الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

الإبداع السعودي خارج الأمكنة والأزمنة
ثلاثة أجيال.. في ثلاثة أجناس .. نصوص وقراءات
*إعداد - عبدالله السمطي:
حين أكتب قصائدي، فإنني أكتبها لمجرد التنفيس عن أشياء في ذاتي، وهي عبارة عن مواقف وأحداث وقصص عبرت عنها في شكل: (قصيدة).. هكذا تتحدث الشاعرة نوال المجاهد عن رؤيتها للقصيدة.. إنها لا تحمل همّاً أيديولوجياً، أو موقفاص من العالم، أو تتبنى القصيدة - المشروع، فالقصيدة عندها (تنفيس عن أشياء في ذاتي).
الذات هنا هي محور الكتابة الجمالية، ومحور القصيدة الشعرية لديها، وأزعم هنا أن هذا يمثل توجه جيل شعري كامل من الأجيال الشعرية السعودية والعربية بوجه عام.
الذات هي محور القصيدة، وبالتالي فإن الشاعرة أو الشاعر يكتبان عمّا يعرفانه، وعمّا يحسانه فعلاً في هذا العالم.. المعرفة هنا ليست معرفة فكرية أو فلسفية أو حتى جمالية، مجلوبة أو مستدعاة.. المعرفة هنا معرفة شخصية بالحياة، نابعة من الذات ومعبرة ومرتدة إلى الذات تارة أخرى.
وأزعم أيضاً أن هذا التعبير عن الذات، هو التوجه عينه لدى كاتبات وكتّاب القصة القصيرة والرواية في المملكة العربية السعودية من الأجيال الطالعة.
-1-
تتنامى الحركة الإبداعية في المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة بشكل مطرد، بل إن السنوات الأولى من هذا القرن الميلادي الجديد حملت مجموعة كبيرة من الأصوات الإبداعية في مختلف الأجناس الأدبية، خاصة في الشعر، والقصة القصيرة، والرواية.. وهي الفنون الأدبية الرئيسية التي يجيد الكتابة فيها الكتّاب السعوديون، ويكثر فيها الإنتاج الأدبي السعودي كثرة ملحوظة بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرحية والنقد الأدبي.
ولعل التحولات التي شهدها المجتمع السعودي على مستوى الصعد المدنية والسياسية والفكرية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث تم توحيد التعليم في جهة واحدة، وإحداث وزارة للثقافة والإعلام، وإنشاء عدد من مؤسسات المجتمع المدني مثل: مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وجمعية حقوق الإنسان، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة الصحافيين، وهيئة الناشرين، وبروز الأفكار التطويرية والإصلاحية كمنهج ورؤية تعايشه الحياة السعودية اليوم، كل ذلك أفضى إلى نظرات جديدة في الإبداع، خاصة مع تخفيت حدة الرقابة على الصحف وعلى الإبداع، والانفتاح تدريجياً على المتغيرات الدولية، واستهلاك الإنترنت ووسائل الاتصال كعوامل من عوامل الجذب التعبيري الحر في الواقع الراهن.
ربما لم تستشعر هذه الأجيال هذه التحولات، أو على الأقل لم تتمثلها بشكل مباشر، لكن الإحساس بالمناخ العام يوحي أن ثمة تغيراً، وتحولاً صوب الانفتاح والحوار والتعددية، وهو ما انعكس على الساحة الثقافية والإبداعية بمختلف أصواتها وأجيالها.
لقد شهد هذا الجيل الأدبي الجديد الذي أفرزته السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين الميلادي بروز الرواية السعودية بوصفها ظاهرة، وتوالي هذه الإصدارات، وتحقيق نجاحات جيلية تتمثل في روايات: (سقف الكفاية) لمحمد حسن علوان، ورواية: (بنات الرياض) لرجاء الصانع، و(الإرهابي 20) لعبدالله ثابت ولو على مستوى الذيوع والانتشار لا على المستوى الفني.. فمن المهم أن يشعر هذا الجيل بوجوده، وحركيته، وتجريبيته، وتأثيره.
كما شهد ظهور جيل كامل من الشاعرات والشعراء، ومن القاصين والقاصات، يكتب بعفوية وتلقائية ويتحسس خطواته دون وصاية من أية أجيال أخرى، ويمكن أن نحدد بدئياً جملة من النقاط يتسم بها هذا الجيل في هذه الأجناس الأدبية الثلاثة:
أولاً: سرعة النشر، وحركية الكتابة، والاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة في الاطلاع والتواصل المباشر فيما بينهم من جهة، وفيما بين الأدباء من أجيال أخرى من جهة ثانية.
ثانياً: التعامل بمهارة مع الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) واستثمارها في نشر أعمالهم الأدبية وآرائهم الفكرية والنقدية، وتحقيق مناخ أدبي شاب وحيوي عبر المنتديات الأدبية والثقافية، والمساهمة في المجلات الأدبية الورقية والإلكترونية بكثرة، والاطلاع على مختلف التجارب الأدبية المحلية والعربية والدولية أحياناً.. بل إن بعضهم يمتلك موقعاً إلكترونياً خاصاً به مثل محمد حسن علوان، وهيلدا إسماعيل، ورجاء الصانع، وشريف الشهراني.
ثالثاً: حضور المناسبات والمهرجانات الأدبية، وارتياد المنابر الثقافية المختلفة.
رابعاً: التواصل مع الأدباء والنقاد في الداخل والخارج وإرسال أعمالهم وإصداراتهم للاطلاع أو الكتابة النقدية عنها، والتواصل مع الصفحات الأدبية بالصحف.
خامساً: كثرة المطبوعات والإصدارات خارج المملكة، والاتفاق مع دور نشر محددة في بيروت والقاهرة ولندن لنشر أعمالهم، خاصة في دور: الكنوز الأدبية، والانتشار، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، والآداب، ورياض الريس، والساقي، وشرقيات، وفي الداخل تحوز دار المفردات على اهتمام هذا الجيل بالنسبة للنشر الداخلي.
سادساً: الإقدام بجرأة على النشر، دون انتظار نضج التجارب الأدبية أحياناً، خاصة في مجالي الشعر والقصة القصيرة.
هذه بعض النقاط العامة التي يتسم بها هذا الجيل في الأجناس الأدبية الثلاثة التي نقدمها في هذا التحقيق النقدي والثقافي.. ويمكن أن تمثل هذه النقاط خلفية إدراكية لقراءة تجارب هذا الجيل المختلفة.
-2-
سؤال الشعر
كثيرة هي الأصوات الشعرية التي ظهرت في السنوات الست الماضية، بيد أن هذه الأصوات قد لا تتشكل وجهاتها الفنية بشكل متكامل إلا بعد انقضاء مرحلة زمنية، وهي أصوات لا تمثل لديها الأشكال الشعرية الثلاثة: العمودي، التفعيلي، والنثري أية معضلات جمالية، لا ينحازون لشكل ولا يدافعون عن شكل ما دفاعاً مستميتاً كما نرى لدى الأجيال السابقة، فالقصيدة تكتب نفسها في أي شكل، والأمر المهم هو القيمة الفنية، والموهبة الإبداعية للشاعرة أو الشاعر.
ومن هذه الأصوات الشعرية: طلال الطويرقي، وسلطان القحطاني، وعبدالله الوشمي، ويحيى خواجي، وشريف بقنة الشهراني، وعبدالله ثابت، ويحيى صديق حكمي، وزياد آل الشيخ، ونوال المجاهد، وأحمد اللهيب، وأسماء الزهراني، وميادة زعزوع، ومحمد إبراهيم يعقوب، وهيلدا إسماعيل، ومحمد الهويمل وغيرهم من الأصوات الشعرية التي ظهرت أعمالها في السنوات الخمس الماضية، وقد يكون هناك تفاوت كبير في تجاربهم من الناحية الفنية والجمالية، ومن ناحية الرؤية الدلالية، والموقف من الذات والعالم، وقد تكون هناك أصوات أسبق في تجربة الكتابة زمنياً ومرحلياً، إلا أن هناك قواسم فنية ورؤيوية مشتركة فيما بين هذا الجيل، هذا فضلاً عن التوقيت الزمني الذي تجلت فيه تجاربهم وإصداراتهم الشعرية.
لا ينافح هذا الجيل عن أي شكل شعري، فتجاربه الشعرية في الدواوين الصادرة لهم على الأقل - وأنا أتحدث هنا عن مفهوم الجيل في إطاره الزمني لا الفني بالضرورة - جاءت في الأشكال الشعرية الثلاثة: تقول الشاعرة نوال المجاهد: (أنا لا أدرج نفسي في أي مكان، لأنني حقيقة لا أعرف بالضبط الأشكال الحديثة التي صارت في الشعر، أعتقد أنني أكتب ما بين الرومانسية والواقعية) وعن تأثرها بشعراء العربية المعاصرين قالت: أنا متأثرة بالشاعرين: بدر شاكر السياب، وأمل دنقل.. احب شعرهما، كما أنني متأثرة بشعراء آخرين بحكم تخصصي بالأدب في الجامعة.
نوال المجاهد أصدرت ديواناً شعرياً بعنوان: (ادفع الباب) (المفردات، الرياض، 1427هـ - 2006م) وفي قصائد الديوان نلمح أن الشاعرة تركز على بساطة العبارة الشعرية، وعلى قصرها بحيث تفضي إلى المعنى بشكل مباشر، دون تركيب أو تعقيد، وهي تعتمد التعريفات أو التوصيفات الشعرية أكثر من اعتمادها على تخليق الصور المركبة، تقول مثل في قصيدة: (الوهم): (للوهم قوام ممشوق، وعيون عسلية، والوهم رحيق مسكوب، من عين سحرية، والوهم زهور الوقت، وأوقات الأزهار والوهم حنين الصمت، ودقات المزمار).
ومثل هذه الملامح نجدها لدى الشاعرات الأخريات: أسماء الزهراني، هيلدا إسماعيل، ميادة زعزوع، وبحسب الشكل الذي تكتب فيه كل منهن.. فأسماء الزهراني في ديوانها: (انكسارات المفردات، الرياض 1426هـ - 2005م) تقدم تجربة شعرية ناضجة فنياً، وهي تكتب في الشكلين العمودي والتفعيلي، وتميل أيضاً إلى العبارات الشعرية القصيرة مشكلة قدراً من الغنائية على مستوى الدلالة الشعرية وعلى مستوى الإيقاع، لكنها غنائية مشوبة بالأسى، وتصوير الحزن الداخلي الشفيف، والتعبير عن الجراح، والأوهام، والألم، وأسمال الذاكرة، والانكسارات المتتالية.
وتتحدث أسماء الزهراني عن تجربتها الشعرية في هذا الديوان بقولها: بالنسبة لي الشعر يتولد من خلال تجربة صعبة أو معاناة شخصية أو وطنية، هذا هو طريقي..
أما عن اختيار شكل شعري معين للكتابة فيه، فإن هذا الأمر لا يعنيني، لأن القصيدة هي التي تفرض شكلها، قد أبدأ ببيت أو سطر فتأخذني اللغة والقصيدة إلى شكل محدد دون شكل آخر).
وعن طموحها الشعري وسط السياق الشعري العام تقول أسماء الزهراني: (أطمح أن اقدم تجربة شعرية مختلفة، ليس بالضرورة أن أكون متمردة على الأشكال والتجارب، لكن أود كتابة تجربة تعبر عني، بحيث لا أقلد أحداً ولا أتبع نموذجاً جاهزاً، بل أقدم تجربة تنبع من ذاتي وتعبر عنها).
تكتب أسماء الزهراني قصيدتها وفق شروط القصيدة العمودية والتفعيلية في قصائد تعبر عن الألم الذاتي حيال الوجود، لكنها لا تسخر منه أو تقدمه بشكل مفارق، كما نجد عند الشاعرة: (هيلدا إسماعيل) مثلاً، التي تكتب في إطار الشكل النثري وتقدم قدراً من الجمالية الشعرية الناهضة على التكثيف، والمفارقة، والشيئنة، وهيلدا إسماعيل من الشاعرات الناشطات - بتعبير أدبي - في مجال النشر الإلكتروني حيث نشرت معظم قصائدها في موقعها وفي موقع جسد الثقافة، وقد أصدرت ديوانين شعريين هما: (ميلاد بين قوسين) و(أيقونات) (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005م) .
في (أيقونات)، نحن حيال اللغة الشعرية المكثفة، فتوزيع السطور على الصفحة الشعرية ما بين سطرين إلى أربعة أسطر يوحي بهذه الكثافة، التي تدرج في التعبير عن المشاعر والخواطر الذاتية الوجدانية، وإشاعة حالة رومانتيكية في النصوص، ممزوجة أحيانا بحدة المفارقة والسخرية.
وفي ديوانها: (وأتوه في رجل شرقي) (المفردات، الرياض 2006م) تقدم الشاعرة ميادة عمر زعزوع حالة شعرية قد تمتزج فيها الذهنية والأداء النثري أحياناً لا الشعري، لكنها تقدم ديواناً متجانساً من جهة الرؤية الشعرية، على الرغم مما يصيب البنى النصية من حالات من التداعي والإطناب الذهني في تكوين الدلالة الشعرية، وتستثمر الشاعرة آلية السرد الشعري في نصوص كثيرة خاصة في: (كُسرت المزهرية وبقيت وردتي) و(هذيان أول النهار) و(رسالة على قارعة السقوط).
وعن هذا الديوان تقول ميادة زعزوع: (عندما أكتب، فإنني أعبر عن حدث يكون موجوداً داخل القصيدة.. وهناك - بسبب كتابتي النثرية - من صنفوني أنني شاعرة، وهناك من يرفضون ذلك.
أنا أريد أن أقلق القارئ، أريده أن يتساءل: ما هو الموضوع؟ وبالنسبة لقصائدي أحب الاقتباس من الآيات القرآنية، والأشعار القديمة والأمثال، كما أنني أحب التشبيهات.
وبالنسبة للتعبير عن القضايا العامة تقول ميادة: ما جربت أن أكتب عن قضايا معينة، فأنا في فترة صعبة من الناحية الوجدانية، ما أمر به بحكم عمري الزمني أكبر كإنسان من أية قضايا خارجية.. الأولوية الآن لقضاياي الذاتية.
ومن الملاحظ أن ثمة إصدارات كثيرة صدرت لهذا الجيل عن دار المفردات، فهل ثمة تبني من هذه الدار لتجارب هذا الجيل، يقول الناشر الأديب عبدالرحيم الأحمدي صاحب دار المفردات: (هذا هو الاتجاه في الدار في تشجيع الأجيال الجديدة، والأخذ بيدهم والتعاون معهم على إبراز نشاطهم وهم يمثلون مشارب متعددة، على الرغم من انتمائهم لجيل واحد زمنياً.. ونحن هنا في الدار أشبه بورشة إبداعية، حيث لا يقوم الشاعر أو الشاعرة بتقديم عمله للدار ثم ينتظر طبعه، بل نقوم بإجراء مناقشات وتعديلات وقراءة جديدة لكل عمل سواء بالحذف أو بالإضافة وبموافقة المبدع على ذلك، حتى يحقق العمل الإبداعي الحد الأدنى للشروط الفنية والجمالية).
وإذا كانت تجارب هؤلاء الشاعرات تنحو إلى كتابة الذات، دون التفكير في حتمية شكل معين للتعبير الشعري، وتصبو إلى درجة من درجات النضج الفني، فإننا حيال تجارب الشعراء نجد أن التجارب مثيرة، ومكتنزة بالفنية المتميزة.. نحن حيال تجارب ناضجة على المستوى الرؤيوي والجمالي.
وبنظرة طيفية في الإصدارات الشعرية لهؤلاء الشعراء نجد أن ثمة سمات مشتركة لديهم تتمثل في:
أولاً: السعي إلى كتابة شعرية تنطلق من الذات الشاعرة كمبدأ دلالي وجمالي، واعتبار هذه الذات هي المحور الدائري الذي تطلق وتعود إليه الآفاق الشعرية التي تطرحها تجربة الكتابة.
ثانياً: المراوحة بين الأشكال الشعرية الثلاثة، وعدم الانحياز القطعي مع أي شكل، بحيث تفرض التجربة شكلها.
ثالثاً: الميل إلى المزج بين الفنون الأخرى وفن الشعر، خاصة التقنيات القادمة من السينما كالقطع، والمونتاج، والسيناريو، والمتمثلة من الفن التشكيلي كالتوزيع البصري والكولاج، واستثمار فضاء الصفحة الشعرية، وكذلك الاحتفاء بآليات السرد.
رابعاً: تغييب التخاطب، والعلو بضمير الأنا في موجه الخطاب الشعري.
خامساً: التأثر بالتجارب الشعرية العربية خاصة لدى رواد القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، دون التأثر الكبير بالتجارب الشعرية السعودية السابقة.
إن الوعي الشعري الماثل لدى هؤلاء الشعراء بعامة، يتخلق عبر هذه النقاط، بيد أن ذلك التوصيف من قبيل الملامسة الأولية لإصداراتهم الشعرية، التي تحفل بكثير من التمايز بين تجاربهم الشعرية المختلفة، التي تندرج في آفاق، رومانتيكية حيناً، أو واقعية، أو كلاسيكية مجددة، أو سوريالية حيناً آخر.
نحن حيال شعراء ناضجين فنياً، ولذلك فإن مقاربتهم النقدية قد لا يكون مكانها هذا المقام الذي نشير فيه بشكل عام إلى هذه الأصوات، التي كتب عن بعضها بعض المقالات والزوايا الصحفية، لكن تجاربهم من الأهمية بمكان لكي تدرس بعمق، ومنهجية.
في ديوانه: (هكذا أرسم وحدي) (الانتشار، بيروت 2004م) يمزج زياد بن عبدالعزيز آل الشيخ بين اليومي والغنائي، بين الواقعي الراهن وبين التاريخي، وهذا المزج يحقق لديه نوعاً من الدرامية الشعرية المتوفرة..
آل الشيخ، أيضاً يجدد في القصيدة التقليدية، بالكتابة عن الجزئي والهامشي وتوليد صور وأخيلة شعرية جديدة، كذلك من الأمور المهمة لديه انه بواح، وجريء.. وهذا البوح وتلك الجرأة تتجلى في هذه التراكيب والتعبيرات الجديدة التي ينقدها من الحياة اليومية، ومن الهموم الذاتية مكانية أم زمانية.. خاصة في قصائد: (تعليق على ما حدث البارحة) و(زحام) و(رحيل بين قافيتين).
ويواصل الشاعر محمد إبراهيم يعقوب توسيع أفقه الشعري بعد إصدار ديوانه الأول: (رهبة الظل) ليصدر ديوانه الثاني: (تراتيل العزلة) (نادي جازان الأدبي 1426هـ - 2005م) حيث يتجه صوب تمكين السؤال الشعري من إنتاج الدلالة والتخلي عن التقريرية والجمل التوكيدية، ويزاوج يعقوب بين الشكلين العمودي والتفعيلي في قصائده، كما يستثمر بعض القوافي غير المألوفة في كتابة قصائده الكلاسيكية.
هذه المزاوجة بين الشكلين نجدها في ديوان: (أغصان تتلظى) (نادي جازان الأدبي 1424هـ) ليحيى صديق حكمي، وهو ما يزال في بداياته الشعرية التي تركز على ما هو ذاتي غنائي إلى جانب استلهام بعض الرؤى الوطنية، بيد أن الأداء الشعري يحتاج إلى تشكيل رؤية وموقف جديد خاص من العالم.
وتعد دواوين: (حين النوافذ امرأة) و(وقاب حرفين) و(حتى انكسار الماء) و(إذا هزها وجع مريمي) و(تالف يمضغ عصبه) و(مقتطعات الرنين) للشعراء: أحمد اللهيب، وعبدالله الوشمي، ويحيى خواجي، ومحمد الهويمل، وعبدالله ثابت، وشريف بقنة الشهراني على الترتيب، نماذج شعرية حافلة بالدلالات على مستوى التجريب، وعلى مستوى تعدد الأشكال الشعرية، وهي نماذج تحتاج للتأمل النقدي الكثيف الخارج عن انطباعات الكتابة النقدية الصحفية التي تكتفي بالإشارة والعمومية دون الفحص والاختبار والتحكيك المتمعن في مكامن النصوص.
إننا نشير هنا في هذا التحقيق النقدي - إذا صح التعبير - إلى هذه الأصوات من قبيل لفت الانتباه إلى تجاربها، وهذه الأصوات ذات تجارب متميزة ومتمايزة، ومسألة الجيلية هنا، لا تعني الجيل بوصفه مذهباً فنياً أو مدرسة شعرية محددة، لكن ينظر إليها كما أشرت سابقاً من منظور زمني صرف، حيث حملت السنوات الأخيرة هذه الأصوات وغيرها إلى الساحة الثقافية والأدبية بشكل بارز، يحتاج إلى الكثير من المتابعة والدراسة النقدية الجادة.
-3-
القصة القصيرة
في مجال القصة القصيرة ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من القاصات والقاصين الذين أبرزوا جوانب فنية ودلالية مهمة في نطاق القصة القصيرة.. إنهم يكتبون حياتهم اليومية، وهمومهم الذاتية، ويقدمون شخصيات تعبر عنهم هم، شخصيات تستثمر وسائل التقنية الحديثة، تتواصل مع الحياة اليومية بكل طزاجتها وسخونتها، شخصيات غير مؤدلجة أو موظفة فنية لاستلهام حالة رمزية أو موحية بموقف سياسي -مثلاً- أو إسقاط ترميزي على واقع معين.. هي شخصيات من الحياة الراهنة.. شخصيات شبابية وحيوية.
ونستطيع أن نرصد عدداً كبيراً من هذه الأسماء الجديدة، ويكفي أن ننقل مثلا هذه الأصوات التي ضمها كتاب بعنوان: (المغزل) الذي يحوي قصصاً لمن يرتادون موقع جسد الثقافة
(www. jsad.ne)
وهم:(سامية الدروبي، عبدالواحد الأنصاري، صلاح القرشي، يوسف الحربي، عائشة القصير، زهراء الموسى، أحمد الطاهر، مرام الموسى، مشعل العبدلي، خالد الصامطي، أحمد البشري، محمد الحميد، ابتسام المقرن، حنان العوين، أفراح الهندال، عبدالمحسن المرشد، عبدالهادي القرني).
والقصص المنشورة لهم بوجه عام تبدي قدراً كبيراً من الخروج على النسق القصصي المألوف، سواء من ناحية استثمار اللغة أو الكتابة عبر آليات النصوص القصيرة، والاختزال ما أمكن في نقل المشاهد الوصفية، والتركيز على نقل الهواجس الداخلية لشخصيات القصة.
إن هذه الأسماء تنشر بكثافة في مواقع الإنترنت، ولها قدرة على التواصل والكتابة خارج الوصاية الأدبية، إنها تشكلت وفق الجهد الإبداعي الذاتي، وعبر التواصل من خلال الشبكة العنكبوتية بين (أدباء الإنترنت) الذين يتواصلون ويتكاثرون بشكل مدهش ومثير، وكما جاء في مقدمة (المغزل): (إن السياحة المعرفية والسفر عبر القراءات العالمية المتاحة بيسر وسهولة يعتمد على فهم شاعري لتحولات الرقم والضوء والطاقة لصنع لوحة إبداعية تنبض بالحياة... فميزة أدباء الإنترنت في أنهم ينهلون من رأس النبع الإبداعي في مجال رؤية أحلام العقل الجمعي للإنسان، هناك حيث يحلم العالم، فلو نفترض أن العقل الجمعي يحلم فلن تكون أحلامه غير (الإنترنت) بكل ما يحتوي من كوابيس في أغلب الأحيان، فهو الصدى اللا شعوري لوجع الكون، ومن خلال وسائط رمزية لا تعتمد على أبجديات اللغة في أكثر حالاتها حضوراً (ص 10 يكفي مثلاً أن تجد سطوراً سردية في قصة مثل قصة: (الحب وعذابه) لخالد الذييب من مجموعته: (جنط شارع التحلية) (العبيكان، الرياض 2006م) تتحدث عن أدوات الاتصال الراهنة التي لم تكن موجودة منذ عقدين مثلاً يقول: (فقد تعرفت عليها عن طريق (الشات)، وبعد رابع لقاء على (الشات) أضفتها عندي في (الماسنجر) وبعد ثالث يوم على (الماسنجر) أضفتها إلى (جوالي) ص 13 وتستخدم شخصيات القصة أحيانا وسائل الاتصالات الحديثة، كما في القصة نفسها حيث نرى استخدام الشخصية الرئيسية للجوال: (وعندما سمعت رتوصوت رسالة جوالي، رفعت الجوال وأنا كلي (هيا) و(شوق) و(محبة) و(غرام) وجميع ألفاظ الرومانسية التي من الممكن أن تخطر على البال، ضغطت بشكل سريع على زر (القائمة) وبعد ذلك ظهرت كلمة الشاشة المكتوب عليها (رسائل)، وضغطت (اختيار) ثم نزلت إلى الأسفل عند صندوق (الوارد) تحديداً، ثم (اختيار) ومباشرة دون أن أرى اسم المرسل ضغطت (اختيار) وكلي لهفة في معرفة بماذا سترد علي (روعتي) وكلي خيال لنوع الرسالة التي سأقرؤها رداً على رسالتي الشاعرية (ص 28) يقدم خالد الذييب تجارب قصصية، لا تحتفي باللغة السردية المكثفة بل باللغة المبسطة جداً، ذلك لأنه يكتب من واقع الحياة اليومية، ومن الهموم الذاتية التي يعايشها، وتمثل الرياض المكان الأبهى الذي يستلهم منه شخصياته وقصصه، وهي شخصيات شبابية على الأرجح، تتحدث عن هموم الشباب، وطرق تفكيرهم وتصرفاتهم حيال المواقف المختلفة.
وإذا كان عالم المدينة الصاخب هو ما يشكل مجموعة الذييب، فإن عالم القرية هو ما تتكئ عليه سردياً ودلالياً مجموعة: (المتشظي) (نادي أبها الأدبي 1423هـ) لحسن عامر الألمعي، ومجموعة: (الناس) (نادي أبها الأدبي 1426هـ 2005م) للقاص عيسى مشعوف أحمد الألمعي.
وتتحلى قصص حسن الألمعي باستلهام روح المكان، والكشف عن اساطيره وخرافاته الصغيرة بشكل ينحو إلى الرمزية والتكثيف، والتركيز على العالم الداخلي للشخصية، وعلى العكس من ذلك يقدم عيسى مشعوف قصصاً تتسم بالسمات الواقعية التي تعالج تجارب شخصيات قروية بسيطة.
وعن الحياة اليومية، ومآزق الواقع الراهن، وما يتعرض له الإنسان من مواقف وتجارب تعرض القاصة سارة الأزوري سرداتها في مجموعة: (طقس خاص) (الكنوز الأدبية، بيروت 2005م).
إن القصة القصيرة ما زالت تطرح أصواتها، على الرغم من تراجعها إلى المرتبة الثالثة من الاهتمام النقدي بعد الرواية والشعر، وهي ما زالت مكتنزة بالدلالات باعتبارها الصوت الحيوي للمجتمع وتحولاته، الذي من الضروري أن يتم الاهتمام به بشكل كبير وفعال.
ومن القاصات التي برزن مؤخراً هديل الحضيف: (ظلالهم لا تتبعهم) الصادرة عن دار وهج الحياة - الرياض 1425هـ، يقول عنها الكاتب عبدالحفيظ الشمري: (يلمح القارىء للمجموعة أن الكاتبة رسمت بعض تفاصيل الشعر، على هيئة رؤية معبرة ومؤثرات تمثلت في لحظات التنوير في آخر كل نص، لنراه وقد ساقت هذه العبارات على هيئة منظومات شعرية، ترتب ولعها ودهشتها في المشاهد الشعرية المنسجمة مع المقولة السردية، بل نراها وقد أذاعت أسرار هذه الفتنة الرائعة في المزاوجة بين القصة والشعر بوصفهما أهم الفنون التي تحرك في ذات المتلقي نبرة الخطاب الإنساني الذي يتحسس مواطن الجمال والبهاء) (الثقافية العدد 83 - 13 ديسمبر 2004م).
وكذلك هناك: عائشة القصير، وسهام العبودي، وفاطمة الرومي: (عطش امرأة) (نادي الرياض الأدبي 2005م)، وميرا الكعبي ولها (جروح وطن وأناشيد قلم) (نشر خاص) وسعاد فهد السعيد التي أصدرت أربع مجموعات قصصية دفعة واحدة، ذات سمة فنية متماسكة تنهض على ما هو رمزي، مكثف، وعلى الكتابة بلغة مكنوزة شعرياً، ولعل تجربتها الكتابية التي استهلتها بالشعر وكتابة القصيدة النثرية ما حقق لها ميزة اللغة السردية المشعرنة.
أصدرت سعاد السعيد أربع مجموعات هي: (يفرون من رفوف المكتبة) و(ظل الموجة يمتد في الأفق) (الدائرة تكتمل) و(اليسع بن آخاب) (النهار، القاهرة 2003 م)، وفي هذه الكتب الأربعة نحن حيال مبدعة متميزة، بلغتها، وبكثافة نصوصها المحملة بطاقات رمزية وتعبيرية تنهد على مزج الذاتي بالفانتازي، والواقعي بمكامن الوعي المتوتر وذلك كلّه ينسج في لغة شعرية مصولة بالكثافة خاصة في (ظل الموجة يمتد في الأفق) التي هي نصوص أقرب إلى الشعر منها إلى القصة.
-4-
فضاء الرواية
كانت المباغتة الروائية التي أحدثها الكاتب محمد حسن علوان بروايته: (سقف الكفاية) (الفارابي، بيروت 2002م) (كان عمره وقتها 22 عاماً) فعل السحر في هذا الجيل، حيث لقيت الرواية اهتماماً نقدياً بالغاً، وكانت حديث الموسم الثقافي لعام صدورها، حيث كتب عنها مجموعة كبيرة من المقالات والقراءات الصحفية والنقدية.
ولعلوان تجربة شعرية متميزة قبل كتابته الرواية، أثرت بالطبع في إيثاره اللغة السردية الشعرية. في روايته (سقف الكفاية) ثم روايته الثانية: (صوفيا) (الساقي، لندن 2004م) وقد صدرت لعبدالواحد الأنصاري رواية (أسبوع الموت) (المفردات، الرياض 2006م) وهي رواية تسجل الأسبوع الأخير من حياة الأمير عبدالرحمن بن سعود، وقد سبقها الكاتب بإصدار قصص مطولة بعنوان: (الأسطح والسراديب) (المفردات، الرياض 2005م)، وهو ما يعكس حالة الترداد بين الأجناس الأدبية لدى الكاتب، ولدى معظم كتاب هذا الجيل كما سنشير لاحقاً.
ويقول عبدالواحد الأنصاري: (لا يستطيع الإنسان إلا أن يتمنى نتائج جيدة، وهو أقرب إلى النواحي البشرية، وما أرجوه أن يتسم المبدع بالصدق الفني، وتحولات الكاتب إلى شكل أو اتجاه هي تحولات لا إرادية، تنبع من الميل الإبداعي التلقائي، فمثلاً جان جاك روسو صاحب: (الاعترافات) و(العقد الاجتماعي) كان يفكر أن ينتج قاموساً للموسيقى، لكن تجربته جاءت فكرية اجتماعية).
وعن روايته (أسبوع الموت) وهل هي سيرة أم رواية تسجيلية، قال الأنصاري: هذا السؤال أنا نفسي لم أتلخص منه، أنا أميل إلى اعتبارها رواية شبه تسجيلية..
والسؤال بالنسبة إلي محير، وليس فقط لأنها تناولت شخصية واقعية، فرواية ماركيز (الجنرال في متاهته) عن شخصية سيمون بوليفار وعن رؤيته لأبرز الأسماء في جيله قال الأنصاري: (بصراحة أنا غير متابع جيد، لكن إلى الآن لم أجد مبدعاً خارج عن تأثيرات النمط الأدبي الجماعي، إلى الآن لم أجد شخصاً وجد طريقته الفنية الخاصة به).
ومن الروايات الأخرى التي ظهرت لهذا الجيل، رواية: (مزامير من ورق) (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2003م) للكاتبة نداء أبوعلي (أصدرتها وعمرها 18 عاما) وهنا نحن حيال جرأة فنية وتعبيرية لها دلالتها في هذا العمر، وفيها تعبر عن مشاعر ورغبات وقضايا اجتماعية تمس الوعي الداخلي لشخصيات الرواية.
كذلك هناك رواية هاجر المكي (غير.. وغير) (المركز الثقافي العربي، بيروت 2005م) ورواية (ذاكرة بلا وشاح) للكاتبة حسنة بنت عبدالله القرني (المفردات، الرياض 1426هـ 2005م) وهي رواية واقعية تعبر عن أزمة الشخصية في مواجهة متاعب الحياة، وترصد بشكل رمزي حالات أسرية متعددة، وأنماط مجتمعية مختلفة.
كما أصدرت وفاء العمير رواية بعنوان: (في حدة الأشواك) (المفردات، الرياض 1427هـ 2006م) وهي من أحدث الروايات الصادرة وتعبر عن أزمة الواقع المديني، والعلاقات التي تحكم الشخصيات وفق أنماط الواقع وتحولاته.
وتقول وفاء العمير عن روايتها: (هي تجربة بسيطة ركزت فيها على التجارب الشخصية، ربما الحدث تقليدي عن شخصية فتاة تعيش حالة من الاغتراب منغلقة، منعزلة، ولكي تكسر حدة هذه العزلة اتجهت للخيال والتواصل مع الطبيعة وباتت تحكي مع النجوم باعتبارها تعبر عن التلؤلؤ، والتنوع.
ركزت على الجانب النفسي وركزت على السؤال كيف التواصل داخل الأسرة والمجتمع وكيف يتعامل المجتمع مع بناته. وكنت كتبت مجموعة قصصية أولاً، ثم تأخر صدورها وفي أما الرواية التي حازت على قدر كبير من الذيوع والانتشار فهي رواية: (بنات الرياض) (دار الساقي، لندن 2005م) للكاتبة رجاء الصانع، فقد كتب عنها أكثر من 100 مادة صحفية ونقدية ومتابعة إخبارية، وطبع من الرواية أربع طبعات، وهي مثار اختلاف وجدل مضموني ونقدي حتى الآن.
ومن المثير أن معظم هذه الأصوات تكتب في أجناس متعددة، فمعظمهم قد يكتب الشعر إلى جانب الرواية، أو القصة القصيرة إلى جانب الشعر، أو يكتب الشعر والقصة، وهي ملامح ينبغي أخذها بالاعتبار عند دراسة تجارب هذا الجيل وإبداعاته إن هذه الأجيال الثلاثة الشعرية والقصصية والروائية، تتمثل فيها ظواهر ومراحل التطور التقني والاتصالي، وقد أثر هذا على أساليب الكتابة، واختيار اللغة والأسلوب، فضلاً عن تشكيل الرؤية المبدعة التي تحتاج إلى قدر كبير من الإصغاء الداخلي والوقوف على مكامن هذه التجارب وتحديدها تحديداً منهجياً دالاً.. ونأمل أن يكون هذا الملف قد قدم صورة بانورامية حول تجارب هذا الجيل، ورؤاه وتصوراته الإبداعية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved