الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

ورحل الساخران.. «2»
الماغوط.. بين (العبثية وسخرنة الواقع)!
*سهام القحطاني:
(وداعاً أيتها الصفحات أيها الليل/ أيتها الشبابيكُ الارجوانية/ انصبوا مشنقتي عالية عند الغروب/ عندما يكون قلبي هادئاً كالحمامة/ جميلاً كوردةٍ زرقاء على رابية)
....................................... الماغوط
عندما نتأمل محمد الماغوط الإنسان والمبدع سنجد أنهما يسكنان داخل كائن واضح وبسيط، والوضوح والبساطة بدورهما عندما يمتزجان بالتمرد والسخرية والحزن، ينتجان نوعاً من الفلسفة التي تشبه تراب الأرض ولون الشجر ورائحة القهوة المحليّة، قريبة من الوعي الشعبوي ومن روحه الثقافية ومن ذائقة الحس الوجداني العام، والذي تعينه على فتح قلبه وعقله بهدوء ليتشمسا بالدفء وينفضا عنهما جراثيم العتمة وقذارة القمع، إنها فلسفة بسيطة لكنها عميقة، وواضحة لكنها متشابكة الرؤى، وبذا فالماغوط يُخرج الفلسفة من أثواب التنظير ويدفعها لمشاركة الواقع والاندماج مع ذلك الواقع في زي المواطن العربي، الذي (يحبه ولا يتاجر به)، وهذا ملمح مهم من ملامح فلسفة الواقع في شعر الماغوط، أقصد دوام استحضار العربي في زي المواطنة الشعبية في شعره، لا زي المثقف المنظِّر أو السياسي المتاجر ببضاعة النضال، أو زي القضية الستار الذي يخفي تحته (الحشرات البشرية) بتعبيره الساخر، لم يكن للماغوط قضية ايديولوجية يتسول بها، بل لم يكن يعترف بمقررات القضايا ومناهجها ولذلك لم يهتم بالنتيجة المادية النصر والهزيمة كأثرين في أفعال التحوّل والتغيير في غياب الفواعل الاجتماعية، ليس لأنه مع القضايا الخاسرة فقط بل كما قال في آخر لقاء له (القضية لا تكمن عندي في النصر أو الهزيمة، فأنا لا أجيد شيئاً سوى الكتابة، أما نتائج المعركة فلست أهتم لها.. لست رجل خطط، ولا اعرف كيف أخطط لشيء ولذلك كنت أفشل عسكرياً)، وهذه حقيقة فشعر الماغوط لا يتكأ على الرهانات والتغييرات، لأنه لا يؤمن بالثورة ولا التغيير لا يؤمن إلا بالشعر (ولا يهمّني أن أغيّر العالم. ولم أحاول أن انخرط في أي حركة من أجل تغيير العالم. الكلمة هي الأهم. أنا لا أؤمن بالثورة التي تريق الدم. ولا بالرصاص. أنا شاعر وأكره الدم) الشعر هو الايديولوجية الوحيدة التي يؤمن بها الماغوط، لأن الشعر عنده غير قابل للفناء، يقول في البدوي أحمر (كل ما هو وراء الأبواب المغلقة/ وتحت السماء الغائمة/ الزهور، الطيور، الصخور، الشعوب/ هو إلى الفناء/ ما عدا الشعر) (ودائماً عندي كلمات جديدة في الحب والوطن والحرية وكل شيء) وهكذا تتحرك عقائده وفق ما تمليه تلك الإيديولوجية والشعر عنده عقيدة بلا عقيدة، وإنسانية بلا قوانين، فالقانون عند الماغوط همّج البشرية وشرّع لها الطغيان والفجور والظلم والاضطهاد، ولذا فحضارة الإنسان تنبثق من سلوكه غير المشرّع بأشكال تسحبه لأوهام الاعتقاد أنه موجود، والحقيقة أن الفراغ الممتلئ بالضوء ليس دليلاً على الحياة! (لقد أعطونا الساعات وأخذوا الزمن/ أعطونا الأحذية واخذوا الطرقات/ أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية/ أعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب/ أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد/ أعطونا الحراس والأقفال وأخذوا الأمان/ أعطونا الثوار وأخذوا الثورة) هكذا يفهم الماغوط حضارة القانون وهم الفراغ الممتلئ بالضوء، وهو كمشروع في ذاته تعاليم مختلفة ودين مختلف، فهو (إله إغريقي) كما وصفه يوسف الخال، والنقطة الثانية في هذا الاتجاه، أن الماغوط كان يمارس بطريقة طبيعية فعل التأدلج يقول (لم يبق من أجراس الثورة سوى الصدى/ ولا من جواد الشعر سوى اللجام/ ولا من طريق الحرية سوى الحواجز الطيارة والثابتة.../ نعم لقد دخلنا القرن الحادي والعشرين/ ولكن كما تدخل الذبابة غرفة الملك) (ترك لنا أجدادنا: وردة/ ونحن نترك لأحفادنا/ الوحل.../ في كل شيء/وعلى كل شيء) (لأن شبح بلادي الصحراوي/ لا يسمح لي بكتابة أي شيء/ سوى الرقى والتعاويذ والتمائم/ على بيضة مسلوقة/ لعلاج نكاف الأطفال أو سعالهم/ مثل أي شيخ أميّ في أقاصي الريف البعيد.)، التأدلج هنا ليس من خلال قضية بل من خلال الإنسان ذاته، فالإنسان عند الماغوط يتجاوز القضية فهو أشمل وأكثر اتساعاً وأعمق دلالات، سعة لانهائية من الدلالات والرموز والتحولات، الإنسان يتناسب مع مشروع ذاته، الإنسان في مفهومه الشعبي هو محتوى رهانات شعر الماغوط بل هو رهانات المشروع الذاتي للماغوط، وبذا يصبح شعره وسيطاً بينه وبين الواقع ويصبح الإنسان داخله استعارة لمضمون الآخر بحمولاته في قائمة المشترك ومضمون القضية بديلاً إحلالياً.، في قصيدة أرق الغيوم يقول) كنت مزارعا ولا حقول لي/ عاملا ولا مصانع لي/ رياضيا ولا فريق لي/ مطربا ولا جمهور لي/ فعرفت بعد كثير من الدراسات والأرقام والإحصائيات والاستشارات والانطباعات إنني عبد وعلي تحطيم سلاسلي/ وبعد خمسين سنة من الأرقام والإحصائيات والشروح والمطولات والمناقشات والمراجعات والمداولات والتوصيات والهتافات/ صرت اتباهى بها.... /تلك الغيوم كانت بلادي/ وتلك الطيور في سمائي.../ وكل ذلك التصميم في ملامحي.../ وكل تلك الآفاق أمامي/ وكل تلك البطولات في ذاكرتي.../ وكل ذلك الحداء في حنجرتي/ وكل تلك الملاحم في دفاتري/ كل ذلك رأيته/ وانا أبيع ما تبقى من أصابعي/ لأحد السياح/ من تجار الآثار والعاديات)، إنه يتكأ على جراح الإنسان/ الطبقة الشعبية المتخبطة في المتاهة، فالبؤس حالة تظل مثل اللون الرمادي حائرة ما بين الغامق والفاتح وكلاهما دلالة حدّية، لا تتناسب مع الغريزة السرية للماغوط العبثية والتمرد والسخرية، والضعف كأحد مرتدات البؤس يجعل فعل الشر قابلاً للممكن/قابلاً للتضاد، وما بين منطقة الإمكانية والواقع يتحرك شعر الماغوط وهي المنطقة الأنسب للتمرد والسخرية والعبث، وموافقة التجربة الإنسانية في شعر الماغوط لإحياء جلد الذات كمصدر من مصادر لذة التطهير وعقاب الأنا في ماديتها وروحها، وهنا يظهر التيموس بمراتبه الثلاث الرغبة والصراع والخيال المتعالي، يقول في ديوانه الأخير (إن سعة الخيال تمزق أعصابي/ ولم تعد عندي حدود واضحة أو آمنة بين المجد والعار/ والأمل واليأس/ والفرح والحزن/ والربيع والخريف/ والصيف والشتاء/ والمذكر والمؤنث/ وها أنا أضع أجمل وآخر قصائدي في أذني/ وإصبعي على الزناد/ وأنا واثق بأن حلقات من الدخان ستتصاعد كأنها رصاصة حقيقية..). إن التجربة الإنسانية لأدب الماغوط تقوم على مستويين مستوى خاص/تأسيسي ومستوى عام (تغذية راجعة) فالفقر والسجن والتشرد والاضطهاد والألم والحزن، مناطق وسطى بين الإمكانية والواقع، والتي شكلت ملامح الماغوط الإنسانية في مطلع تكوين شخصيته، لاشك أن تلك الأشياء مصدرة صوت التجربة الإنسانية والأدبية للماغوط، وخصوصاً السجن الذي ظلّ أهم مصدر إغنائي لتجربة الماغوط الأدبية، ولعلي أستطيع أن أقول إن الماغوط استطاع أن يُحرّفنّ الأثر الرجعي للسجن كمصدر من مصادر صوت تجربته الأدبية بما فيها (الحزن) ليشكل من خلاله خلفيات تتناسب مع اتجاهه العبثي وفلسفة الواقع الذي انتهجها في أدبه شعراً ونثراً، وهنا يخرج الحزن عنده من الوعي المفرد إلى مساحة (الحزن المتناهي) (الحزن الذي يتغذى من كل التجارب البدائية التي تسجل السلب، فقدان، خسارة، خشية، وهكذا تصبح تجربة التناهي هذه كجذر من جذور السلب) -بول ريكور/بتصرف - (أضحك في الظلام/ أبكي في الظلام/ أكتبُ في الظلام / حتى لم أعدْ أميّز قلمي من أصابعي/ كلما قُرعَ بابٌ أو تحرَّكتْ ستاره/ سترتُ أوراقي بيدي/ كبغيّ ساعةَ المداهمة/ من أورثني هذا الهلع/) (هذا القلم سيقودني إلى حتفي/ لم يترك سجناً إلا وقادني إليه/ ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه) إن مضمون السجن الحاضر في شعر الماغوط مع غياب لفظه، يعني أنه يرحل المعنى من التجربة الخاصة إلى التجربة العامة بمعاونة التغذية الراجعة للحالات المتشابهة التي تتقابل مع التجربة غير السارة من خلال السجن، كما أنه في فلسفته الواقعية يجرد السجن من مفهومه الثوري الذي أُعتمد عند شعراء جيله، إضافة إلى الجو السائد في زمانه ومكانه الذي كان مغذياً لتلك التجربة ومنمياً لسماكة جذورها، وفي ذات الوقت استفاد من تطابق تجربته مع التغذية الراجعة في منهجه الفلسفي الواقعي الذي طبقه على شعره، حتى أصبح السجن أخيراً مختلف الوجوه عنده، فكل حزن وتألم وبؤس وحتى الموت في المفهوم المعادل للنهاية، كل تلك الأشياء هي قناعات تختبئ داخل غرفة السجن. يقول في قصيدة شتاء ضائع (منذ بدءِ الخليقةِ وأنا عاطلٌ عن العمل/ أدخِنُ كثيراً/ واشتهي أقربَ النساء إليّ/ ولكم طردوني من حاراتٍ كثيرة/ أنا وأشعاري وقمصاني الفاقعة اللون/ فأنا رجلٌ طويلُ القامة/ وفي خطواتي المفعمةِ بالبؤس والشاعرية/ تكمن أجيالٌ ساقطةٌ بلهاء/ مكتنزةٌ بالنعاسِ والخيبة والتوتر) هذه النفس الغضبية، الغضب كتعقيد شهواني يبدأ بالحب ثم الرغبة وتنتهي باللذة، والحب والكره وجهان لتلك النفس (الكراهية أصعب من المحبّة. هذه أمثولتي الشخصية) كما يقول، لأن الكره قصدّنة للتألم والحزن وإطالة (للدورة المتناهية) للنفس الغضبية وهكذا فالشعر عند الماغوط يلتقي بالوجود/ الوجود كوضع معطى مشكلان رؤية متساوية المقاييس، في واقعها المعيوش الذي يمثله الحالة الاجتماعية/ نفسية الشاعر، (دع جمع الحطب والمعلومات عني/ وتعال لملم حطامي من الشوارع/ قبل أن تطمرني الريح/ أو يبعثرني الكنّاسون) (سامحيني.. أنا فقيرٌ وظمآن/ أنا إنسان تبغٍ وشوارع وأسمال) ويبرز لنا لفظ آخر يهيمن على شعر الماغوط وهو لفظ (الشارع) فهو البديل المعادل لحرية العبثيين، وهنا تنجلي العلاقة بين الانفتاح والانغلاق، لذا الحرية لا تعني عند الماغوط وجوب الثورة، ولا تعني وجوب التغيير، بل يعني الانفتاح عند الماغوط اللّذة عبر تحرر الذات عبر الشعر (فالكمال نفسه للذة هو الذي يجعلنا نتعلق بالحياة) كما يذهب أرسطو.
والحلم جزء من كمال اللذة يقول في بدوي أحمر (سأدخن همومي وجراحي/ رأسي ممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات/ ولم يعد فيه مكان لحلم جديد/ لقد قضيت حياتي وأنا أنتظر/ حلول الليل/ طلوع الفجر/ الحب/ تغريد الطيور/ شروق الشمس/ الإبداع/ الإلهام/ الهبوط/ الإقلاع/ أقسى ما في الوجود/أن لا يكون هناك ما تنتظره/ أو تتذكره/ أو تحلم به!!) إنه الحلم بالممكنات، هذا ما يميز قيمة الشعر عنده، الشعر الذي لا يقبل الفناء، وهو ما يفرق بينه وبين شعراء جيله، الذين أضاعوا هوية الشعر كحياة ركضوا خلف النظريات لم ينظّر عبر شعره ولم يتبنَ منهجاً فلسفياً لتأويل الحياة، فهو ليس بشاعر (فكر) بل شاعر (صورة) كما اعترف في لقائه الأخير مع عبده زان. كل منا يملك داخله غريزة سرية هي من تنسّق علاقاته مع الأشياء، أقول تنسّق وليس تكون، وكانت السخرية إحدى منسقات علاقات الماغوط بالأشياء، فهي أقصد السخرية تظهر لك الحياة بالمعكوس من الأسفل إلى الأعلى، وعندما تتأمل صور الأشياء وفق هذا التخريط للترتيب، فأنت كون واحد من اثنين إما حكيم من الدرجة الأولى أو غبي من الدرجة الأولى وحينها يتساويان في المثل الشهير (خذوا الحكمة من أفواه المجانين)، السخرية في حدّ ذاتها هي عقيدة عند الماغوط لأنه يكفر بالأشياء عن طريقها ويهتك أعراض العقائد عن طريقها، ويمارس فحشه وصعلكته وتمرده عن طريقها وهي فوق ذلك حصانة له ضدّ إقامة الحدود، في حدود الماغوط أراد أن يسخرن الواقع أن يسخرنّ جودة قيمة القضية التي أضاع العرب عليها أموالهم وخمورهم وحبرهم وشعاراتهم، ليستحيل الوجود إلى أمنية تتناسب مع معطى لذة السخرية.. لكن على الرغم من كثافة السخرية في اللغة الأدبية للماغوط يظل جوهر الجدية سكيناً حاداً ينسل من بين ثياب ذلك المهرج ليقطع عروق الجروح الفاسدة، (أن الحياة بقدر ماهي ساخرة هي جادة. وعلى كل حالٍ لكل إنسان قدره) كما يقول، أما لغة الماغوط الأدبية شعراً ونثراً فهي تشبه المرايا شفاف تكشف عورات المعنى بسيطة وهادئة وبعيدة عن صخب لغة الحداثيين وكفّار اللغة التقليدية وفسوق لغة قصيدة النثر مع أن معانيها عادة ما تتسكع في الحانات ووسط الكؤوس والبغايا، وأحسب أن الماغوط بهكذا لغة كان يمارس اضطهاداً ضد اللغة لا لكونها مؤنثاً بل لكونها تمثل أقدم سلطة مهيمنة على المواطن العربي مثلها مثل الساسة الطغاة وتمرده على فصحنّة تلك السلطة عبر الشعبي كان يعني هزّ إحدى فرضيات الثبات العروبي (ما الفائدة من الاسم إذا كان صحيحاً/ والوطن نفسه معتلاً..؟ ثم لماذا وجدت اللغة أصلاً في تاريخ أي أمة؟/ أليس من أجل الحوار؟ والتفاهم بين أفرادها وجماعاتها/ فأين مثل هذا الحوار الآن فيما بيننا/... فقبل احترام اللغة يجب احترام الإنسان الذي ينطق بها) ولا شك أن الماغوط سيظل مدرسة وشعره سيظل ممزوجاً بالتراب لتتذكره الأشجار لأنها أوفى عهداً من الإنسان.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved