة فهل سينسيه المرض الألوان والأشكال أيضا؟ أخذ يفكر ويعتصر ذاكرته المنهكة بألم: ما الذي يشبه اللون الأصفر؟
تعرق وارتجف من غير أن يراه أحد ثم استسلم و.. غفا! استيقظ لاحقا وهو لا يدري كم من الوقت قد انقضى، أكانت دقائق أم ساعات أم حتى أياماً؟ شيء واحد يتذكره جيدا وهو ان أحداً لم يزره أو أنهم فعلوا من غير أن يشعر!! ساوره شك أن أهله وأصدقاءه قد ملوا زيارته.. حزن لشكه هذا وأخذ يذكر نفسه بحاجته الماسة لهم ليشعر أنه لم يسكن قبره بعد! أخذ يردد في صدره الذي بدأ الصدأ يحفر أعلى جنباته وزواياه:
صبر جميل.. صبر جميل.. صبر جميل والله المستعان.
غفا ثانية ثم استيقظ حزينا.. تمنى أنها طالت علّ حلما جميلا يراوده حاملا له بعض الوجوه التي أحبها بشغف ويشتاق اليها حد الوله. سبح الله مائة واستغفره مائة، وقرأ آية الكرسي والمعوذات ثلاث. ناجى ربه بكثير من الدعاء المنكسر الذي استغرق منه وقتا طويلا وبالرغم من ذلك كانت ثواني عمره الآني تسير ببطء قاتل. صمت لبرهة ثم عاود محاولاته في نشر الطمأنينة في نفسه أنه ما زال على وجه الأرض وليس باطنها.. فاستنشق شيئا من هواء الحجرةبروح فاحصة وردد بانتصار:
مازلت حياً.. ففي الأسفل هناك روائح من نوع آخر!.. لكن هذا لا يكفي رحماك بي ربي.. لو أن أحداً يدخل الآن، يربت على يدي.. يلمسني!!
تذكر كم يحتاج الى اللمس كحاجته لاستنشاق الهواء وإبرة المغذي. جرته خيوط الذاكرة لأيام طفولته الأولى حينما كان يلعب دوما مع قطط بيت جده الأليفة الصغيرة.. كيف كانت ثمانية وكيف كان يحملها أمام ناظري أمهم الذهبية وهي تفترش صندوق البرتقال بكبرياء ودلال.. فلا ترفض ولا تعارض وكأنما تشتري راحة بالها.. وكأنما حاملهم هو صغير من صغارها.. كانت القطط تستمتع بلمساته الحانية. وكفيلسوف يوناني أخذ يحدث نفسه قائلاً: كل القطط تسعد عندما نربت على رؤوسها أو نتلمس شعرها الأملس. نعم، نعم إنه اللمس.. اللمس!! هو وحده يشعر الكائنات أنها حية!.
تفكر في كلماته ليدخل في دوامة حزن عاصف. كيف أمسى عاجزاً معطل الحواس.. كيف وصل به الحال ليحتاج للمسة حانية من يدي بني البشر.. كحيوان.. كهر خائف.. دمعتان ساخنتان شقتا طريقهما من طرفي عينيه حتى وسادته العريضة. ومع ذلك ظل يشغل لحظاته بكل ما أوتي من قوة كمناضل من أجل البقاء.. ولم يكن له صديق غير الذاكرة وحدها تروح عنه بكل ما تختزل من متناقضات. فمرة يستذكر ترتيل الإمام للقرآن ومرة بعض الأغاني.. مرة مشاهدة مرحة.. ومرات كئيبة، حتى جاءه الفرج أثناء يقظته بزيارة ميمونة.
سيدة ستينية تمشي بوقار وحشمة محكمة حجابها المنسدل الذي لم تشحه عن وجهها حتى وصلت الى أقرب كرسي للسرير. كان وجهها يحمل ملامح دقيقة واشراقة لم تشوهها خطوط الزمن. انحنت عليه قبلت رأسه وأنفه وصدره. أمسكت بيده وأخذت تضغط عليها بشدة وتضمها الى صدرها بكل ما أوتيت من قوة. ثم أرجعتها مكانها ممدة على السرير بجانب جسده المهترىء. كاد قلب عبدالعزيز ينفجر بكل المشاعر: الطمأنينة والفرح والشوق والحزن والألم والخوف.. بالرغم ان صوتها كان يأتيه ضعيفاً وكأنها تكلمه من مكان بعيد إلا أنه كان يضخ الدم في عروقه ويحث كل أعضائه على الاستيقاظ. لمساتها كانت تشق أضلاع صدره وتتلمس روحه وعضلات قلبه المجهدة قبل مسامات جلده.
كانت تنشج بالبكاء وهي ترتل القرآن وتمسح به على سائر جسده بيديها الحانيتين واستمرت في قراءتها الخاشعة عليه حتى انتهى وقت الزيارة. لم تشأ الخروج أبداً لولا تصميم الممرضة المناوبة. اقتربت منه وطبعت على جبينه قبلة أخيرة ثم أمسكت ساعده بدفء عجيب قائلة:
حسبي الله على من كان السبب.. إلا ما يجي يوم ويمسكون هذا المراهق اللي صدمك.. يا بعدي والله بيتكم مظلم من غيرك.. حتى مشاعل أخذت أغراضها وراحت الى بيت أهلها مع أننا نزورها يوميا تقريبا.. بس وش تسوي المسكينة ما عاد تتحمل الجلسة فيه من غيرك.. استأذن في أمان الله بكرة إن شاء الله جايين كلنا.. أنا وإخوانك وأخواتك كلهم.
وهكذا همت بالخروج بعد ان سحبت يدها من فوق ساعده بهدوء وبطء. أصابته حالة هستيرية عندما أدرك انها في طريقها للخروج.. غمره الاحساس بالاحتراق وهو يفكر في كيفية اللحاق بها أو اجبارها على البقاء. كل قطرة من دمه كانت تصرخ: أماه لا تذهبي.. ابقي جانبي. كان يشعر بحماس شديد للحاق بها فعلاً وحاول جاهداً بكل ما أوتي من قوة ورغبة تعتمل في صدره أن يفعل وخاطب عقله بغضب: تباً ما بال جسدي لا يطاوعني؟!.
لم ييأس فحاول ان يحرك أطراف أنامله.. أن يرمش بعينه..أن يرفع حاجبه.. أن يخرج من جوفه شيئا من آهاته الحارقة ولم يفلح.. كل أعضائه تخلت عنه، ولم يبق معه من شيء غير الصمت والوحشة والغربة. سمع صرير الباب فأيقن أنها خرجت. دموعه وحدها لم تخذله في هذه السويعات، فبكى بغزارة من غير همس ولا عبرات. اعتصر قلبه حتى جف وانقض اليأس على روحه فصعدت. أمه كانت عند وعدها له في الغد، فقد أتوا جميعاً معها، إلا أنهم أفرغوا السرير من ساكنه وأسكنوه حفرة في الأرض. في مسكنه الجديد بقيت بعض الأمور على حالها واختلفت على عبدالعزيز رائحة المعقم وأشياء أخرى! .
(انتهت)
+++++++++++++++++++++++++++
authoress_h@hotmail.com
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved