الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

نداء أبو علي
تثاءبت ميس شاعرة بالملل عقب يوم يتقلب فيه الزمن بدقائقه وساعاته كالمعتاد.. بدلت ثياب وقتها (وبأن) استحالت شفافة تتغلغل في (أعماق) الموجودات لتنغمر معها.. خرجت من مسكنها.. عقب إصلاح هندامها وارتداء ثوب أبيض حريري يعكس أفكاراً سلمية متفائلة تدفعها نحو الأمام.. والاستجمام.
سارت مسدلة الشعر المنسكب على الكتفين.. حافية القدمين.. لتشعر بالحرية وهي تسير تحت ضوء القمر بسحره الصامت.. تشعر بالرمال وصغار الحشائش تغوص تحت قدميها..
ابتسمت وهي تشعر بالقمر يرقبها بنظراته.. ويتبعها بخطواته.. توقفت في منتصف (الطريق) لتتأمله براحة خفية يفضحها التألق في عينينها.. و.. ينطفئ ضوء القمر.. يباغتها بحركته.. لكن تفاجئ برؤية ما وراء القمر..
نجوم صغيرة التمعت فافترشت السماء الداكنة البشرة ببقع فضية ونقوش متناثرة ترسم منظراً جمالياً يبهر الناظر..
رمت بجسدها على الرمال الناعمة.. وأخذت تراقب كل شيء بلهفة تشبه ترقب الطفل الصغير وانتظاره للعبته الجديدة..
وانطفأت أضواء السماء..
وبدأ الكون يظلم تدريجياً مخلفاً وراءه الخوف وعدم الأمان..
شعرت بالحيرة.. بالضياع.. فوسط هذا الظلام كانت وحدها.. تتحسس الطريق تائهة.. بلا جدوى..
لم تملك إلا أن تسير وسط ذلك كله.. جاهلة إلى أين ينتهي بها المسير..
تصطدم بما يعوق طريقها.. قد تكون شجرة فارعة تنتظرها في الظلام لتصد عنها الطريق.. أو صخرة ظهرت من اللاوجود إلى هذا المكان بالذات..
كيف لها أن تعلم في هذا الظلام الدامس..
ما عليها سوى وضع توقعات..
شعرت بالخوف.. فالظلماء تنسج في عقلها أخيلة سوداء..
شعرت بالبرد.. حافية القدمين.. مثلجة اليدين.. تبحث عن الدفء فلا تجد إلا الأرض الموغلة في البرودة.. والوحدة.. والسؤال.
ليته يكون هنا بجوارها.. يهدئ من روعها.. ويسقيها أعذب الكلمات..
ليته يدرك ما تمر به وسط الليل القاسي الظالم فيهرع لينقذها.. ويسارع باحتضانها باعثا الطمأنينة والأمان..
تتوقف.. يجول نظرها أرجاء الكون الصامت المستفز بحياده وأنايته.. تفقد الحساس بالزمان.. بالمكان.. وتسير مغمضة عينيها..
وتسقط.. تسقط في حفرة تلطخ بياض ثوبها بالوحل والطين.. وتوقف جسدها عن الحركة.. وتهمس.. (عشق.. أين أنت؟)
***
جده.. ها هي ذي قدماه تمس تربتها المترفة بملح البحر.. لكن يشتاق إليها.. بصره لا يزال زائغاً مشتتاً يتنقل بين وجوه أبناء وطنه.. مضى وقت طويل منذ أن جاء إلى هنا واحتك بمحيطه التقليدي.. يتساءل بينه وبين نفسه.. هل سيستطيع التأقلم مع كل هذا كما عاش من قبل؟
الجو حار مختنق.. يفتح أول زرّين من قميصه.. يشعر وكأنه دخيل على المجتمع السعودي بارتدائه للقميص والبنطال.. ليس ذلك لأنهم لا يرتدونه.. لكن يتملكه شعور داخلي بالقيام بكل شيء سعودي.. المطار محتشد بأصناف متعددة من البشر.. الفتيات كل منهن ترتدي العباءة والطرحة، والشعر يظهر جزء من مقدمته ومؤخرته يدفع الشباب للافتتان والرغبة في معرفة ما لديهن أكثر فأكثر.. أما أوجههن فمساحيق التجميل تزيدها إغراء.. يضحك وهو يرى الشبان ينظرون بتلهف ورغبة صوب النساء.. لكن أكثرهم لا يمنع نفسه من ملاحقتهن والترجي بأن تنظر إحداهن إليه وتخاطبه ليبدأ التعارف..
يبدو أن وراءه مشواراً طويلاً حتى ينعش ذاكرته من جديد بطريقة مجتمعة وكيفية تعايشه معه.. لكنه متفائل جداً..
يشير إلى سائق أجرة بأن يتوقف.. يخرج من سيارة الأجرة رجل عجوز تغضنت ملامحه.. يذكره بوالده.. يشعر بإحراج كبير وهو يتخيل والده في وجه سائق أجرة.. ماذا لو كان والده في مثل هذه الوظيفة؟ يبتسم.. لا أحد من أبناء بلاده يقبل أن يعمل سائق أجرة.. الكل يطمح إلى أن يعمل منذ أن يتخرج مديراً في شركة مرموقة..
يفتح نافذة السيارة.. الهواء متعفن.. الرطوبة خانقة.. لكنه يشتاق لهذه الرائحة.. ينظر إلى الساعة.. إنها الحادية عشرة مساء والشوارع مكتظة بعشاق الليل. يعطي السائق التعليمات ليصل إلى شقته.. المباني تتحرك أمامه.. تجري.. وسيارة الأجرة ثابتة في مكانها.. يضحك مستخفاً بأفكاره.. يغلق النافذة.. العرق يتصبب غزيراً من جسده.. يبحث عن علبة مناديل يستعملها ليعيد إلى وجهه شيئاً من رونقه تتشرب المناديل عرقه يود لو يبعد عن جسده المناديل التي تحمل تلوثه. يبحث عن أي علبة نفايات.. يجدها.. مترفة بنفايات أزلية..
يتمتم بصوت مسموع:
- أين أرمي النفايات؟
يضحك سائق الأجرة، يقول بلا مبالاة:
- من النافذة، ما دام ذلك مسموحاً هنا، لم لا تنتهز الفرصة؟
يهز كتفيه باستغراب، ويلقي بالمناديل من النافذة يرغب في أن يصل إلى بيته بفارغ الصبر ليختلي هناك بذكرياته.. حتى هذا الغريب ينغص عليه مثالية عودته لوطنه.. هذا سبب من أسباب عدم تبليغه لأي من معارفه بخبر عودته.. الوحيد الذي اتصل به قبل مجيئه بيومين هو صديقه سلمان.. ليس هذا لأنه أقرب صديق له.. بل على العكس.. لأنه (أكثرهم) حيادية وعفوية. تريحه سذاجته وحبه الدائم للحياة..
ينفض أفكاره الثقيلة ليطلب من (السائق) أن يتوقف أمام العمارة الخالدة.. ياه.. ما أجمل العودة لمنزل العزوبية القديم.. لكن بين أبناء ديرته.. يدفع لسائق الأجرة ثمن التوصيل بالإضافة إلى بخشيش بسبب تغضّن ملامحه.. يبتسم سائق الأجرة وعيناه يتخطفهما بريق سعادة خاطفة.. يخرج هو حقيبته.. يتمنى لو يطلب من سائق الأجرة الصعود إلى شقته والمبيت عنده عله يؤخر مواجهته لنفسه وذكرياته لوقت آخر.. لكن لا.. ليتخلص من ذلك بسرعة ليشعر بالراحة..
يصعد الدرج.. يبدأ بعده وكأنه لم يسبق له المجيء إلى هنا.. اثنتان وعشرون درجة حتى يصل إلى الطابق الثالث.. حمداً لله.. لم تنقص ولا درجة.. الحياة لا تزال بخير.. الدور الثالث.. أول شقة على اليمين.. ينظر إلى اللوحة الصغيرة الخشبية منحوت عليها اسمه (مشاري عبدالحميد) آه يا والدي.. لماذا أسميت الشقة باسمي وأنا لم أبحث حتى عن وظيفة أستطيع من خلالها أن أصرف على نفسي؟ يشعر بإحراج كبير كلما تذكر أنه بلغ الخامسة والعشرين ولا يزال معتمداً على والده.. كل هذا ليحصل على درجة الماجستير.. تحسس جيبه.. ها هو ذات المفتاح التاريخي.. يدخل شقته.. كل شيء في مكانه.. إلا قلبه.. انقلبت موازينه فور عودته إلى هنا.. الغبار والأتربة في كل مكان.. ما أجمل ذلك.. أن يشعر بأهمية وجوده على الأقل في تنظيف المكان.. الشموع منتشرة في أرجاء الشقة تنتظر منه إشعالها.. يذكر تلك الأيام الحمراء التي كان وقتها يشعل الشموع.. يذوب ويناجي آسرة قلبه الذهبية.. يرتمي على أكبر أريكة.. يتمدد بتكاسل ويشعل سيجارة.. يحرقها وهو يتخيل روحه تحترق معها.. يصطدم ناظره بالهاتف الذي يرقد على المنضدة بجانبه.. يتذكر كيف كان يحتضنه ليتحدث معها.. (هل من الممكن أن تكون لا تزال تنتظره؟) إنها الساعة الثانية عشرة.. موعهما.. يتنهد بحزن.. يرن الهاتف.. ينتفض بذعر.. (ليتها هي) يخفق قلبه.. يجيب.. يخيب ظنه.. (يا لي من مغفل أحمق..).
- هاي مشاري، حمداً لله على سلامتك.. اشتقت إليك كثيراً!
- مرحباً سلمان، الشعور متبادل يا عزيزي.. أنا بخير، جميل منك أن تتصل بي ويكون صوتك أول صوت يصل إلى مسمعي..
يقهقه سلمان، يقول بصوت جدي لا يتناسب ومرحه الفطري:
- أنت الذي أصررت علي ألا آتي لاستقبالك في المطار، ظننت أن هناك حسناء قادمة لاستقبالك. على فكرة، سيارتك ستكون عندك غداً. سأوقظك في الصباح لنخرج ونبتاع لك الأشياء الضرورية لمعيشتك.. وضعت لك جدولاً مفيداً ما عليك إلا اتباعه..
- أمرك.. أنا بالفعل محتاج إلى من يقودني إلى التأقلم..
- لا عليك.. المهم أن تكون غداً جاهزاً عند الساعة العاشرة صباحاً..
تنتهي المكالمة.. ليعود إلى واقعه المتألم.. لم تكن هي.. لكن لماذا هو يتذكرها بعد كل سنوات البعد تلك؟ ينفض أفكاره يغضب..
التلفاز أمامه.. يكرهه منذ صغره.. لكنه يتركه جالساً في غرفة المعيشة ليجامل أصدقاءه خاصة مناهضي كرة القدم..
يشعر برأسه يدور.. لا يريد أن ينام.. لتحتل هي أفكاره.. كلما اقترب من وطنه.. تذكرها و(سمع) همسها وأنينها المكتوم..
(مشاري..) يسمعها تناديه باسمه.. ينتفض بذعر.. رباه.. لماذا تلاحقه حتى هذا الوقت؟ يغمض عينيه.. سيكون كل شيء على ما يرام..


* من رواية (مزامير من ورق)

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved