الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

الصورة الشعرية عند عبدالله الجشي«2-2»
د. عبدالرحمن السماعيل

نقف عند قصيدة بعنوان (الربيع) وهي قصيدة يحتفي فيها الشاعر بقدوم الربيع وتجليه مشرقاً على الأرض وتأثير ذلك على النفس. والقارئ المطلع لا بد أن يستحضر، عند قراءة تلك القصيدة، قصائد شعراء الطبيعة في الشعر العربي أمثال الصنوبري وصفي الدين الحلي، لنقرأ قوله:
هذا الربيع أتى فاستجل فتنته
فإنما هو آمال وأوطار
فباكر الروضة المئناف منتشقا
فالروضة البكر أنسام وأعطار
أضفى الربيع عليها من مفاتنه
سحرا وغنت بها للروض أطيار
فهذه صورة متكاملة عن الربيع وفتنته وكأنما الروضة الجميلة التي زينها الربيع وأضفى عليها فتنته فتاة بكر تعبق ثناياها بالعطور، وتفيض فتنتها بالوعود والآمال، وهي صورة ألفناها في قصائد الوصف في الشعر العربي وبخاصة حين نجد الشاعر يصف روضة أنفا ويشبهها بالمرأة البكر التي لم يطأها أحد من قبل، ولهذا نجد موفق الدين الإربلي يلتقط هذا المعنى ويمزج بين الروضة والمرأة في صورة جميلة قائلاً:
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم
شجرا لا يبلغ الطير ذراها
لا يراني الله أرعى روضة
سهلة الأكناف من شاء رعاها
وفي قصيدته (لؤلؤة الخليج) التي نظمها حين زار البحرين عام 1948هـ وكان في عقده الثالث آنذاك نجد الشاعر يطل على قارئه من نافذة تراثية مبدعة في لغته وتراكيبه وصوره، ومما يميز الصور الشعرية في هذه القصيدة ويجعلها صوراً تستجيب لثقافة الشاعر التراثية اعتمادها على التشبيه والمجازات الاستعارية التي اختزنتها ذاكرته من قراءاته التراثية الواسعة.
لننظر إلى قوله من هذه القصيدة التي اعتبرها بشارة بشاعر قادم بقوة:
أنت الجنان أم الربيع الباكر
أم طاف فيك من الطبيعة ساحر
فكأنما هو في سمائك ديمة
وطفاء يرفدها الخضم الهادر
وهب الحياة ثراك فهي جنائن
وكسا الجمال رباك فهي مناظر
وتأشبت فإذا السباخ خمائل
وتفتحت فإذا الرمال أزاهر
وتفجرت فإذا الصخور جداول
وتضاحكت فإذا الخرير مزاهر
وتطاولت فإذا النخيل عرائس
وتخطرت فإذا الغصون غدائر
وتزينت فإذا الثمار قلائد
وتأرجت فإذا الرياض مجامر
وتتقدم الخلفية التراثية في هذه القصيدة فنراها تلوح في قوله واصفاً أبناء البحرين الذين اشتهروا بريادة البحر وتجارة اللؤلؤ والتوابل:
أبناؤك الأبرار كل مغامر
في المجد لا وكِلٌ ولا متقاصر
نشروا الشراع على السفين وأبحروا
يطوون لجا ما لهن أواخر
بجر الحقائب بالتوابل والحلى
مسك كأنفاس الصبا وجواهر
وفي البيت الأخير نجد الشاعر يستحضر بيت النابغة الجعدي المشهور الذي يقول:
يمرون بالدهنا خفافا عيابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائب
والشاعر يلتقط هذا البيت فيجعله أبياتاً في قصيدته فاتحاً خريطة الشاعر القديم المغلقة على دارين موسعاً مداها ليجعلها تشمل المنطقة كلها.
وفي مقابل هذه الصور التراثية نجد الصورة الرومانسية التي تشبع بها خيال الشاعر من قراءاته الحديثة وبخاصة قراءاته لشعر الجيل الرومانسي المتمثل بإنتاج جماعة أبوللو وشعراء المهجر الشمالي.
وفي هذه الصورة تتسع دائرة المجازات في لغته فنرى العلاقة بين الأشياء تكتسب مظهراً آخر لم تعهده اللغة التراثية، ويبدو ذلك جلياً في عناوين القصائد، وشفافية الكلمة ونقاء الصورة.. وهذه المظاهر الرومانسية نجدها جلية واضحة في إنتاجه الشعري في الفترة التي سيطر فيها المد السيابي والملائكي وهي فترة الخمسينيات الميلادية، فقد كانت تلك الفترة تموج بتيار الرومانسية الجديدة التي أعقبت خفوت صوت شعراء أبوللو والمهجر.
فقد صعدت موجة التحديث الجديدة للقصيدة العربية برياح عراقية طغى فيها صوت قصيدة التفعيلة أو ما كان يسمى آنذاك بقصيدة الشعر الحر، ولكن شاعرنا ظل متمسكاً بشكل القصيدة العامودي الذي حافظ عليه الرعيل الأول من شعراء الرومانسية العربية، لهذا فإننا نرى في هذه الفترة التمازج في قصائد شاعرنا بين الكلاسيكية شكلاً و الرومانسية موضوعاً. وعلى الرغم من قربه الشديد إلى مصادر تلك التيارات في العراق في تلك الفترة واندماجه في مجتمعاتها واجتماعاتها إلا أننا لا نجد في إنتاجه قصيدة واحدة تدل على انسجامه مع الشكل الجديد للقصيدة العربية.. وسوف نقف مع بعض القصائد في ديوانه الذي حددنا لوقفتنا هذه وهو (الحب للأرض والإنسان) لنرى إلى أي مدى كان تأثره بالاتجاه الرومانسي وتغلغل هذا التأثر في صوره الشعرية.
سوف نقف قليلاً عند قصيدة بعنوان (مرارة الإخفاق) وهذا العنوان بحد ذاته ذو إيحاءات رومانسية، فكل كلمة فيه احتفل بها الرومانسيون في قصائدهم حين عاشوا المرارة في حياتهم التي لا تخلو من حلاوة، كما عاشوا الإخفاق إحساساً على الرغم من نجاحهم في الحب والحياة وتغنوا بذلك مستمتعين بآلامهم وأحزانهم وتشاؤمهم. ولنقرأ جزءاً من هذه القصيدة لندرك عمق الأثر الرومانسي في كلمة الشاعر وصورته:
أسكب الحب في أزاهير قلبي
غير أني أحس بالاختناق
وأذر الحنان في نظراتي
فتؤج النيران في أحداقي
كلما صفق الهوى بجناحي
خلت أني كسبت رهن السباق
كالطيور المهاجرات أريح الطرف
في غفوة من الاشتياق
فإذا ما انجلت سحائب أحلامي
وغاص الضياء في آماقي
لم أشاهد سوى فراغ الأماني
وحطام الحرمان في أعماقي
نرى هنا الصور الرومانسية جلية في (أزاهير القلب، الإحساس بالاختناق، الطيور المهاجرة، سحائب الأحلام، فراغ الأماني وحطام الحرمان في الأعماق)، وهذه الصور الرومانسية اعتدنا على رؤيتها في قصائد الرومانسيين الذين عاشوا متغنين بآلامهم، متجاهلين جمال الحياة حولهم، بسبب التشاؤم الشديد الذي يعتبر جزءاً مهماً في تشكيل الصوت الرومانسي.
قصيدة هروب
وقصيدة أخرى بعنوان (هروب) يكرر فيها الشاعر ذلك الصوت الرومانسي المتشائم من الحياة والأحياء ويتغنى بآلامه بصور رومانسية تعكس مدى تأثره بالمدرسة الرومانسية ولنقرأ قوله:
أعيش وفي نفسي مشاعر ميت
وكل حياة تنتهي بممات
فإني ميت كفنوه بشعره
فلن تسمعوا منه صدى الزفرات
إذا عاش غيري في قصائد حبه
فمالي من شعر سوى الحسرات
أضعت حياتي إذ أضعت شبيبتي
وعدت غريب الأهل والصبوات
دعوني دعوني سادرا في متاهتي
لأروي خيالاتي بحلم سباتي
فما لي مرام في الحياة أطاله
إذا كان للأحياء من رغبات
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved