الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th July,2006 العدد : 162

الأثنين 21 ,جمادى الثانية 1427

التقويض الفرويدي (7)
سعد البازعي

تقويض الآخر:
من السمات العامة التي يمكن للباحث ملاحظتها لدى الجماعات اليهودية سمة الانتماء الفئوي التي تركت أثرها العميق على مفهوم الهوية لدى تلك الجماعات. والشواهد كثيرة على أن ذلك الانتماء لدى تلك الجماعات في أوروبا صاحبه شعور بالاختلاف والتميز على الآخرين، ثم النزوع تبعاً لذلك إلى اتخاذ موقف تقويضي فيما أنتجه مفكرو تلك الجماعات من خلال مواقف شديدة التطرف تجاه الثقافة السائدة، ثقافة الأكثرية المسيحية. ذلك ما يتبين من تتبع نتاج مفكرين يمتدون من سبينوزا في القرن السابع عشر حتى العصر الحديث، حيث تبرز تلك السمات على هيئات أو تمظهرات متباينة.
الباحث الأمريكي كيفن مكدونالد أحد أكثر الباحثين المعاصرين اهتماماً بهذا الجانب لدى اليهود تحديداً، وله عدد من الدراسات الموسعة والمترابطة لهذا الجانب ربما كان أبرزها كتابه (ثقافة النقد: تحليل تطوري للدور اليهودي في الحركات الفكرية والسياسية في القرن العشرين). ومدار تلك الكتب أطروحة ملخصها أن اليهود يشكلون أقليات لعبت دوراً سلبياً إزاء الحضارة الغربية من حيث هي أقليات تعمل لمصالحها الخاصة وعلى نحو يتسم بالتكاتف والتنظيم. ويتضح عمل تلك الأقليات، حسب مكدونالد، من خلال الحركات المختلفة ذات الطابع الفكري أو العلمي التي يحركها أفراد شديدو الانتماء ليهوديتهم. وكان من أبرز ما نتج عن تلك الحركات أنها أخضعت ثقافة الشعوب غير اليهودية في الغرب لنقد حادٍ وعلى نحو يسمح باستمرار الانتماء اليهودي بين ظهراني تلك المجتمعات. وقد استطاعت تلك الحركات، مثل الماركسية وحركة التحليل النفسي، ومدرسة فرانكفورت، حسب مكدونالد، أن تعمل مجتمعة على (طرح أسئلة أساسية تتعلق بما قامت عليه المجتمعات الغربية من دعائم أخلاقية وسياسية واقتصادية) MacDonald, The Culture of Critique (1998). وإذا كانت هذه الحركات والأيديولوجيات لا دينية في تكوينها وتوجهاتها، فإن الدين اليهودي نفسه ليس مختلفاً عنها، على الرغم من كونه ديناً، بل إنه يسير في نفس المضمار بعد أن تحول على يد اليهود الغربيين، كما يرى مكدونالد في كتاب آخر، إلى أداة تخدم توجهات الجماعات اليهودية:... لابد أن ينظر إلى اليهودية بوصفها إستراتيجية جماعية تتسم بالفصل الثقافي والتكويني عن مجتمعات الأغيار مضافاً إلى تنافس على المصادر وصراعات حول المصالح ما بينها وبين مجتمعات الأغيار تلك. ومن الطبيعي أن ينتج ذلك عن (انقسام وكراهية داخل المجتمع "الواحد").
الكراهية التي أفرزتها العلاقة المشار إليها، والتي عرفت في الغرب، من الزاوية اليهودية، بمعاداة السامية، تعود في تحليل مكدونالد إلى موقف اليهود أنفسهم من المجتمعات الغربية وهو موقف اتسم غالباً بالتوتر وعدم الارتياح أحياناً، أو العداء السافر والمواجهة أحياناً أخرى، نتيجة لموقف قومي يهودي تجاه الأغيار، وليس فقط، كما يقال، بسبب كراهية متأصلة لليهود أو غيرة من نجاحهم، أي أن معاداة السامية هي أيضاً ردة فعل لفعلٍ يهودي معادٍ وسابق.
ويستشهد مكدونالد لدعم رأيه هذا بما يقوله عدد من الشخصيات اليهودية في المجال الثقافي منهم المؤرخ اليهودي جاكوب كاتز في كتابه (الانعتاق اليهودي والانعتاق الذاتي) مكدونالد، السابق، ص151، حيث يرى كاتز الرأي نفسه فيما يتعلق بموقف اليهود وأسباب تطور ذلك العداء من جانبهم ومن الجانب المقابل. ويورد مكدونالد في تفسيره لظاهرة العداء المشار إليها أسباباً تعود إلى التغير المفاجئ الذي طرأ على وضع اليهود في مرحلة ما بعد التنوير، حيث مكنهم ذلك من الصعود في السلم الاجتماعي والاقتصادي، ما استدعى ردة فعل مقابلة جعلت المجتمعات المسيحية في أوروبا تحاول الحد من ذلك الصعود، فكان من الطبيعي والحال كذلك أن تنشأ أسباب عملية من المصلحة الذاتية على المستويين الاقتصادي والسياسي تجعل اليهود ينجذبون إلى الحركات التي تنتقد مراكز القوى لدى الأغيار بل وتدعو إلى هدمها بالكلية (ثقافة النقد)، 10.
ذلك الهدم هو ما لا حظه أكثر من مفكر وباحث في الحضور الثقافي اليهودي في الثقافة الغربية، كما نجد لدى جورج شتاينر، وهو ناقد يهودي بارز سبقت الإشارة إليه، حين يجمل العلاقة بين عدد من مبدعي أوروبا ومفكريها من ذوي الانتماء اليهودي بأنها علاقة تنزع إلى عدم الاكتراث بالقداسة وإلى الممارسات الهدامة (أنظر: اللغة والصمت، كتاب باللغة الإنجليزية، ص146). المثقفون اليهود، سواء كانوا مفكرين أو مبدعين، لم يكونوا بالطبع يرون المسألة من زاوية سلبية، وهم إن تحدثوا عن هدم فإنه الهدم الذي يسعى إلى البناء أو الحق أو العدالة، أي هدم الظلم المتمثل بالعداء أو عدم المساواة المحيطة بهم، أي أنه الهدم الذي يسعى إليه كل معترض أو خارج على نظام أو هيمنة.
ويصل الأمر هنا إلى أن الشعور اليهودي بالاختلاف والتفوق جعلهم ينظرون إلى نشاط هم كجماعات أو مجموعات بوصفه نشاطاً تخليصياً للبشرية - امتداداً لدور اليهود بوصفهم (الشعب المختار). لكن اختلاف التفسير والهدف لا يلغي طبيعة العمل، فالنشاط يظل هدماً أو نقداً هادماً لمؤسسات لا تتفق مع توجهات أقلوية وطموحات فردية تشعر بأنها تعيش وضعاً مغايراً لوضع الأكثرية المحيطة وتوظف من ثم أسلحتها، سواء كانت إبداعية أو علمية أو غير ذلك، لخدمة أهدافها.
في هذا السياق يتوقف أحد الباحثين، وهو دينيس كلاين، عند (الأصول اليهودية لحركة التحليل النفسي) ويلاحظ أنه شاع بين المنتمين لتلك الحركة شعور بتفوق اليهود وحملهم رسالة تخليصية للبشرية ضد القوى المهيمنة في الحضارة، وقدرتهم، من خلال حركات فكرية تقوم على منطلقات وأدوات معرفية مثل التحليل النفسي، على إدراك ما أصاب البناء التقليدي من القيم.
يقول فكتور توسك، وهو أحد الذين نشطوا مع فرويد في التحليل النفسي، أن مستقبل تلك الحركة وأدواتها المعرفية يعتمد على اليهود مبرراً ذلك بتصوير مجازي يميز بين نوعين من السكان والأبنية: (إن من المعقول أن نكون نحن -أي اليهود- في قصورنا القديمة المهملة، وجدراننا المتداعية، نستطيع أن نرى البناء الداخلي وتكون لدينا رؤى نافذة لا تتيسر للمقيمين في منازل جميلة جديدة بواجهات لامعة). ذلك الاختلاف بين اليهود والأغيار رآه فرويد من زاوية أخرى هي الزاوية التي اتسمت بها أطروحاته ككل ومنها التحليل النفسي الذي (يتطلب)، في تقديره، (قدراً من الاستعداد لتقبل وضع من المعارضة المعزولة - وضع لا يألفه أحد كما يألفه اليهودي).
وضع المعارضة المعزول هو بالطبع ما واجهه فرويد نفسه حين بدأ يطرح آراءه المختلفة حول الدور الأساسي للغريزة الجنسية في تشكيل البناء النفسي للإنسان بنوازعه وتفكيره وسلوكه، وحين هاجم المعتقدات الدينية بوصفها (وهماً)، كما في كتابه (مستقبل وهم)، وحين دعا إلى التخلص مما تفرضه الثقافة أو المجتمع من كبت ورقابة تؤديان إلى مختلف أشكال العصاب أو الأمراض النفسية وتحولان دون فهم ظواهر نفسية إنسانية طبيعية مثل الأحلام والرغبات الغريزية. لكن تلك الطروحات الثورية، بما تتضمنه من حفر يتغيا فهماً أفضل لسلوكيات الأفراد والجماعات وما تقوم عليه الثقافات، تستدعي بدورها، أو في المقابل، تساؤلاً عن دوافع تلك الطروحات في إطار الفرضية الأساسية القائلة أن المعرفة منحازة بطبيعتها إلى ما يحيط بنشأتها واستمرارها من ظروف. وقد رأينا فيما سبق من ملاحظات عدداً من تلك الدوافع التي تعود في مجملها إلى الانتماء الفئوي من ناحية وإلى طبيعة المكون اليهودي بشكل عام. وقد بقي أن ننظر في ختام هذه المناقشة إلى مسألة أخرى تتصل بموقف فرويد من الدين بشكل عام والدين اليهودي بشكل خاص.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved