الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

الثقافة والإيديولوجيا

*قاسم حول:
أخطر ما يواجه الثقافة هو الإيديولوجيا، فارتباط المثقف بإيديولوجيا معيّنة كمن يضع نفسه في سجن اختياري بغيض. فالمثقف الذي يرتبط إيديولوجيا ويسخر كتاباته لهذه الفكرة أو تلك أنما يضع القيد في معصمه ويحبس مخيلته عن رؤية الواقع الذي يزخر بالأحداث والأشخاص والفرح والغضب والحب والكراهية وكل ما تزدحم به الحياة والكون والتأريخ من مادة للفكر وللفن.
الأنظمة الشمولية والأنظمة الدكتاتورية وضعت هذا الشرط كصفة جمالية من مواصفات الفن. فجاء في مواصفات الفن التي كتبها منظرو الفكر الشمولي (إن الفن يجب أن يعبر عن إيديولوجيا معيّنة وأن يكون مستوفيا للشروط الموضوعية لقيم الجمال) وهذان الشرطان متضادان في حقيقتهما، فالتعبير عن الإيديولوجيا لا يوفر استيفاء العمل الإبداعي للشروط الموضوعية لقيم الجمال التي من أولوياتها حرية التعبير التي بدونها يصعب استيفاء الشروط الموضوعية، فأسر الإيديولوجيا هو نقيض الجمال لأنه يسد الأفق أمام رؤية التأثر والتأثير بالعالم الواسع والواقع والتأريخ والغد الآتي. أسر الإيديولوجيا يفترض مسبقا وجود أعدائها ومناقضيها ويصبح التعبير عنهم سلبيا بشكل مطلق وهو موقف لا موضوعي بالضرورة. ولذلك نرى المثقفين عبر التأريخ وفي الحاضر بشكل واضح ينتفضون ضد القسرية التي تفرض عليهم والشروط التي تفرضها مؤسسات الثقافة الخاضعة للإيديولوجيا أيا كانت تلك الإيديولوجيا. وكثيراً ما سُجن المثقفون أو فرّوا إلى بقاع الأرض وفضّلوا الغربة والمنفى على الوطن وماتوا في منافيهم ودفنوا في أرحام أراض ليست أراضيهم، وحُرموا من نعمة العيش بين أهليهم والكتابة عنهم والتعبير عنهم بشتى أدوات التعبير الثقافية.
قد تتعدى فكرة ارتباط المثقف بالفكر الشمولي أو التعبير في إبداعه عن إيديولوجيا معينة، قد تتعدى فكرة الإبداع غير الأمين وغير الجميل إلى ما هو أخطر.
مخرجان سينمائيان من مصر كرّسا فنهما لخدمة الدكتاتور العراقي والإيديولوجيا الشمولية التي كان أدلجها الدكتاتور وحزبه الحاكم. الأول أخرج فيلما روائيا طويلا قدمت له ميزانية قدرها اثنان وثلاثين مليونا من الدولارات، مهد هذا الفيلم الناس نفسيا لحرب مدمرة دامت ثماني سنوات راح ضحيتها ما يقرب من نصف مليون شاب عراقي ومثلهم جرحى ومعوقون ومثل هذا العدد من الطرف الآخر للحرب. المخرج الثاني أخرج فيلما مباشرا عن شخصية الدكتاتور، كرّس فيه عظمة الجنون لدى شخص الدكتاتور ما زاده زهوا بنفسه وجنونه وسلوكه المدمر للحياة الإنسانية.
إن شارلي شابلن الذي سفه شخصية الدكتاتور وسخر منها قدم للجنس البشري هدية لن تُنسى أن الدكتاتور هو نقيض الخير ونقيض الفرح ونقيض المحبة، هو شخص معتم لا يصلح للمعادلة الإنسانية، بعكس الفيلم عن الدكتاتور العراقي الذي لم يعرض سوى جوانب قدمت مضاءة عن أحداث لم تكن سوى ظلام في تأريخ العراق والإنسانية. والأيديولوجيا يسقط بها المثقف أحيانا بسبب قناعات لم يحاورها وعيا مع ذاته وأحيانا يقوده الموقف الانتهازي لتكريس قدرته الإبداعية لصالح إيديولوجيا معينة دون أن يحسب حسابات المخاطر التي قد تقود إلى الإسهام في الكوارث الإنسانية والموت. ويلاحظ أن سقوط العديد من المثقفين العرب في هذا المطب أصبح ظاهرة في الوقت الحاضر، فيما كانت استثناء وكان معيبا أن يكرس المثقف أدبه أو فنه لخدمة شخص أو إيديولوجيا وكثيراً ما مات مبدعون جوعاً وبقوا أثرياء بإبداعهم. وللأسف فإن ظاهرة المبدع الحر أصبحت هي الاستثناء في هذا الزمن الصعب.
ولو أردنا قراءة الأسباب والدوافع التي أدت ولا تزال تؤدي إلى أن تتهاوى نجوم لامعة وتتلاشى لوجدنا قوة الإغراء في الهبات التي يقدمها حكام دكتاتوريون استخدموا ثروات شعوبهم لتجميل صورتهم والتشبث بمواقعهم التي أتوا إليها قسرا. يلعب الإعلام، وتلعب الميديا دورا في سقوط المثقف المعاصر، فإغراءات الصورة والضوء يقودان المثقف العربي اليوم نحو هذه البقع الضوئية حيث برزت ظاهرة النجوم بدلا من ظاهرة الإبداع. وهذا الإعلام يتمثل أكثر ما يتمثل بالفضائيات وبرامجها الثقافية التي تستطيع أن ترفع من رصيد المثقف ماليا وجماهيريا وتطيح بأسماء قد تكون عبقرية في قدرتها الإبداعية. هذه الفضائيات أصبحت مؤسسات إيديولوجية هي الأخرى وصار لها ولاء ولها وسطاء بين صاحب المؤسسة والمثقفين وعموم المنتجين. العلاقة معها صارت تشبه العلاقة بين المثقف والسلطة. فسلطة الإعلام صارت تفوق سلطة الدولة وهناك فضائيات أكبر من بلدانها، وصارت الفضائيات تطرح إيديولوجيا إعلامية وثقافية وسياسية واقتصادية. المثقفون الذين كانوا يرفضون السلطة والعمل لها ثقافيا صاروا يخضعون لسلطة الإعلام ورؤية الإعلام للواقع (ويرتبون) نتاجهم وفق هوى الفضائيات وإيديولوجيتها السياسية. الواقع الحاضر في منطقة الشرق الأوسط واقع ملتهب، والمثقف قبل غيره مطالب بموقف ليس بالضرورة أن ينعكس على إبداعه بل لا بد له من موقف ولا بد من قراءة للواقع تنعكس على أداته التعبيرية. الذي يحصل أن المثقف سقط، والحديث هنا في العام وليس في الاستثناء.
فهل ما يقال اليوم بأن العلم أهم من الأدب هو قول فيه رؤية تشاؤمية للثقافة؟! الحقيقة لا.. ليس في هذا القول أية رؤية تشاؤمية لأن الواقع البيئي والصحي والفقر قد تفاقم في المنطقة بسبب الحروب والأسلحة وجنون النظم الشمولية، وأصبح الأدب والثقافة غير قادرين على التعبير عن هذا الواقع ولاسيما في سقوط المثقف في مطب الإيديولوجيا!
فمتى يعود المثقف إلى رحم الوطن ليعيش في دفئه ويكسر مقولة العلم أهم من الأدب ليصبح كلاهما قيمة لا يمكن الاستغناء عنها ولا تجوز المفاضلة بينهما.. على الإطلاق.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved