الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th July,2006 العدد : 162

الأثنين 21 ,جمادى الثانية 1427

مساقات .. د. عبد الله الفَيْفي
(الحزام) وإشكالية الجنس الأدبي

- 1 -
أشرنا في المساق السابق إلى أن مرض حزام، في نص (الحزام) لأحمد أبي دهمان، يعبّر عن اعتلال آخر خيوط الذاكرة، وحامل ضمير القرية. فحزام هي تلك الشخصية التي صارت عنوان العمل، ومن ثمَّ فليست بشخصية سرديّة، بل هي معنى شعري، يعني الأصل، والقرية، والأصالة، والذاكرة، والتراث.
ولذلك فإن مشهد رعاية رجال القرية لحزام وحراستهم إيّاه هو تعبير عن رعاية الماضي وحراسة تراثه من تأثير الحاضر وتحوّلاته.
على حين لم يكن يقرّ حزامٌ بمرضه، وهو الرجل الذي لا يعترف إلا بالموت مرضاً، فهو لا يرى ادعاءهم مرضه إلا محاولة لإيهامه. إنهم يحاولون التخلّص منه- بكل ما يعنيه- بتمريضه إرهاصًا لموته أو قتله.
وحينما يطلب منه السارد المجيء إلى باريس، احتفاءً بعرس الشرق والغرب، والتقاءً لتراث القرية الذكوري بغضارة الغرب الأنوثي، في إغراء لحزام بالتغريب والمكاشفة، يعتذر حزام:
(لا تأتِ لاصطحابي، ولكن أرسل لي كتابك، فربّما يقرأه الأحفاد. أمّا أنا فقد أوصيتُ لك بحزامي وخنجري. استلمتُ الوصية الثمينة، وعلّقتُها إلى جانب صورة أبي.) (ص160).
إنه طلبٌ من حزام لمخرجٍ توفيقيّ، يفيد من تحوّلات الرؤية مستقبلاً في حين يبقَى الثابت من الهويّة، سلاحًا لا ينبغي للبطل أن يتنصّل عنه.
ويُعدّ قبول البطل بالوصيّة، بتبعاتها، قبولاً بتلك الرؤية التوفيقيّة، بيد أن تَرِكَة حزام تظلّ معلّقةً إلى جانب صورة الماضي؛ فلم يكن ليلبس الحزام والخنجر في باريس، وإنما سيحتفظ بهما كذكرى ثمينة.
ومن خلال هذا النصّ يتبدّى كيف أن الكاتب، إذ لا تسعفه اللغة الروائية بما يودّ الإفضاء به، يلجأ إلى استيظاف لغة الشِّعْر. تلك اللغة التي لم تعد في النصّ مجرد أسلوب كتابيّ، وإنما صارت في ذاتها شخصية سرديّة ومشهدًا حدثيًّا.
- 2 -
إن البحث في شأن الجنس الأدبي لا يزال في النقد العربي جديدًا، ذلك النقد المنشغل إلى وقت قريب بقسمة حدّية للأدب إلى: شعر ونثر، دون النظر في التوالج بين الدائرتين، أو بين عناصر كل دائرة. هذا إضافة إلى ذلك التعليل العام الدارج من (أن التعرّف على الأجناس الأدبية وتحديدها أكثر صعوبة من الفنون الأخرى أو من الأجناس الخطابية غير الأدبية.)(1)
ولا يمكن القطع بتصنيف واحد ثابت وتعريف محدّد لا يتغير للجنس الأدبي، فالجنس الأدبي كائن حيّ، لا ينمو فحسب، ولكنه أيضًا يتغيّر من طور إلى طور، ذلك أن الأجناس الأدبية- حسب كليتون كولب (2) - (مؤسسات، يجب التخلي عن فكرة تعريفها، إلا بصورة جزئية وضمن سياقات خاصة).
وتبعًا لذلك، فإن أسماء الأجناس الأدبية نفسها يجب أن لا تكون نهائية ولا ثابتة. فليس مصطلح (رواية)، الذي عبّر عن نوع سرديّ من النصوص في حقبة ما، صالحاً لاستيعاب دلالة التطوّرات في ذلك النوع، والتحوّلات التي مرّ بها - فضلاً عن تلاقحه وتوالجه مع غيره من الأنواع - في حقب أخرى، ممّا أدّى إلى انزياح معاييره السالفة أو انتقالها عمّا كانت عليه. بل لقد كان هناك التفات منذ وقت مبكر- لدى ديوميد (نهاية القرن الرابع) مثلاً - إلى ما يسمى: (الجنس المختلط) (3).
ولقد أشار جان إيف تادييه J ean Tadi?e إلى ما أسماه ب(الرواية الشعرية)، معرباً عن أنه يمثل كسراً في قواعد الخطاب الروائي، وذلك حينما (تتحول الرواية إلى شكل شعري بكل ما يميزه هذا الشكل من (تناسق) و(خفوت) (4). لكن ما تحدث عنه تادييه إنما يمثل صراعاً (بين الوظيفة المرجعية ذات الدور الإيحائي والتمثيلي، والوظيفة الشعرية التي تشد الانتباه إلى الشكل ذاته للخطاب) (5). بحيث يغلب أحد الطرفين - الروائيّ أو الشعريّ - الآخر، ومن ثم تفتح (الرواية الشعرية) (في غنائها العميق الأساطير لمتعة الحواس، وتفتح الإحساس لفرحة الأساطير)(6). أي أن ما سماه تادييه (رواية شعرية) تظل رواية كاملة الهوية، ولكنها توظّف الشعرية لأغراض روائية. فهي (رواية كلّية، لا تتابع التفاصيل، وإنما وظيفتها رصد الحالة)(7). ولعل خير نماذجها في السياق العربي (رامة والتنين) للخراط.
ويأتي هذا الشكل الكتابي نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبية، حيث بات الشعر يتقمّص النثر، منذ تي. إس. إليوت T.S. Eliot، أو إي كامنجز Ee Cummings، كما يتقمّص النثر الشعر، كما هو الحال عند وولف Woolf، أو جويس Joyce، أو نيكوس كازانتزاكي Nikos Kazantzaky(8). والروايات اليوم- كما يشير الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث)(9)- تنزع عمومًا إلى التحوّل أكثر فأكثر إلى تشكيلات لفظية، غير كثيرة الاختلاف عن بنى الشعر، كما تستعيد القصيدة لدى بعض الشعراء النَّفَس الملحميّ، فتقترب من الرواية.
إلا أن قصارى ما يعنيه هذا هو اختلاط الشعر بالنثر في ضرب من تقنيات الخطاب الروائي الحديث. وذا ك غاية ما يدل عليه مصطلح (الرواية الشعرية) لدى (تادييه). أي أن مصطلح (الرواية الشعرية) ما هو إلا محاولة لفرز هذه الرواية المتمتعة بمسحة شعرية عن الرواية النثرية الاعتيادية، فهو نظير تسميات أخرى، ك(الرواية البوليسية) أو (الرواية الغرائبية) أو (رواية المغامرات)، ونحوها. أما ما هي بصدده هذه المقاربات التي نجريها في الرواية السعودية حول ما ندعوه ب(القصيدة - الرواية) فيتجاوز فضفاضية هذا الاصطلاح وأريحية ذاك المفهوم، الدائر في فلك الرواية، بوصفها جنساً أدبيّا.
وفي المساق المقبل نستكمل الحديث، بإذن الله.


aalfaify@hotmail.com


***
إحالات
1) شيفير، جان ماري، ما الجنس الأدبي؟، ترجمة: غسّان السيّد، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، د.ت.)، 13
2) (1975)، (مشكلة التراجيديا كجنس)، جنس، المجلد الثامن،221. عن: شيفير، 21
3) يُنظر: جينيت، جيرار، (1977)، مقدمة للنصوص العظيمة، (الذي أعيد طرحه (1986) في العمل الجماعي: (نظرية الأجناس)، طبعة سوي، سلسلة (بوان)، 109. عن: شيفير، 25
4) Tadie, Jean Yves, (1978), Le r6ecit po?etique, (Paris: P.U.F), 11.
يُنظر: بوعلي، عبد الرحمن، (1996)، المغامرة الروائية، (وجدة- المغرب: جامعة محمد الأول)، 248.
5) م.ن.
6) م.ن، 249
7) م.ن.
8) يُنظر: كلاجز، ماري، ما بعد- الحداثة، ترجمة: عثمان الجبالي المثلوثي، ص1، على شبكة الإنترنت: موقع مجلة (فضاءات)، ع16: ttp:// www.fadaat.com/a16/d4.htm
9) تُنظر: جريدة (عكاظ)، الاثنين 28 جمادى الأولى 1424هـ - 28 يوليو 2003م.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved