الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

مفكرة
(بني بجم)
ماجد الحجيلان

قلما تثير مجموعة قصصية جديدة الانتباه فضلاً عن أن تخلق جدلاً واسعاً حولها مثلما تفعل رواية أو دراسة أو حتى ديوان شعر، والاستثناءات هنا قليلة، فرواية مثل المتهمة بنوبل (أولاد حارتنا) مروراً بوليمة حيدر حيدر وانتهاء بالحدث السعودي الأخير (بنات الرياض) يمكن لها جميعاً أن تحظى بضوء وقراءات وخلافات، وكذا دواوين الشعر يجري الغضب عليها ولعنها فتدخل في السياق ذاته من التناول والتداول، لم يتم هذا مع نزار ومطر ومظفر فقط ولن ينتهي بالأثير موسى حوامدة وشجرة العلوي.
لكن ما بال القصص؟ ولماذا يخرج الجميع عليها ويعلنون براءتهم منها؟ إن هذا الضرب من الكتابة الإبداعية يقبض عليه الآن في السعودية قليلون وقليلات كما يقبضون على الجمر، وكان جمهور كتبة وقراء القصص من النساء وكن من الكثرة بحيث لا تجد كاتبة أو اعلامية أو صحافية إلا وجربت القصة أو كانت مدخلها إلى عالم الثقافة والصحافة، وكأنما كانت القصة القصيرة والحكي جواز مرور أو بطاقة شخصية نسائية مباحة، هناك الآن نوع من الطلاق البائن مع القصة حيث تجري مغادرتها إلى الرواية أو التبرؤ منها باعتبارها فناً ضعيفاً وركيكاً، هذه الحقيقة وللنقاد أن يعالجوا الأسباب، فالقصص النادرة التي ما تزال تنشر لا يمكن أخذها بجدية كبيرة كرهان أو مشروع ناجز، بل هي تجارب لها ما بعدها، أو محاولات ستستوي شيئاً آخر عما قريب.
وإذ لا ينفك القاصون والقاصات هنا عن الانطلاق نحو المقالة والرواية والصحافة، تصدر مجموعات عربية لافتة وتتقدم القصة القصيرة عربياً على نحو ُيفتقد هنا تماماً، فالقصص التي كانت حتى عهد قريب تنشرها أسماء جيدة لرجال ونساء كانت إما تقليدية مدرسية بائسة أو حداثية تجريبية ملغزة بما يفقدها التواصل وينزع عنها ما يمكن وصفه بشرعية القصة وهي أن تكون مقروءة ومفهومة، فالشعر له نخبته والرواية لها خباياها، والقصة الغامضة لا يعفيها أحد من الازدراء.
ومن النماذج اللافتة أخيراً (بني بجم) مجموعة قصص قصيرة (أحياناً) للكاتب والسينارست المصري بلال فضل، ولمن يتابع السينما المصرية فهو مؤلف عدد من الأفلام الهابطة والتجارية مثل (خالتي فرنسا- وحرامية في كي جي تو- والباشا تلميذ..) ويرد فضل على الذين يصفون أدبه وكتابته الصحافية بالواقعية والجمال بينما يصمون سينماه بالهبوط، عبر شباك التذاكر والمبالغ الجيدة التي تحققها أفلامه، وهو يعد أسلوبه مميزاً لأنه يعتمد ما يسميه (الهطل) و(التريقة) ويحولها إلى أدب رفيع مقروء من كل الشرائح المثقفة والشعبية، وإذ يعترف له قراء كثيرون بالجاذبية والمقروئية فإنهم يطالبونه أن (يبطل الهباب اللي بيعمله في السينما) ويركز في الكتابة.
لجأ بلال فضل إلى السينما وكتابة نصوصها بعد أن جرب العمل في عشرات الصحف والمجلات وطرد من معظمها، رغم تألقه كسكرتير لتحرير (الدستور) مع إبراهيم عيسى، ولم يبلغ (الحادية والعشرين) قبل إيقاف الصحيفة عام 98م وكان أن حل أزمة بطالته بالسينما حسب تعبير (أسامة أنور عكاشة) الذي يحتفي به ويقدمه في مقالة بالوفد على أنه تلميذه الذي يمكن الرهان عليه، وأنه سيخلف محمود السعدني وأحمد رجب في الكتابة التشريحية الاجتماعية الساخرة.
ما يميز كتابة فضل هو الجرأة في السخرية من كل شيء تقريباً، وتسجيل كل التفاصيل الممكنة واليوميات بلغتها المباشرة وتحويل ذلك كله إلى نص قصصي مشوق وقابل للتصديق ويسهل التعاطف معه، باستخدام المحكية البسيطة جداً يمكن أن يجعل القارئ (يفقد الرغبة في النوم) أو (يموت من الضحك) حسب تعبير قارئ من البلوغرز، كل عنوان في المجموعة يجري شرحه بحكمة أو أغنية أو مثل عامي أو تعبير شعبي، نكتة حاضرة ومتجددة، وواقع بائس جداً لكنه بكاء كالضحك أو ضحك كالبكاء.
يكتب فضل عن طبقة الكادحين أو المطحونين في مصر وحتى حينما يكتب عن أحلام الطبقة المتوسطة فهي لا تعدو وظيفة مقبولة أو وجبة في مطعم محترم، وفي (خطبة) الكتاب التي جعلها في آخره وتردد في تسميتها (بمؤخرة) الكتاب وإنما سماها (بين رجلي الكتاب) ينعت القارئ ب(عدوي القارئ) فهو ضد الصداقة أو الاستجداء بعزيزي هذه الكلمة البغيضة، يتمنى فضل أن يمتلك جرأة وشجاعة صاحب محل كشري في القصر العيني وجد نفسه بين داري نشر علقت إحداهما لافتة (دار الاعتصام للنشر)، بينما الأخرى (دار الفكر للنشر) فقام بائع الكشري بتعليق لافتة على محله كتب عليها (دار البرنس للمكرونة) ويصفه بمنتهى الثقة بالنفس وعدم الانسحاق المكروني أمام النشر والثقافة ويشير بلال إلى سيرته تحت عنوان: (من باب الفشخرة) فيقول إنه من مواليد برج العذراء أو التي تقول عن نفسها إنها عذراء فلم يعد شيء مضموناً في هذا الزمن!
في المجموعة قصص جريئة ومحزنة وساخرة وواقعية وفريدة فللمرة الأولى يمكن قراءة قصة هامشية عن صراع بين عصفورين جائعين وثلاثة ببغاوات في قفص ذهبي وهي القصة التي أحزنت كاتباً مثل أسامة أنور عكاشة حتى البكاء، أو الجرأة التي ربما تحرج محمد هاشم صاحب دار (ميريت) في قصة (ليلة اغتصاب مادلين أولبرايت) وهذا الخيال الجامح، أو الرسالة الطريفة الحزينة التي تلخص أحلام شاب فقير والموجهة إلى (جوليا روبرتس) فهو صحفي شاب يشكو لها من أنه (ضبط) رئيس تحريره التقدمي مع صحفية شابة قال إنه يعلمها (التحرير) فإذا به يدربها على تحرير النصف الأسفل من جسدها، ويشير إلى الاكتئاب الأميركاني الجميل - بيرة وموسيقى حزينة وإجازة في الريف - و(عندنا) نبكي بالقرب من كوبري عباس ونشرب.. ويواصل رسالته إلى جوليا فيقول لها: أنت لست مقسومة أبداً لرجل واحد بل العدل أن تتقلبي بين أحضان رجال الأرض جميعاً لينال كل منهم حظه من السعادة الحقيقية، وبعد أن ينتهي من الإعراب عن الولع بها يطلب منها إيميل (ميغ رايان)!
هذه المجموعة بلغتها اليومية وعفويتها أقرب للنفس كثيراً من معظم القصص والروايات التي تراهن على اللغة وحدها، وعلى التفنن في الوصف والجرأة على التابوهات، في الحياة اليومية ما يمكن لقاص متيقن ذي عين بصيرة أن يحوله إلى نص مضحك مبك فريد وحديث، والمجموعة والجدل الدائر حولها وحول كاتبها الآن وأجواؤها وشخصياتها تذكر برواية علاء الأسواني ذائعة الصيت (عمارة يعقوبيان) ففيهما الأسرار ذاتها والإغواء ذاته، رغم تواضع اللغة والأخطاء الكثيرة في الإملاء والنحو والتركيب، فللقص هنا وللسرد في هذين العملين ما يحملهما فوق أذى النقد إلى قلب القارئ، ولا يمكن التنبؤ متى وكيف ستكتب قصص أو روايات في هذه البلاد كما يكتبها علاء وبلال الذي يصفه عكاشة أنه بالإضافة إلى نجاحاته السينمائية فهو فتى أوتي بسطة في الموهبة وبسطة في الجسد!


hujailan@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved