الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث
الكواكبي نموذجاً 5 ـ 5

د. عبدالرزاق عيد
لقد تعمدنا في اختيارنا لعلاقة فكر الكواكبي بحقوق الإنسان التركيز على المنهج الذي توسله في التنديد بالاستبداد، وهو المنهج الطبيعي، الأمر الذي يحسم النقاش معرفيا ومنهجيا حول حقيقة علمانية الكواكبي المتوافقة مع مشروع الأصلح الإسلامي الذي كان يتقاطع فيه مع السيد الأفغاني والإمام محمد عبده، بل إن العلمانية تحضر كمنظور تاريخي ثقافي يرى أحداث العالم وفق قوانين العالم ذاته، أي رؤية العالم بعيون البشر عقلانيا، وبذلك فإن علمانية الكواكبي الليبرالية تتجاوز علمانية السطح السياسي الشعاري لتوغل في العمق المعرفي الفلسفي، الذي من شأنه وحده أن يبرز هذا الترابط الداخلي تاريخيا بين القومية والديمقراطية، و(مناهضة الاستبداد) والعلمانية لإنتاج وعي ليبرالي متسق في تطلعه النهضوي التنويري، حيث تتبدى في صيغة (التحييد) وليس (التلحيد): أي العلمانية التي تنقذ الدين من استخدامه كأداة للاستبداد - التحرر من الاستبداد الديني - من خلال حياديته تجاه السياسة، وحيادية السياسة نحو الأديان من خلال موقف يحترم جميع الديانات دون انحيازات طائفية أو مذهبية، أي تحييد الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلا يمكن لمصلح إسلامي كبير كالكواكبي أن يعنى بالعلمانية بوصفها (تلحيدا) للمجتمع أو للدولة، والعلمانية ليست كذلك حتى في الدول الأوروبية العلمانية ذاتها، فالعلمانية لا تكون إلحادية إلا فرديا، شخصيا، وقد أخفقت أن تكون اجتماعية في كل الدول التي أرادتها (تلحيدا) في كل الأحوال، فالكواكبي يشترك مع محمد عبده في علمانية تنفح المنظور التأويلي الاجتهادي للإسلام نفحة مدنية دستورية ديقراطية تجدد رسالته الحضارية والعالمية.
هذا المنظور المعرفي الإصلاحي المدني الدستوري هو الذي سيتيح للكواكبي أن يقدم فهما ديمقراطيا للوحدة المجتمعية على أساس وطني وقومي، بحيث لا تكون وحدة المجتمع جمعا كميا لفرق ومذاهب وطوائف تتنضد متجاورة متفاصلة، بل هو دمج قومي نوعي (أموي) يرتقي بالفتات السديمي لمجتمع (الملة) إلى اندماجية (مجتمع الأمة)، حيث وحدة المواطنة المتكورة على ذات الأمة المنضدة سوسيولوجيا - مدنيا لا مذهبيا- حول وحدة الوطن والأهداف المشتركة، وذلك لا يتأتى إلا عندما يكون المشروع القومي مشروعا ليبراليا مستندا إلى الديمقراطية والعلمانية بوصفهما صنوين لا يفترقان، تماما بالتضاد مع تلازم صنوي (الاستبداد السياسي والديني)، فلا بد في مواجهتهما من ترسيمة نظرية مضادة تؤكد استحالة الديمقراطية بلا علمانية، واستحالة العلمانية بلا ديمقراطية (كسقوط النموذج السوفيتي)، وعلى هذا فإننا قدمنا عددا من الأمثلة على علمانية الكواكبي القائمة على الدعوة إلى التفريق (التحييد) بين السلطات السياسية والدينية، من خلال تركيزنا على تناوله لعلاقة (الاستبداد بالدين).
بل إن العودة إلى الفصل الختامي عن (الاستبداد والتخلص منه) نجده يسوق خمسة وعشرين مبحثا لا تتضمن مجموع بنود إعلان حقوق الإنسان فحسب، من حيث اتصالها بمسألة الثورة القومية الديمقراطية والاستبداد، بل ونجده في تناوله لهذه المباحث يقدم تصورا علمانيا لمجتمع وطني حديث ينتج حقلا دلاليا مجانسا مفاهيميا للمجتمع المدني (الوطن - الشعب - الإنسانية - الجنس - الحرية - الدستور - رأي عام - مصالح عمومية.....)، وبواسطة هذه المفاهيم كان يعالج موضوعاته عن القوانين والقضاء وحفظ الأمن والعمران والترقي في العلوم والمعارف، فهي كلها موضوعات وضعية، مدنية، بشرية، تستند الى قانون الحق الطبيعي، بل هو يضع عنوانا لبحث مستقل تحت عنوان (مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم)، حيث يتساءل : (هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخص واحد، أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان) ولا إتقان إلا بالاختصاص.. ولذلك لا يجوز الجمع منعا لاستفحال السلطة.
ولعل الإحالة إلى التراث وتقشيره من لحائه الفقهي النقلي التقليدي الاتباعي، والاستناد إلى القرآن تأويليا على ضوء أسئلة المرحلة وحاجاتها لتعليل الأخذ بالشرعية الدستورية وروح القوانين، قد فهمت من قبل بعض الباحثين على أن الكواكبي يريد التوفيق بين الشرعية الفقهية والشرعية الدستورية، بالإضافة إلى أن دعوته إلى الخلافة قد فهمت وكأنها دعوة إلى وحدة الأمة على أساس الدين، لكن الكواكبي يؤكد في (أم القرى) على (أن الدين شيء والمُلك شيء آخر)، ولهذا كان يريد توحيد العرب تحت ظل حاكم عربي يملك السلطة التنفيذية، وهو الخديوي عباس، وخليفة للحفاظ على وحدة رمزانية روحية، كانت قد شكلت وتشكل عنصرا حاسما في تشكيل المخيال الثقافي التراثي للأمة، التي كان لا بد لها من استفتاء التراث في كل قضاياها المستجدة، ليس في عصر الكواكبي فحسب، بل وحتى يومنا هذا! وهكذا يمكن القول إن علمانية الكواكبي تنطوي على المستويين اللاييكي بمعنى (العالمانية - الزمانية) حيث شؤون البشر في العالم والزمان هي من صنع البشر وفعلهم في تاريخ العالم وزمانيته، والمستوى الثاني المعرفي بمعنى (العلمية) حيث لا يمكن تصور (عالمانية) العالم إلا باستكناه قوانينه الموضوعية علميا ومنهجيا، وإلا انطلاقا من سيروراته الداخلية وصيروراته الكونية.
وبهذا فإن الكواكبي الذي كان رائدا في صياغة مبادئ إعلان حقوق الإنسان عربيا، فقد كان رائدا في مفهومه للقومية وللمشروع الوحدوي العربي بوصفه مشروعا مناهضا للاستبداد بالضرورة، أي هو مشروع ديمقراطي، وعلماني بالضرورة أي مدني مضاد للطائفي والمذهبي، للانتقال من (مجتمع الملة - الرعية) إلى (مجتمع الأمة - المواطنة) وعلى هذا فقد كان على استعداد لقبول خضوع (الخلافة) الطوعي لحكومات عادلة، حتى ولو كانت هذه الحكومات غير مسلمة غير أنه لا يقبل الخضوع المطلق، ولو لحكومة كحكومة عمر بن الخطاب التي كانت ولا تزال - تعتبر حكومة مثالية.
وبذلك يكون الكواكبي المؤسس لدعوة العلمانية (التحييدية) ليست بوصفها شعارا سياسيا، بل بوصفها منظورا معرفيا وفلسفيا، كما هي الديمقراطية - إذ بهما فقط يمكن - أن يفند ويفكك ويقوض الاستبداد والاستبعاد.
ومن خلال العلمانية منظورا معرفيا وفلسفيا، كان يستلهم مبادئ حقوق الإنسان سياسيا وديقراطية وشرعية دستورية وقانونية، ليؤسس لفهم وتفسير سلسة الإجهاض المطرد لحلم العرب في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان حتى هذا اليوم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved