الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

اعترافات العلماء في سيرهم الذاتية
الشيخ الطنطاوي نموذجاً «3»

*أحمد علي آل مريع:
*اعترافات لافتة
ومن الاعترافات اللافتة التي تتصل بجانب مختلف من حياته، وصفه لحالته النَّفْسية حين رزق مولودته الأولى (عنان) وكان ينتظر أن يكون بكره ذكراً:
(لقد كنت أتمنى أن يكون بكري ذكراً، وقد أعددت له أحلى الأسماء، ما خطر على بالي أن تكونَ أنثى!!
يقولون في أوروبّا: حك جلد الروسي يظهر لك من تحته التتري، ونحن مهما صنعنا فإن فينا بقية من جاهليتنا الأولى، أخفاها الإسلام، ولكن تظهر طرفاً منها مصائب الحياة. وكانوا في الجاهلية وأنا لم أبلغ أن أدسَّ بنتي في التراب، ولكني أخفيتُ وجهي من الناس وكأنني أحدثتُ حدثاً أو اجترحت ذنباً وسميتها (عنان). واحتفل بها الأصدقاء والإخوان، ولمّا بلغ عمرها أربعين يوماً أقنعني صديقي وأستاذي القديم حسني كنعان بأن احتفل بها. وكان الموسيقيون جميعاً أصدقاءه وإخوانه، فاجتمع في دارنا الأصحاب والأقرباء، ورجال (التخت العربي) وعلى رأسهم علي الكري أبو عزّة، الذي كان يحفظ كل أغنية لقدماء المغنين في مصر وفي حلب، وكل موشحة عرفها الناس... وجاوزت سنه الثمانين وصوته عذب طري رحمه اللَّه، وتوفيق الصباغ... الذي جاء بالبدعة التي لا نزال نسمعها من بعض الإذاعات العربية - وهي أداء نغمة الأَذان على القيثارة (الكمنجة). وموسيقي تركي عجوز اسمه (تحسين بك) ينفخ في الناي، يستمر الصوت خارجاً منها عشر دقائق، لا ينقطع ولا يتوقف، لأنه يتنفس من غير أن يقطع نغمته، وهذه براعة لم أرها في غيره، وفؤاد محفوظ أستاذ العُود.
وأنا أرى الآن هذه الحفلة حماقة من حماقات الصبا، ندمتُ عليها ولا أنوي أن أعود يوماً إلى مثلها. وولدتْ بعدها بسنتين بنان -اللهم ارحمها-... لم أتألم لأنها جاءت بنتاً كما تألمتُ للبنت الأولى، لأني رجعت إلى عقلي - وذكرتُ بشارة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن ربى ثلاث بنات أو أخوات، أو بنتين أو أختين فأحسن تربيتهما، وأنا قد ربَّيت أختين وخمس بنات، وأسأل اللَّه بكرمه أن يكون لي نصيب من هذه البشارة. وصرت من بعد أتوقّع البنات لأني أيقنت أن اللَّه جعلني من الصنف الأول. أتدرون ما الصنف الأول؟ ان للموظفين تصنيفاً، ومراتب ودرجات، فلا يملك موظف أن يعلو فوق درجته، أو أن يصعد درجة فوق درجته، وكذلك جعل اللَّه الناس أصنافاً فالصنف الأول من رزق البنات، والثاني من رزق البنين، والثالث من رزق بنين وبنات، والرابع من كان عقيماً فليرض كُلٌّ بما قُسِمَ له، فاللَّه أن أعطى غيرك في هذا الباب أكثر مما أعطاك، فإنه يدَّخر لك العوض من باب آخر، ومن لم يجد العوض في الدنيا وجده في الآخرة، والآخرة هي الأبقى).
والحقيقة أنه ليس غريباً أن يخطئ الإنسان، فالإنسان معرض للخطأ والغلط وخير من يخطئ الذي يبادر بالتوبة، لأن فيها عودة إلى الاعتدال والتوازن الذي هو جوهر الصواب. ولكنّه يعجب كيف يصدر مثل هذا الانحراف عن الجادّة، وهي هنا التسليم بالقضاء والقدّر والرضا بما قسمه اللَّه، من عالم وفقيه عارفٍ بالنصوص الشرعية مثل الشيخ علي الطنطاوي؟! ولكنه الضعف الإنساني الذي لا ينجو منه بشر، ولم يلبث الطنطاوي أن عاد إلى عقيدته وإيمانه فوزن به سلوكه ومشاعره، ورضي بما قسمه اللَّه له بل رجا به كريم الثواب وجزيل الأجر لما ثبت من النصوص في فضل تربية (الأُنثى).
وقد جاء الاعتراف هنا -كما هو أغلب نصوص الاعترافات في الذكريات- عرضاً أي ليس مقصوداً لذاته، فقد جاء عند الحديث عن ابنته الشهيدة بنان، وهذا من شأنه أن يخفف على الكاتب من الإحساس بثقل الاعتراف وصعوبته، ولكنّه مع ذلك يظل بحاجة إلى شجاعة وتجرد. وكالعادة حاول أن يخرج به عن حدود العجز الفردي أو الهنة الشخصية إلى سياق اجتماعي وإنساني أرحب، فربط تصرفه الخاطئ بقاعدة أوسع من ذاته الخاصة، وهي الطبيعة العربية التي ينتمي إليها بحكم الوراثة، ثم أخذ في مناصحة القارئ ووعظه، وبيان صورة الحدث بياناً قريباً مألوفاً ومقبولاً. ولهذا يرى الباحث أن الاعتراف عند الطنطاوي ذو طبيعة خاصة تهدف إلى المصلحة، وليس إلى تعرية الذّات دون قيمٍ أو دروسٍ مستفادة تسوّغ ذلك، هذا بالإضافة إلى أن (الاعتراف) مما يقوي شعور الإنسان بنفسه ويوقفه على خباياها وزواياها وهناتها فلا يطمئن إليها ولا يغتر بها، وإنما يسعى إلى تهذيبها والرقيّ بها وهو هدف من أهداف الكاتب.
وقضية أخرى، هي: تداخل نصوص الاعتراف في المعرض الواحد، فمثلاً يتضمن الاعتراف السابق اعترافاً عرضيّاً آخر داخل بنيته، وهي إقامته لاحتفال غنائي في منزله، ودعوته لعدد من الموسيقيين تعبيراً عن فرحه بطفلته وأسفه على ما بدر منه.
وفي جانب الاستماع للمغنين والغناء تكثر النصوص التي يمكن أن أسميها: نصوصاً اعترافيّة، لأن الناس لم يعتادوا ممن يتصدر للفتيا، وينتمي إلى العلم الشرعي أن يجاهر بذلك فقد كان الطنطاوي يتحدث عنه بكل حريّة فيذكر سماعه للأغاني، وربّما أورد أسماءها أو مقاطع منها أحياناً. وقد وردت أسماء عدد من المغنين والمغنيات والملحنين والشعراء الغنائيين في أكثر من موضع من الذكريات. وتحدث عن مصادر الغناء العربي وأدواره والسلم الموسيقي، والعلاقة بين الموسيقى والوجدان، ويصف في حلقة كاملة مجلساً من مجالس لهوه وطربه في جرأة ووضوح دون تحرج أو خشية من الناس الذين يقرؤون ما يكتب. ويجب علينا ونحن نقرأ تلك النصوص ألا نغفل عن مسألة مهمّة هي أن للطنطاوي موقفاً فقهيّاً واضحاً من الغناء().
واعترف بأنه دخل إلى المسرح والسينما أكثر من مرّه وتابع عروضهما حين كان يكتب عند (يوسف العيسى) في صحيفة (ألف باء) على الرغم من أنه يرى السينما (كالسم المحلول في كأس الشراب اللذيذ، لا يكاد يذوقه حتى يسيغه، ثم يألفه فيعتاده، فيقضي عليه).
ويوضح خلال ما يسوقه من الاعتراف أنه لم يكن ناقداً فنياً محترفاً، ولا خالط أهل الفن ولا عاشرهم، وإنما تزود بأسس التمثيل والنقد الفني مما يشاهده من مسرحيات وعروض سينمائية. وقد بلغ من إعجابه بمسرحية يوسف وهبي أن قام بعد إرخاء الستار ليلقي خطبة على الناس في الإشادة بها ووصف قوتها، ولما فرغ من تعليقه انحنى له الممثلون شاكرين، وضجت الدار بالتصفيق، وكانت تلك - كما يقول رحمه الله - حماقة ونزوة شباب يخجل من ذكرها وإن ذكرها. والاستطراد قد أعان على المضي في بوحه ليعترف بحقائق مهمّة يصعب على مَنْ مثله ومَنْ في مكانته أن يبوح بها، لولا أنه قد وعدّ بأن يقول الحق ما استطاع، واحتاط لنفسه ببيان موقفه الأخير منها وأنها كانت حماقة منه، ونزوة شباب يخجل من ذكرها وإنْ ذكرها..
ونقف على نص اعترافي جميل بهذا الصدد اندفع الكاتب في تسجيله حمداً للَّه وشكراً على أن اختار له من الخير والتوفيق خيراً مما اختاره هو لنفسه. وما تشاؤون إلا أن يشاء اللَّه، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. يقول الطنطاوي:
(... أرادوا أن يؤلفوا فرقة للتمثيل، فجاؤونا بشاب له اسم غريب لا أزال أحفظه هو (فتوح نشاطي) أعدّ اختبارات جعل يختبر بها الطلاب، ليرى من يحسن منهم الإلقاء، ومن يصلح منهم للتمثيل، فلمّا وصل الدور إليّ، دُهشَ ودُهشَ الطلاب جميعاً، والتفتوا إلى بعد أن كانوا لا يحسون بوجودي، وصرت المقدم عنده وعندهم، وصار هذا (الجدع الشامي) مضرب المثل في إجادة الإلقاء، والمقدرة على التمثيل، ولم يعلموا أني كنتُ (أستاذاً) في دمشق لهذا الفن، قبل إن أكون (طالباً) مبتدئاً فيه في مصر.
ما أعجب الإنسان!
ما أعجب حياة الإنسان!
لقد سألوني عشرين مرّة في درس الإنشاء: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فكتبت: أريد أن أكون طبيباً، وأن أكون محامياً، وأن أكون... وأن أكون، فما كان شيء مما أردت أن أكونه، ولكن كان ما أراد اللَّه أن أكون... الإنسان مثل الزورق في البحر، يسيِّره راكبه ويحدد وجهته، ويُعيِّن غايته، ولكن قد تأتي موجة عالية، أو ريح عاتية، فتوجهه وجهة لا يريدها، إلى غاية لا يقصدها!! في يدي الآن، ورقة مصفرّة من القدم مكتوب فيها: المملكة المصرية، دار العلوم العليا، نادي التمثيل والموسيقى، نمرة مسلسل (70). وصل من حضرة العضو محمد علي الطنطاوي مبلغ 10 فقط قروش صاغ قيمة اشتراكه عن شهر أكتوبر سنة 1929م تحريراً في 15 أكتوبر سنة 1929م. الخاتم الرسمي، أمين الصندوق: محمد علي الضبع.
علي الطنطاوي ممثل أو موسيقي!! وتصورت ماذا تكون خاتمة القصة التي بدأت بهذا (الفصل) لو هي اكتملت فصولاً. إلى أين كان يصل بي هذا الطريق الذي وضعتُ رجلي فيه أوله يوم صرت عضواً في نادي التمثيل والموسيقى لو أني تابعت السير فيه؟ كنتُ أبداً فأمثل في المدرسة، ثم أشارك في رواية على المسرح، ثم أدخل فرقة من الفرق، ثم يسجل اسمي في القائمة التي تبدأ بجورج أبيض لتنتهي بإسماعيل ياسين..... ولم يكن يحول بيني وبين هذه النهاية شيء، فالاستعداد له في نفسي كبير، والرغبة فيه قويّة، ولكن اللَّه صرفني عنه. أصبحتُ يوماً فإذا خاطر قوي لم أملك له دفعاً يدفعني إلى ترك دار العلوم، ونادي التمثيل فيها، والعودة إلى دمشق، وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلت زورقي، إلى ما هو خير لي، فاللهم لك الحمد).
أية عاطفة يثيرها هذا النص الاعترافي السابق؟!! هل يثير فينا عواطف دونية كما تثيره بعض نصوص الاعترافات الماجنة؟! هل يعطينا صورة مشوّهة عن الإنسان في مباذله ونزواته؟! أم أنه يأخذ بأيدينا إلى مدارج العواطف الخيّرة والإرادة البانية؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved